الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
15 - ابن القيم ومن مدارج السالكين. القواعد 905-915 ‏
تاريخ النشر: ٢١ / شوّال / ١٤٣٣
التحميل: 3361
مرات الإستماع: 3611

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-: "الحياء خلق ناشئ عن حياة القلب، ورؤية الآلاء الغزيرة، ورؤية التقصير في حقوق ربه؛ ويثمر اجتناب المحرمات، والقيام بالواجبات، ولهذا قال ﷺ: الحياء لا يأتي إلا بخير[1].

فهذا الكلام لخصه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- من كلام لابن القيم، وكلام آخر للجنيد، فليس ذلك جميعًا من كلام ابن القيم، وهذا الذي ذكره هنا هو نوع من الحياء، وهو الحياء من الله -تبارك وتعالى-، إذ إن الحياء يكون الحياء من الله، والحياء أيضًا من الناس من الخلق، وهناك حياء مع النفس، وهناك درجات أعلى من هذا وأدق، يدخل فيها الحياء حتى من الحيوان؛ الحياء من كل ذي عينين.

وهذا له نماذج وأمثلة كالذي يأتيه كلب ويقف أمامه وينظر إليه وهو يأكل، فيستحي أن يأكل هذا الطعام وهذا الكلب ينظر إليه، فيشاطر هذا الكلب، فيقول: إني أستحي أن ينظر إليّ ذو عينين فلا أجود بما في يدي، هذا نوع من الحياء.

وأما الحياء مع النفس فهو درجة أيضًا عالية ودقيقة من درجات الحياء، فذلك بأن يحمل الإنسان نفسه على ما يجمل ويحسن فلا يتصرف تصرفات يستحي العقلاء منها، لا تليق بأهل الكمالات والمروءات وما إلى ذلك، فيستحي من نفسه، أو مع نفسه، وكذلك الحياء مع الناس، والحياء مع الله -تبارك وتعالى-.

فالحياء قال: خلق ناشئ عن حياة القلب، هذا أولاً؛ لأن القلب إذا كان متحجرًا فإن الحياء لا يجد طريقه إليه، لا ينبت في الحياء، قال: ورؤية الآلاء الغزيرة، يعني حياؤه من الله -تبارك وتعالى- حينما يوجد المحل القابل وهو القلب، ويحصل مع ذلك النظر إلى نعم الله وأفضاله على العبد مع استشعار التقصير في القيام بما يجب نحوها، فإن ذلك كما قال: ورؤية التقصير، فهذا الذي يحصل معه الحياء؛ نعم تتوالى، مقابلة بتقصير كثير في الشكر، يوجب له ذلك جميعًا الحياء.

وثمرته كما ذكر: اجتناب المحرمات والقيام بالواجبات، ولهذا قال ﷺ: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير، إذا كان الإنسان يستحي يكف عما لا يليق من أقوال اللسان، ويكف عما لا يليق من ألوان المزاولات والمقارفات، ولا يهبط في معاملاته وينسفل، فيصير مساويًا لمن لا مروءة له ولا عقل ولا دين، يستحي، لا يدخل مع أحد في مهاترة ولا مقاولة ومكالمة، أو غير ذلك ينسفل فيها، يستحي، يمنعه الحياء من هذا، فلا يصدر منه إلا الجميل من الأقوال والأفعال، هذه ثمرة الحياء.

"قال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله".

يقول: فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، يقول: فالصدق في هذه الثلاث: القول والعمل والحال.

"قال: وأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول ﷺ مع كمال الإخلاص للمرسل".

فالصدق في الأقوال معروف، وفي الأعمال يكون الصدق أيضًا؛ وذلك بأن يأتي بها على الوجه الصحيح مع القصد الصحيح؛ لأن الإنسان قد يكون في أعماله على غير الصدق، ولهذا كانت النصيحة في القول والفعل، أما الحال فلا يتكلف شيئًا ويظهر حالاً غير ما تنطوي عليه نفسه، كالمنافقين؛ فهم كذبة في أقوالهم، وكذبة في أفعالهم، وكذبة أيضًا في أحوالهم، يعني يظهر حالاً وهي الإسلام، العبادة، التقوى، وكالذي يظهر الخشوع وليس بخاشع، الذي يظهر الصلاح والاستقامة وليس كذلك، فهذا كاذب في الحال، فالكذب يكون في هذه الأمور الثلاثة كما أن الصدق يكون بها.

والصدق مراتب، يقول: أعلاه مرتبة الصديقية، وفسرها: بكمال الانقياد للرسول ﷺ مع كمال الإخلاص للمرسل، الصديقية هذه مرتبة عالية في الصدق، وتكون لمن اجتمع فيه أمران:

الأمر الأول: كمال التصديق، كأبي بكر ، ما قال له النبي ﷺ شيء أو بلغه عنه إلا قال: صدق، فهو كامل التصديق، ليس عنده تردد أو شك، ولهذا فاق الصحابة ، وقيل في صفته: بأنه لم يسبقهم في صيام ولا صلاة، وإنما بشيء وقر في قلبه، وهو كمال الإيمان والتصديق الانقيادي.

 الأمر الثاني: وهو كمال الصدق في هذه الأمور الثلاثة: الأقوال والأفعال والحال، يكون كثير الصدق، فمن كان كثير الصدق كثير التصديق فهو صديق، كثير التصديق للرسول ﷺ، فهذا هو الصديق.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر كلامًا مفيدًا في هذا الموضوع يمكن أن آتي بنخب منه، يقول عن الصدق: "وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين"[2].

يقول: "وأخبر تعالى عن أهل البر، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر، بأنهم أهل الصدق"[3]، لاحظ كيف جمعها في الآية: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فذكر أمورًا من الإيمان والإسلام والتصديق: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، هذه أمور تصديقية.

وذكر أيضًا أمورًا عملية متنوعة: آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، فدل على أن الصدق ينتظم هذه الأمور جميعًا: مما يتعلق بالقلب وما يتعلق أيضًا باللسان والجوارح، هذا كمال الصدق.

يقول: "وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.." يقول: "والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر"[4].

ويقول: "فالصدق في الأقوال -بدأ يفسرها الآن-: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلوب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به، تكون صديقيته"[5].

يقول: "وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء:80]، وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأل أن يهب له لسان صدق في الآخرين، قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق، فقال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ[يونس:2]، وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ۝ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].

هذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق"[6].

ويقول: "فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقًا ثابتًا بالله وفي مرضاته، بالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعداءه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرجه ﷺ هو وأصحابه في تلك الغزوة، وكذلك مدخله ﷺ المدينة كان مدخل صدق بالله ولله، وابتغاء مرضات الله، فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب"[7].

إذن عندنا مدخل صدق، أن يكون الإنسان أن يكون شروعه وابتداؤه في العمل ودخوله للمحالة التي يدخلها لله وبالله وفي الله، يدخل هذا العمل، هذه الوظيفة، هذه الجامعة، يدخل في هذه المدرسة، يدخل في هذا النوع من التعليم يدخل في هذا المشروع، هل دخوله مدخل صدق أو ليس بمدخل صدق، قد يدخل الإنسان ويريد الدنيا، قد يريد الرياء والسمعة، قد يريد محادة الله ، وهكذا خروج الإنسان، خرج لماذا؟ وفي ماذا؟ فقد يكون مخرجه أيضًا مخرج صدق، وقد يكون مخرج كذب، إلى أن قال: "وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدق أو كذب"[8]، يعني حينما يدخل الإنسان المسجد للصلاة أو لسماع درس أو نحو ذلك، هذا قد يكون مدخل صدق وقد يكون مدخل كذب، حينما يخرج قد يكون خروجه، وكذلك حينما يدخل بيته، حينما يدخل الإنترنت، هذا دخول صدق وإلا دخول كذب، هذا مدخل كذب وإلا مدخل صدق، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا[الإسراء:80]، لما تفتح الإنترنت تريد الوصول إلى ماذا؟ الذي يريد الوصول إلى الشبهات والشهوات أو يكتب طعنًا في الدين أو يكتب رياء وسمعة، هذا قد دخل مدخل كذب، الذي يفتح موقع يفتح حساب، وهو يريد أن يُذكر، وأن يمدح، وأن يعرف أو يكتب مقالة أو يعلق، يريد أن يقول: أنا موجود، فهذا مدخل كذب، والذي يدخل لله، وفي الله، ويريد ما عند الله -تبارك وتعالى- فهذا مدخل صدق، تذكر هذا حينما تضع الأنامل على لوحة المفاتيح، هذا مدخل صدق أو مدخل كذب، واسأل ربك هذا السؤال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء:80]، ولو أن الإنسان جعل هذا منهاجًا في الحياة؛ في السفر، وفي الزيارات، وفي إقامة المشروعات الدعوية وغير الدعوية، وفي المشاركة مع الآخرين بألوان الأعمال والمشاركات، وفيما يكتبه ويؤلفه، أو ما يصدره من صوتيات، هل هذا مدخل صدق أو مدخل نفاق وكذب؟ سواء كان يريد بذلك شهوات أو كان يريد بذلك الشبهات، فيكون ذلك حاجزًا للإنسان عن مداخل الريب، ومداخل السوء التي يراه الله وهو يواقعها ويقارف ما يقارف فيها.

يقول: "ما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدق أو بكذب، فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب"[9].

ويقول: "وأما لسان الصدق فهو الثناء الحسن عليه ﷺ من سائر الأمم بالصدق"[10]، قد يثنى على الإنسان لكن بالنفاق والكذب، فهذا ليس بلسان صدق، قد يثني عليه بعض الناس ولكن قلوبهم تلعنه -نسأل الله العافية-؛ لأنهم يعرفون أنه لا يرضى إلا بالمدح والثناء والإطراء بلا استثناء فيمدحونه، ولربما بما ليس فيه، فلسان الصدق: الثناء الحسن بالصدق ليس ثناء بالكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:50]، يعني لا يُمدحون بالكذب، وإنما يُمدحون بالصدق.

يقول: "واللسان هنا: الثناء الحسن"[11].

يقول: "وأما قدم الصدق، فحقيقة القدم ما قدّموه، وما يُقْدمون عليه يوم القيامة"[12]، جمع القولين للمفسرين، وهذا من أبدع ما يكون؛ لأن بعضهم يقول: قدم: هو ما قدمه الإنسان من عمل، وبعضهم يقول: ما يقدم عليه، ابن القيم جمعهما، قال: "حقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان لمحمد ﷺ، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك، وأما مقعد الصدق فهو الجنة عند الرب -تبارك وتعالى-"[13].

يقول: "فلذلك كانت الصديقية كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرًا وباطنًا"[14]، هذا كلام في غاية النفاسة في هذا الباب العظيم، وهو الصدق.

"البخل وهو منع الحقوق الواجبة ثمرة الشح، والإيثار ثمرة الجود، والجود عشر مراتب".

البخل يقول: هو منع الحقوق الواجبة، ثمرة الشح، ماذا يقصد بهذا؟ العلماء تكلموا كثيرًا في البخل والشح، ما الفرق بينهما.

فبعضهم قال: البخل والشح بمعنى واحد، وهذا لا إشكال فيه بالنظر إلى المعاني الأصلية، وأما المعاني الخادمة التي يسمونها بالمعاني التكميلية فإن البخل له معنى يخصه، والشح له معنى يخصه، فبعضهم يقول: إن الشح هو الصفة النفسانية، والبخل هو مقتضاها من الأخلاق العملية من الإمساك والتقتير.

وبعضهم يقول: البخل أن يبخل الإنسان على نفسه، والشح أن يمنع حقوق الله الواجبة حتى الزكاة يمنعها وحقوق الناس الواجبة، حقوق الخلق ما يجب عليه، يقال له: شح.

وبعضهم يقول: البخل أن يبخل على نفسه، والشح أن يتطلع إلى ما في أيدي الناس، يود لو أخذه، لو وضع يده عليه، وبعض الناس لا يكون بخيلاً في نفسه فقط، بل يضيق ذرعًا إذا رأى أحدًا يتصدق أو يريد أن يتبرع بمشروع، أو يقيم شيئًا لله -تبارك وتعالى-، يضيق صدره بذلك، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10]، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7].

فهنا ابن القيم جعل البخل نتيجة للشح، يعني ابن القيم يقول بأن البخل هو الممارسة العملية، والشح هي الصفة النفسية، هذا أحد الأقوال وهو من أجودها، وابن القيم -رحمه الله- له جُمل وعبارات جيدة في هذا المعنى.

تطرق بعد هذا إلى موضوع الإيثار الذي يقابل البخل والشح، وحقيقة الإيثار هو أن يقدم الإنسان غيره على نفسه في حظوظها -بعضهم قيده- الدنيوية، باعتبار أنه لا إيثار في الطاعات والقرب؛ لأن ذلك مؤذن بالزهد فيما عند الله -تبارك وتعالى-، لكن تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية مع الحاجة إلى ذلك هذا هو الإيثار، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] فهذا الإيثار؛ الإيثار ثمرة الجود والبخل ثمرة الشح.

ثم ذكر أن الجود عشر مراتب، وذكر كلامًا جميلاً في هذا يحسن انتخاب بعض الجمل منه، وأنا أستأذنكم في هذا في بعض المواضع؛ لأنها في غاية النفاسة، وأرى من المفيد أن نطلع عليها، فهو يقرر أن الإيثار ضد الشح، ويقول: "بأن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده"[15].

فهنا ذكر قولاً آخر وجعله في ضمن ما قال، حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه، وبخل به، بخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي ﷺ: إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا[16]، والله -تبارك وتعالى- كما نعلم أضافه إلى النفس، قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر:9]؛ ولذلك لشدة علوق الشح بالنفوس وتغلغله فيها، قال: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، علق الفلاح بهذا؛ لأن الإنسان إذا صار شحيحًا، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، فالبخيل -يقول-: من أجاب داعي الشح، والمؤثر: من أجاب داعي الجود.

ثم ذكر المراتب هذه، الجود بالنفس هو الأول، قال: وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:

يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود[17]

الثاني: الجود بالرياسة، قال: وهو ثاني مراتب الجود، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس. يعني يذهب مع الناس في حاجاتهم يخدهم إلى آخره، ما يقول: أنا جلست على هذا الكرسي لا يدخل علي أحد إلا بعد العناء والتعب، وينحجب عن الناس، لا؛ يجود برئاسته فينفع الناس، ويخدم الناس، وأعلى من هذا من يجود في رئاسته في سبيل مرضاة الله -تبارك وتعالى-، فإذا طلب منه شيء يسخطه الله أو رأى أن مكانه هنا أنه يكون معبرًا للمنكر، فإنه يترك ذلك لله وفي الله، ومن الجود بالرياسة: أن يتخلى الإنسان عنها إذا كان يشعر أنه لا يستطيع أن يقدم جديدًا، أن يقدم مفيدًا، أن ينفع في هذا الباب يقول: هناك من هم أفضل مني، لا جديد عندي في هذا الموضوع، فهذا من أعلى الجود، لكن من الناس من لا يفرط بهذا إطلاقًا ويرى أنه من المكاسب العظيمة التي لا يمكن أن يتخلى عنها، ولو عرف حقائق الأشياء لما فعل ذلك، ولكنها الحجب.

يقول: الثالث: "الجود براحته ورفاهيته، وإجمام نفسه، فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته"[18]، يتعب من أجل أن يسعد الآخرون، يقل نومه، تقل راحته، لا يذهب للاستجمام. سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في مقابلة أجريت معه قديمًا، ذكر أنه منذ أربعين سنة ما خرج في يوم واحد إجازة، ونحن لربما كثيرًا ما نفكر في الإجازات، وتحصيل أكبر قدر من ذلك.

متيم بالندى لو قال سائله  هب لي جميع كرى عينيك لم ينم[19]

هذا جود بالراحة.

الرابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال، فبعض الناس لا يقدم قليلاً ولا كثيرًا، لا ينتفع به، لو أردت منه كلمة فقط بعد الصلاة في مسجد لم يقدم شيئًا، لكن بعض هؤلاء لربما لو قيل له بمقابل مادي، تذهب إلى بلد وتعطى مقابل وتقدم برامج، وتصلي بالناس في رمضان، وتلقي كلمات يوميًا لربما قبل، لكنه في حيه لا يقدم كلمة واحدة، ولربما تجد الحي الواحد فيه من أساتذة الجامعات ما يورث الزحام على أبواب المسجد من قِبل هؤلاء، ولا يلقى فيه كلمة واحدة في هذا المسجد، أين الجود؟ بل لربما طلب من بعضهم أن يجيب على الأسئلة، أو يحال عليه بعض الناس الذين عندهم مشكلات ويساعدهم، فيقول: أنت تعرف الآن الاستشارات أصبحت لها في هذا العصر نوع اختصاص، وهناك مكاتب استشارية ومقابل، كأنه يلوح أنه يريد ما يقابل ذلك، ومثل هذا الذي يعبر للناس الرؤى بطريقة بالاتصال، يدفعون من خلال اتصالهم يشعرون أو لا يشعرون، فهذا خلاف الجود بالعلم.

قال: "ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جوابا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرًا عليها"[20]، ونحن نضطر الآن لهذا بالجوال وإلا ما نستطيع أن نجيب، في السابق العالم لربما تأتيه المسألة في الشهر أو في الأسبوع مرة واحدة، يأتيه خطاب من مكان أو من بلد أو نحو ذلك، الآن الناس صار عندهم هذه الوسائل وهم في بيوتهم، أسهل ما عليه أن يرسل رسالة ويسأل فيها عن أمور لو فتح أقرب كتاب عنده لوجد الجواب فيه، ويريدون الشرح والتفصيل، خاصة بعض الناس كل أسئلته بهذه الطريقة، ما هو الحياء؟ وما هي الطرق الموصلة إليه؟ وما هي موانعه؟ وما هي ثمراته؟ برسالة جوال، كل الأسئلة بهذه الطريقة، فمثل هؤلاء كيف يجاب على أسئلتهم، ليس إلا ثمة نعم أو لا، أو ألا يجيبه الإنسان، هذا هو البديل، وإلا لو قضى الإنسان الليل والنهار في الجواب لم يدرك، وقد جرب هذا بعض طلبة العلم في رمضان، يتلقون أسئلة ثم يأتون ببعض طلبة العلم يجيبون عنها، فلربما جلس الواحد في المجلس الواحد بعد صلاة العصر وأجاب عن أكثر من ثلاثمائة مسألة، وطيلة الشهر بهذه الطريقة، فيجيبون عن آلاف المسائل، وهم أمام بحر لا ساحل له، تتهافت عليهم الأسئلة، فهذا الآن مع وسائل الاتصال الحديثة صعب جدًا أن الإنسان كلما سأله واحد جاد له بالتفصيل، وأجاب عن ما سأل عنه، وعن ما لم يسأل عنه، إذن لن يستطيع، سيتوقف، لكن كون الإنسان يجيب عن عشرات المسائل في مقابل أن يجيب عن مسألة واحدة مفصلة هذا أولى، فينتفع خلق كثير.

يقول: "ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته"[21]، وهذه فتاويه -رحمه الله- بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فيها.

يقول: الخامس: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.

السادس: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كما قال ﷺ: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة...[22]، الحديث.

السابعة: الجود بالعرض، كأن يقول: الناس في حل، كل من ذكرني بسوء فهو في حل مثلاً، يقول: "وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه"[23]، بمعنى أنه كما قال الإمام أحمد[24]: "وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك؟!" ماذا تستفيد؟ فإذا قال: الناس في حل من جهتي استراح قلبه، أما إذا كان عنده حسابات، فهذا أساء إليه مرة، وهذا قال كلمة جارحة، وهذا قصر في حقه وما زاره حين مرض، وهذا ما عزاه، وهذا ما اتصل يطمئن عليه في المناسبة الفلانية، وهذا ما رد على المعايدة حينما أرسل له رسالة، وهذا اتصل عليه في مرة من الدهر قبل عشرين سنة ولا رد على الاتصال مع أنه يقدر أنه يعرف الرقم أو أن جواله لم يحصل له عارض ما فرمته ولا ضاع منه ولا، فهو حاقد عليه من ذلك الحين لماذا لم يرد على الاتصال، وتصفية حسابات طويلة مع هؤلاء الناس، مثل هذا يعذب ويكون في حالٍ لا يحسد عليها، هذا خطأ.

وأحسن ما يكون للإنسان إذا خرج من بيته أن يجعل حظ النفس خلف ظهره، لا يطالب الناس، ولهذا قال الله: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199]، معنى خذ العفو: يعني لا تحمل الناس عنتًا وتثقل على هؤلاء في أداء حقوقك، كل إنسان تريد أن يأتي بحقك كاملاً، الزوجة تأتي به كاملاً، والولد يأتي به كاملاً، والزملاء يأتون به كاملاً، ومن نقص فحسابه عسير، أحقاد وضغائن في الصدور، خُذِ الْعَفْوَ، يعني ما تسمحت به نفوسهم من غير تكلف فبذلوه لك طواعية ومحبة خذه، الباقي الذي يشق عليهم أو يثقل عليهم أو يغفلون عنه لا تكلفهم ولا تطالبهم، وإذا اعتذر قل: لا، أنا الذي أعتذر، وإذا قال: أنا مقصر، قل: لا أنا المقصر، إذا قال: ما زرتك من زمان، ما اتصلت، قل: أنا الذي ما اتصلت، ما رديت على اتصالك، قل: أنا تأتيني اتصالات كثير لا أستطيع أن أرد عليها وأنسى، لا تعتذر فالحق لك، أما من يريد أن يخضع الناس له، فهذه مشكلة كبيرة هو أول من سيعاني منها.

يقول: الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه، وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال، وأعز له وأنصر، وأملك لنفسه وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.

الإغضاء والصبر والاحتمال، "ما أحب أن أستوفي جميع حقي منها"[25]، كما جاء عن ابن عباس ، في حق الزوجة يعني، وقالوا: "ما استوفي كريم قط"[26]، يعني يترك، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3]، هذا الكريم لا يقف عند كل تصرف، وعند كل إساءة، وكل تقصير.

يقول: فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، وقال: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، فذكر المقامات الثلاث: العدل والفضل، والظلم.

التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وقال النبي ﷺ: لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[27].

العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه، وهذا الذي قال ابن المبارك: "إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل"[28]. لا يتطلع لما في أيدي الناس، "استغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره"[29]، فبعض الناس إنما قيامه -نسأل الله العافية- بالافتقار إلى المخلوقين، فإذا أراد أن يدخل الجامعة أجلب عليهم بخيله ورجله من أجل الشفاعات حتى يدخل في الكلية، وإذا تخرج أجلب بخيله ورجله حتى يتوظف بالشفاعات، ويا أبو فلان! وتكفى يا الحبيب! وكلم فلان، واتصل بفلان، وأرسل لفلان، وشوف من مفتاح فلان، ومن يعرف فلان، توجه إلى الله -تبارك وتعالى- واستغن عن هؤلاء الضعفاء الفقراء المحتاجين، فإن استطعت ألا يكون لأحد عليك يدًا فافعل.

"الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.

فالصبر يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة، والرفق، وعدم الطيش، والعجلة، والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل".

وكذلك العفة تحمله على الحياء الذي هو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة إلى غير ذلك.

"والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها أمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش، وحقيقة الشجاعة ملكة يقتدر بها على قهر خصمه. والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط".

يعني يحمله العدل على خلق الجود والسخاء الذي هو وسط بين الذل والقحة، يعني الآن بذل المال وسط بين البخل والتبذير، الجود، الكرم، والشجاعة هي وسط بين الجبن والتهور، وقل مثل ذلك في الحلم وسط بين التبلد والمهانة والطيش والغضب، وما إلى ذلك.

فهذه لو نظرت في الأخلاق تجد أن لكل خلق طرفين وواسطة؛ فالعدل يحمله على التوسط في هذه الأشياء.

"فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة، ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب".

هذه الأخلاق الفاسدة مقابل الأخلاق الصالحة، الجهل والظلم والشهوة والغضب، وذكر ابن القيم -رحمه الله- كلامًا مفيدًا في هذه الأمور، كيف تتفرع منها الأخلاق السيئة، فالجهل يقول: "فالجهل يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصًا، والنقص كمالاً"[30]. "والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع"[31].

يقول: "والشهوة تحمله على: الحرص، والشح، والبخل، وعدم العفة، والنهمة، والجشع، والذل، والدناءات كلها، والغضب يحمله على: الكبر، والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه"[32].

يقول: "وملاك هذه الأربعة أصلان -الأخلاق السيئة-: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة، فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة، والبخل، والخسة، واللؤم، والذل، والحرص، والشح، وسفساف الأمور والأخلاق، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم، والغضب، والحدة، والفحش، والطيش، ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون؛ فإن النفس قد تجمع قوة وضعفًا"[33]، كيف تجمع قوة وضعف؟ هذا كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- عن الرافضة، كيف أحيانًا يظهرون في مظهر كما نشاهد الآن إذا تمكنوا في مظهر القوة والبطش والفتك، وفي مقامات أخرى بمنتهى المهانة، ولعلكم ترون بعض المقاطع التي يتداولها الناس التي تصور مهانتهم مع أسيادهم من المحتل ونحو ذلك، كما يرددون في أمثالهم الفاسدة: اليد التي لا تستطيع قطعها قبّلها، يرددون هذا، فالشاهد هنا يتكلم عن الازدواج الذي يحصل بين الخلقين المذمومين؛ الأخلاق الغضبية، والأخلاق التي تقابلها مثلاً.

يقول: "ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفًا؛ فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر"[34].

شيخ الإسلام قال عن الرافضة: إذا تمكنوا أظهروا ما عندهم من الحقد والغل، فيحصل منهم البطش والقتل والإفساد والتنكيل بلا رحمة، وحينما يكون هؤلاء في حال من الاستضعاف والمهانة فإنهم يكونون أذل الناس وأخس الناس نفسًا لمن قدر عليهم وأذلهم.

يقول: "فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهِر، ظالم عنوف جبار، فإذا قُهر صار أذل من امرأة؛ جبان عن القوي، جريء على الضعيف. فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضًا، كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضًا"[35]. هذا كلامه على هذه الأصول في الأخلاق.

ثم ذكر كلامًا جيدًا في تغيير الأخلاق، كيف يستطيع الإنسان أن يغير الأخلاق، نحن نسمع عن بعض الناس أن الطبع لا يتغير، وأن نقل الجبل أسهل من تغيير الطبع، هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ فابن القيم -رحمه الله- يذكر أن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، ثم بعد ذلك ضرب مثلاً، وهذا المثل واضح ومفيد، يقول، ضرب مثلاً: بنهرٍ جارٍ في صببه ومنحدره ومنته إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم، فانقسموا ثلاث فرق[36].

فهذا موقف الناس من الأخلاق، التعامل مع القوة الغضبية والقوة الشهوانية في نفس الإنسان، كل إنسان عنده قوة غضبية وقوة شهوانية، فكيف التعامل مع مثل هذه الأشياء، يقول: انقسموا إلى ثلاث فرق، الآن هذا النهر المنحدر هو يمثل القوة الغضبية أو الشهوانية.

ثلاث فرق: فرقة صرفت قواها وقوى الأعمال إلى حبسه وإيقافه. فيضعون ردميات وحواجز لإيقاف هذا النهر المتدفق المنحدر الهادر، هل يستطيعون إيقافه؟ هؤلاء لن يستطيعوا إيقافه، يقول: "هؤلاء لا يصنعون شيئًا". لاحظوا ماذا يقصد بهذا في معالجة الأخلاق؟

الطائفة الثانية: وهي المجموعة الثانية علمت أنه لا يغني عنها ذلك الفعل شيئًا فقالوا: لا بد من قطعه من أصل الينبوع. الردميات هذه لا تنفع، سيجتاحها، لا بد من قطعه من أصل الينبوع، فذهبوا إلى ينبوعه يتطلبون قطعه فتعذر ذلك عليهم، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار. يريدون قطع المنبع وما استطاعوا، تركوا زروعهم وأرضهم وذهبوا إلى المنبع يريدون قطعه فضاع عليهم الزمان بلا طائل.

المجموعة الثالثة: خالفوا هؤلاء وهؤلاء، قالوا: نحول المجرى، هذا له منبع لا يمكن إيقافه، وهو منحدر بقوة لا يمكن حجزه، سيتفجر ويزيل كل ما في طريقه ويجتاح كل شيء، قالوا: لا بد أن نحول مجراه، فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه، بدل ما يذهب يحطم البيوت والزروع، صرفوه إلى مكان لا يتضررون به، ويحصل لهم به نفع، صرفوه إلى أرض قابلة للنبات وسقوها به فأنبتت أنواع العشب والكلأ والثمار المختلفة الأصناف.

إذا تبين هذا المثل يقول: "فالله -تبارك وتعالى- قد ركب الإنسان طبيعة محمولة على قوتين: غضبية، وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما جبلة، فبقوة الشهوة يجذب المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار"[37].

يعني: أن الشهوة إذا استعملها في جذب ما يريد تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضار تولد منه القوة والغيرة، فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه الحقد، عاجز عن دفع هذا الضرر عن نفسه، وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه مما تطلبه نفسه بداعي الشهوة ورأى غيره مستبدًا به أورثه الحسد، يرى النعم عند غيره ولا يستطيع الوصول إليها، فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته إلى الشح والبخل؛ لأن نفسه تطلبه بقوة، وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية، لا يصل إليه إلا بالقهر فاستعملها فيه أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، فانظر كيف تتولد الأخلاق.

قال: "ومنه يتولد الكبر، والتعالي، والفخر، والخيلاء؛ فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب.

فإذا تبين هذا: فالنهر مثال هاتين القوتين، فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه، فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه، وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم، وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤل إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق، أصحاب الرياضات المجاهدات، -يقصد بعض الصوفية-، راموا قطعه من ينبوعه"، ولذلك كان بعضهم يسأل ربه أن يقطع عنه الشهوة أصلاً للنساء.

يقول: "هؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس عن إزالة تلك الصفات، وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال، ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها، لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم، -يعني اشتغلوا بتحصين العمران-، فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكام البناء، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفًا من هدم البناء.

هؤلاء الذين أرادوا وضع ردميات وحواجز وسدود، والآخرون قطع المنبع من أصله، فأهل الإيمان حولوا المجرى، قالوا: هذه القوة الغضبية ممكن تستفاد من الغيرة للدين، ومراغمة أعداء الله ومجاهدة الكفار وإنكار المنكر، وما إلى ذلك، وقل مثل ذلك في القوة الشهوانية.

يقول: "سألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها، -فضرب له شيخ الإسلام مثلاً- فقال: النفس مثل الباطوس، -الباطوس أعزكم الله هو الكنيف-، يقول: كلما نبشه ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، -يعني تجاوز هذه النفس ولا تقف عند هذه تنبش الآفات ويمضي الزمان في التنقير عنها، وإنما تجاوز ذلك جميعًا-، لا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.

يقول: فسألت بعض الشيوخ فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر. هذا مسافر ويبحث، كلما وجد جحر بدأ يبحث في حية وإلا عقرب ويبحث هنا، ويرى أثر حية أو عقرب يذهب يبحث عنها، فينقطع عن سفره ولا يصل إلى مطلوبه.

يقول: "فذكرت ذلك لشيخ الإسلام فاستحسنه جدًا، يعني أن الإنسان لا يقف عند هذه الآفات، يتجاوزها، ولا يكون شغله في التنقير والبحث عن آفات النفس، لكنه يتجاوز ذلك إلى الفضائل والمكارم، ولا يكون شغله وما يعيقه في سيره"[38].

يقول: "إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدىً ولا عبثًا، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك، والثمار والحطب، وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها، وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر، فرأوا أن الكبر نهر يسقى به: العلو، والفخر، والبطر، والظلم، والعدوان، ويسقى به: علو الهمة، والأنفة، والحمية، والمراغمة لأعداء الله، وقهر العدو، وهذه درة في صدفته، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس"[39]، الأمور الإيجابية كما يقال.

ويقول: "واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث ينفع"[40].

ثم يقول: "وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد"، وهذا صحيح، علاج الأبدان ممكن تذهب إلى الطبيب، أو من غير طبيب إلى الصيدلية أو من غير صيدلية ويعطيك دواء في يوم أو نصف يوم أو في ساعات يذهب الصداع، لكن علاج النفوس أشد.

يقول: "فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم"[41]. يعني ما يكون تزكية النفوس بالنظريات الغربية. نعم، وما يستقى من ذلك، وقراءة الكتب المترجمة، إنما يؤخذ ذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [الجمعة:2]، فالتزكية من هنا، وهو ينبوعها الذي لا ينضب.

في النفس ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر، والحسد، والعلو، والبغي، والشر، والأذى، والفساد، والغش، وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة، وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الملك من الإحسان، والنصح، والبر، والعلم، والطاعة.

فحقيقة المروءة: بغض الداعيين الأوليين، وإجابة الداعي الثالث، وقلة المروءة أو عدمها: هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما".

هو ذكر هذا الكلام في الكلام على منزلة المروءة، وحقيقة المروءة على كثرة ما تكلموا فيها، وكان هناك درس مستقل في المروءة: هي تحقيق الأوصاف الإنسانية على الوجه الصحيح، أن يتحقق الإنسان بأوصاف الإنسان، الأوصاف الإنسانية، يعني ليست أوصاف الحيوان، ولا أوصاف الشياطين، فالله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وهذا يشمل الصورة الظاهرة، ويشمل أيضًا الباطنة، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[42]، فالمروءة أن يتحقق بالصفات اللائقة، الصفات الإنسانية، فكلما كان أكثر تحققًا من هذه الناحية كانت مروءته أكمل، فإذا حاد عن ذلك ومال إلى صفات الحيوان أو إلى صفات الشياطين كان ذلك انحطاطًا وسفولاً في حقه.

"الأدب اجتماع خصال الخير في العبد وهو ثلاثة أنواع: أدب مع الله.."

وهذا الأدب مع الله أيضًا ثلاثة أنواع، ذكرها إجمالاً، الأدب مع الله، قال:

الأول: بأن يصون قلبه أن يلتفت إلى غيره، هذا الأدب مع الله؛ لا يكون في القلب أدنى التفات إلى غير الله.

الثاني: أن تتعلق إرادته، يعني أن يصون إرادته، أو أن تتعلق إرادته بما يمقته عليه، إرادته تتعلق بماذا؟ بتحصيل الحرام؟ الفجور؟

الثالث: أن يصون معاملته أن يشوبها بنقيصة، فيؤدي العبادات وما أوجبه الله عليه وما شرع له على الوجه اللائق، أن يصون معاملته أن يشوبها بنقيصة، هذا الأدب مع الله.

"وأدب مع الرسول بكمال الانقياد، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، وألا يعارضه بغيره بوجه من الوجوه".

هذا من الأدب مع النبي ﷺ، وفي حياته ألا يرفع صوته بحضرته، لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2]، ألا يدعوه باسمه، وكذلك أيضًا ألا يقدم بين يدي رسول الله ﷺ برأي ولا اقتراح ولا اعتراض.

"وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، ويناسب حالتهم".

يعني للوالدين أدب يليق، للمعلم أدب يليق، للأقران أدب يليق، لأصحاب الولايات أدب يليق، وللجيران أدب يليق، وهكذا أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تفاصيل في هذه الأنواع الثلاثة، ثم ذكر أن أدب المرء هو عنوان سعادته، عنوان السعادة والفلاح، هو الأدب، وأن قلة أدبه هو عنوان الشقاوة والبوار، يقول: "فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب"[43].

ولهذا الإنسان في كثير من الأحيان يرى أناسًا عندهم قدر كبير من الأدب فيعجب بهم، ويسخر لسانه في نشر فضائلهم والحديث عن مآثرهم في المجالس، فينشر لهم دعاية مجانية، كما هي طبيعة الإنسان حين يرى ما يحبه ويعجبه، لكن إذا نظرت إلى حال هذا المتكلم أحيانًا عن غيره حينما يثني على أدبه ويطريه، وقد يكون عادمًا لمبادئ الأدب والأخلاق، فيه من الرعونات وسرعة الغضب وما إلى ذلك، فمثل هذا كان ينبغي أن يقال له: ويذكر ويقال له: هلا تجملت بمثل هذه الأخلاق التي صرت بهذه المثابة من الإعجاب بأصحابها!، لماذا لا تتحلى بها ما دام أنك تعرف أن هذه أخلاق جميلة وجذابة وأنها تأسر الناس أسرًا، لماذا لا تكون كذلك؟! تتحلى بهذه الأخلاق، تتعامل بهذا الذوق مع الآخرين، لماذا هذه الرعونة؟! لماذا هذا السفه؟! لماذا هذا اللسان الذي يجرح في الجد والمزاح، وعبارات قاسية يشقى من يجالسه أو يخالطه؟!

"الغنى نوعان: غنى بالله، وغنى عن غير الله، وحقيقة الغنى غنى القلب وهو تعلقه بالله وحده، وحقيقة فقره المذموم تعلقه بغيره".

لا شك أن حقيقة الغنى هي غنى القلب؛ لأن القلب إذا افتقر افتقر كل شيء، لكن عبارة الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "حقيقة غنى القلب هي تعلقه بالله"[44]، هو يتحدث عن غنى القلب، وفرق بين الأمرين، لكن لا شك أن حقيقة الغنى هي غنى القلب، فإذا كان القلب فقيرًا فلو أعطي الدنيا لم يسد فقره، ولذلك تجد كثير من الناس الآن في تهافتهم على الدنيا وحرصهم عليها صاروا في حال لربما وقع بعضهم في أمور لا تليق، فربما فرط بما يجب عليه صيانته من إقامة المروءات، وحفظ العورات، وما إلى ذلك.

وقد تجد الإنسان أحيانًا في كفاية وغنى، وزوجته تذهب كل يوم مائتين وخمسين كيلو متر من قبل الفجر مع سائق، وأحيانًا يركبون الأهوال والأخطار حتى يصلوا إلى هذا المكان الذي تعمل فيه، فلربما بشيء زهيد يسير بألف ومائتين، وإلا بألف وثمانمائة كأن الفقر قد ضربهم إلى النخاع -نسأل الله العافية-، والفقر والجوع قد يسد بنصف رغيف على هذا العذاب الأليم تخرج من قبل الفجر ولا ترجع إلا المغرب كل يوم، الإنسان في غنى عن مثل هذا، إلا أناس في حال من المسغبة والفقر والضرورة، لكن رجل يعمل ويكتسب وعنده كفايته، ولكن أحيانًا النفوس يكون بها جوعة، يكون بها فقر، فمهما أعطي هو يريد الزيادة فهو يريد الزيادة، لا يتوقف عند حد، فهذا هو فقر القلب، مهما كان في يده ولربما تطلع إلى الآخرين، ودائمًا ينظر في هذا الجانب إلى من فوقه؛ فيشعر أنه في نقص لا بد من تكميله، ولن يتوقف عند حد، لكن الصحيح أن ينظر إلى من دونه في هذه الأمور، فيعرف نعمة الله عليه ويقنع بما أعطاه، أما هذا التهافت، -نسأل الله العافية- شقاء وعذاب على شيء يسير من هذا الحطام، هذا لا يليق بأهل المروءات.

"والحكمة نوعان: علمية وعملية، فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا وشرعًا، والعملية: وضع الشيء في موضعه".

هو ذكر أن أركان الحكمة: العلم، والحلم، والأناة، وآفات الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، وهذا صحيح تمامًا؛ فإن الإنسان الذي يتصف بالجهل أو الطيش أو العجلة لا يكون حكيمًا، ولا يصح أن يستشار، ولا يسأل، ولا يكون مرجعًا للناس، وقد يكون الرجل من أوعية العلم ولكن به طيش أو فيه عجلة، فمثل هذا يفسد أكثر مما يُصلح، فإذا ذهب الناس إليه يستشيرونه ويرجعون إليه ويوجههم، افعل كذا، افعل كذا، رد عليه بكذا، قل له كذا، إلى آخره، أفسد الحرث والنسل -نسأل الله العافية-، لماذا؟ لأنه أخرق، فيه طيش وعجلة وخفة، فالعلم لا يورث بالضرورة الحلم، ولا يورث الأناة، وليس بالضرورة أن يورث الصبر، فقد تجد الإنسان عنده علم كثير، معلومات كثيرة، ولكنه في الخلق من أسوأ الناس، فالأخلاق شيء والعلم شيء آخر.

والصحيح أن يربى الناس مع العلم، يكون هناك تربية، أما العلم وحده لا يكفي، ولهذا من أنفع ما يكون في مجالس العلم أن يكون العالم مربيًا للتلاميذ، أما معلومات فقط مع رعونات النفس والأخلاق الفاسدة فهذا قد يضر أكثر مما ينفع، لكن هذه الحكمة العلمية والعملية، الحكمة العلمية قد يكون الإنسان يستطيع أن يُنظّر ويتحدث عن الأشياء، وعن المفاسد والمصالح، وما يعتور الأمور والأعمال إلى آخره بكلام جيد، لكن من الناحية العملية لو أراد هو أن يطبق فهو لا يحسن وضع الأشياء في مواضعها، سواء كان هذا التطبيق بإقامة مشروع أو بتصريحات، أو بكلام يقوله، أو بكتابة ينشرها أو نحو ذلك، فقد لا يضع ذلك بالتوقيت المناسب، فهذا خلاف الحكمة، فهنا حكمة علمية، وهناك حكمة عملية، والحكمة الحقيقية تكون من اجتماع الأمرين، ولهذا قالوا: إن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل، إصابة في القول؛ إذا كان كلامه خطأ فلا محل للحكمة الأخرى العملية، أن يضع الأمور في مواضعها، وأن يوقعها في مواقعها، فيتكلم حيث يحسن الكلام، ويسكت حيث يحسن السكوت، ويقدم حيث يحسن الإقدام، ويحجم حيث يحسن الإحجام، هذه هي الحكمة، ولذلك الآن لو جئنا لمسائل كثيرة في هذا الوقت، لو جاء إنسان يتكلم في هذا الوقت على شيء يعتقده وهو صادق فيه، وبدأ يكتب ويتكلم وينشر في مواقع و..و.. إلى آخره أن الوجه ليس بعورة، هل هذا وقته؟ هجمة على الحجاب، ثم يأتي هذا ويتكلم على أن الوجه ليس بعورة، هل هذا هب أنك تعتقد هذا، هل هذا أوانه؟ الناس بحاجة الآن، هم عندهم تشدد بالحجاب، حتى تقول لهم: هناك قول آخر، أو أن الناس عندهم انفلات وعبث بالحجاب، وحملة على الحجاب، وأول بوابة في هذه الحملة هي الوجه، وأنت تعلم ذلك جيدًا.

إذن ما محل هذا الكلام؟ هذا خلاف الحكمة إذا أحسنا الظن، هذا خلاف الحكمة. وقل مثل ذلك في أمور ينشرها الإنسان، قد يعتقد الإنسان مثلاً أن المعازف ليست محرمة قد يعتقد، ثم يأتي في هذا الوقت الذي كثر فيه التفريط والتضييع، ويقول للناس: هذه المعازف ليست محرمة!! هل هذا أوانه؟ الناس بحاجة إلى مثل هذا الكلام؟ هذا الذي ناقصهم الآن؟

أبدًا، فهذا خلاف الحكمة، وهكذا في مسائل وأمور كثيرة مما ترى يصرح به هنا وهناك مما يثير عند الناس شيئًا من الحيرة أو الاضطراب أو الفتن وما إلى ذلك، والله المستعان.

"وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد".

يعني أن المحبة وحدها لا تكفي كما سبق، والإجلال وحده من غير محبة لا يكفي، فلا بد من هذا وهذا، فهذه حقيقة الحمد، إذا كان ذلك باللسان يذكر الأوصاف الكاملة للمحمود، لكن القلب لا ينطوي على محبته، فهذا ليست بحمد حقيقي، هذا يقال له: مدح إن كان صدقًا، وإن كان كذبًا يقال له: تملق وتزلف ونفاق، فإن كان مع المحبة فهذا هو الحمد، فحينما نحمد المعبود -جل جلاله-، فهذا لا بد فيه من هذا وهذا، أن يتكلم الإنسان بأوصاف الكمال وينطوي القلب على محبة مسديها، هذا الحمد الحقيقي، لكن الإنسان قد يمدح غيره وهو لا يحبه، يمدحه بحق وهو لا يحبه، وقد يمدحه بباطل بكذب يعني فلا يكون ذلك حمدًا، وإنما يكون تملقًا ونفاقًا وتزلفًا، هذا الفرق بين هذه الأشياء الثلاثة.

"وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادةَ الإيمان، وقوة اليقين والثبات، والطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، فالطمأنينة أثر السكينة".

الطمأنينة أثر السكينة، إذا حصلت سكينة حصلت الطمأنينة، فهذه السكينة يقول: هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده حينما يحصل الخوف، وتتحقق وتوجد وتجتمع أسباب المخاوف، فتنزل السكينة في قلب الإنسان، ولذلك تجد بعض الناس يكون في موقع أو مقام يضطرب فيه كثيرون؛ يحصل له مكروه، يحصل امرأة يقال لها: بأن بكرها قد مات فجأة، أو صار له مكروه، أو نحو ذلك، ولربما تراه يتشحط بدمه أمامها في حادث أو نحو ذلك، فبعض الناس ينزل عليه سكينة، فتجد أحيانًا بعض هؤلاء تقول: نزلت عليّ سكينة فكنت أنا التي أطمئن هؤلاء الناس من الأقارب وأسكنهم وأذكرهم بما عند الله -تبارك وتعالى- مع أنها معروفة قبل ذلك برقتها، وضعف قلبها، وهذا أمر مشاهد من الناس من يحصل له أنواع البلاء العظيم الشديد الذي قد لا تثبت أمامه الجبال، ويقول: إنه كان في غاية الرضا والسكينة والطمأنينة، وكان يتبسم للبلاء، وهذا تجده لدى بعض الناس.

وبعض الناس يحصل له أدنى شيء فيحصل له غاية الانزعاج، دخلت على رجل مرة من أولي النعمة وكان به إنفلونزا، وليتني ما دخلت! هذا قبل حوالي سبع سنوات، ولا زلت كأني أشاهده، وقفوا جميعًا عند رأسه وهو على سرير في وسط الغرفة، وأحدهم معه مهفة، فكان إذا غفل يكلم بالجوال أو التفت إلى أحد سأله عن شيء أو نحو ذلك انزعج هذا المريض غاية الانزعاج وزجره غاية الزجر لماذا توقف؟ وهو في غاية التأذي والضجر ولا يكلم أحد ولا يلتفت إلى أحد ممن حضروا، إنفلونزا! فقلت في نفسي: هذا لو نزل به بلاء صح؛ كيف سيفعل؟ ماذا سيفعل؟ إنفلونزا! وهذا الحال وهذا الضجر، نسأل الله العافية.

فالحاصل أن هذه السكينة كان ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأنه كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، يقول: وسمعته يقول يوم واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال: فلما اشتد عليّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، ثم أقلع ذلك عني، وجلست ما بي بأس"[45]، قرئت آيات السكينة، هذه آيات السكينة في ستة مواضع من القرآن، ذكرها ابن القيم هنا في قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248].

والآية الثانية: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:26].

الثالثة: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40].

الرابعة: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] الآية.

الخامسة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [الفتح:18] الآية.

السادسة: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:26]، هذه الآيات لما يشعر الإنسان بالخوف يمكن أن يقرأها، إنسان خائف ممكن تقرأ عليه، إنسان يعاني مما يسمى بالرهاب الاجتماعي يكثر من قراءة هذه الآيات، يقدم على موقف يشعر فيه بارتباك واضطراب ويرجف قلبه نحو ذلك يقرأ مثل هذه الآيات.

إنسان أصابه ذعر من حادث أو نحو ذلك تقرأ عليه آيات السكينة، وابن القيم -رحمه الله- يقول: "وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته"[46]، وكلام شيخ الإسلام الذي قبله أنه في مرض موته حالة ضعف، يقول: "عرض له ما تعجز له العقول عن حمله"[47]، يعني لو حدثت الناس عنه ما يصدقون، أحيانًا بعض الناس الذين يبتلون بسحر أو يبتلون بتعرض الشياطين لهم، يذكرون أشياء لولا أنك تثق بهذا الإنسان ثقة تامة وإلا لقلت: هذا من نسج الخيال لا يمكن أن يصدق، فشيخ الإسلام وقع له في مرضه مثل هذا فقرئت عليه آيات السكينة فذهب ذلك، وهذه قضية مهمة جدًا يحتاج الإنسان أن يعمل بمقتضاها؛ فإن الشكوى المتكررة كثير من الناس.

هي باختصار حتى نستطيع أن ننهي هذا الآن -إن شاء الله- هي نافذة للشيطان أو باب، إذا فتحته دخل عليك وتسلط، باختصار: باب، نافذة، إذا فتحتها دخل، إذا ألقيت له بالاً في الوساوس التي يلقيها في قلبك، قد يكون للمسألة أصل؛ قد يكون هناك شيء من أثر عين، أو أثر سحر، أو أثر مس، أو أثر مرض أو غير ذلك، قد يكون شيء يسير، قد ينظر الإنسان إلى بثرة في يده، قد ينظر إلى بثرة في عينه، قد ينظر الإنسان إلى تغير في لون الجلد، قد ينظر إلى.. فإذا فتح باب الشيطان دخل عليه الشيطان، بدأ يعطيه من ألوان المخاوف، لربما يلقي في قلبه أن هذا مرض خطير فيبقى يكتم هذا أيامًا، ولربما أسابيع، ولربما لمدة شهور، فلا يذوق للطعام طعمًا، ولا يستطيع أن ينام، ويتكدر عيشه، لربما ظن أن به شيئًا من المس، أو السحر خاصة الذين يتحدثون من النساء عن هذا القضايا، أو يقرأون، حينما تقرأ الآن عن أوصاف الاكتئاب قد تتوهم أنك مكتئب، تقرأ عن الجن أو عن السحر تقول: كل هذه الصفات موجودة فيّ، تقرأ عن أوصاف العين فتجد أن هذه الصفات تقول: موجودة فيّ، وهذا الكلام غير حقيقي، ولهذا من الخطأ أن تنشر مثل هذه الأشياء، ومن أخطر ما يكون على الناس أن ينصتوا للقنوات التي يعبر فيها الرؤى فيتوهمون كل علة، ولذلك يأتي بعض الناس يبكي هنا وينتفض ويظن أن به بلاء ومسحور إلى آخره.

قبل أيام جاء أحد الإخوان في يوم الجمعة حاسر الرأس بعد الدرس الذي بعد العشاء، وجدته في الداخل حاسر وفي حال يرثى لها، وإذا هو يذكر أشياء من هذا القبيل، فأرشدته أن يذهب إلى بعض من له خبرة ومعرفة بمثل هذه الأشياء، ولا يتعجل ولا يحكم على هذا بأنه كذا أو كذا، وأنه ليس من المصلحة، وقد تلاعب به بعض الرقاة، الشاهد جاء يوم الأحد يضحك، فتبين له أن تلك الأمور العظيمة وتغير الصوت امرأة يتكلم فيها رجل، تغير الصوت أن ذلك ليس من ذلك في شيء، لكنه كان يتوهم ويتصور ويتخيل، وذهب به الأمر إلى ما قرب وما بعد، هناك من يحيك، هناك من يكيد، هناك من يعمل أعمال سحر، هناك أشياء، وإذا به هذا الذي يتكلم بصوت رجل هو فقط تغير في الصوت بسبب الغدة الدرقية، ترك العلاج مدة فاتصل بالطبيب فقال: الأوصاف والأعراض إذا ترك الدواء كذا وكذا وكذا وكذا، نفس الأعراض.

الشاهد جاء يوم الأحد يضحك وقال: لم يكن من ذلك شيء، مع أنه كان في حال يرثى لها، وقال: لم أصل فرضًا واحدًا إلا هذه الصلاة -صلاة العصر- منذ يوم الخميس، حتى الجمعة ما صليت، يقول: في رقية دائمة وكرب، وتبين أنه لا يوجد لا سحر ولا مس ولا شيء، فالشيطان إذا فتحت له الباب وألقى في قلبك شيئًا فتقبلته ألقى حجرًا آخر ثم ثالث ثم رابع ثم يتحول إلى هرم كبير لا تستطيع أن تقتلعه، فلا تفتح هذا الباب، وكثير من الناس يعرض لهم أشياء ويحصل لهم اضطرابات، ولربما يبقون الشهور والسنوات في معاناة لا حقيقة لها، ويزيده ما يذكر له في تعبير الرؤى، وما يفعله له بعض الرقاة، هو باختصار باب للشيطان إن فتحته تسلط عليك.

"المحبة لله هي روح العبودية، والأسباب الجالبة لها عشرة: قراءة القرآن بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ودوام ذكره على كل حال، وإيثاره على محاب النفس عند غلبات الهوى، ومطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومعرفتها، ومشاهدة بره ونعمه الظاهرة والباطنة، وانكسار القلب بين يديه، والخلوة به وقت النزول الإلهي، ومجالسة المحبين الصادقين، ومباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله".

هذا في محبة الله -تبارك وتعالى- يحتاج الإنسان أن يقف معها وأن ينظر فيها من أجل أن يتحقق بذلك، يعني على قدر ما يتحقق له من هذه الأمور بقدر ما يحصل له من هذه المحبة لله -تبارك وتعالى-، كيف نحب الله؟ وما السبيل إلى محبة الله لنا؟

قد تحدثت عن هذا تفصيلاً في الأعمال القلبية، كيف يكون العبد بهذه المنزلة، ثم ذكر هذه المراتب العشر، وشرحها وفصلها، ولعلي أشير إلى معناها فيكون ذلك مغنيًا عن سردها هنا:

أولها: العلاقة، هذه أنواع المحبة من حيث هي، وإلا فإن بعضها لا يصلح أن يكون مع الله -تبارك وتعالى-، لكن كما نقول: بأن الخوف مثلاً درجات، عندنا خوف، عندنا إشفاق، عندنا هلع، عندنا رعب، عندنا خشية، رهبة فهذه مراتب في الخوف، فكذلك أيضًا المحبة على درجات، الكراهية هي أيضًا على مراتب؛ عندنا كراهية، عندنا بغض، عندنا مقت. فهذه مراتب المحبة من حيث هي، ليس المقصود محبة الله -تبارك وتعالى-.

فأولها العلاقة، يقول: سميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب.

الثانية: الإرادة؛ وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.

الثالثة: الصبابة؛ وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور.

الرابعة: الغرام؛ وهي الحب اللازم للقلب الذي لا يفارقه بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه، ومنه سمي عذاب النار غرامًا.

الخامسة: الوداد؛ وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، والودود من أسماء الله تعالى.. إلى آخره.

السادسة: الشغف؛ يعني أن يصل الحب إلى شغاف القلب.

السابعة: العشق؛ وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، وهذا لا يليق أن يكون مع الله -تبارك وتعالى-، ونبه على هذا الحافظ ابن القيم[48]؛ لكي لا يقول الإنسان: أنا عاشق لله كما يعبر بعض الصوفية، لكن أيضًا كثير من النساء تسمي نفسها لربما عاشقة الجنان، عاشقة الجنة، عاشقة كذا، وإلا بعض الشباب: عاشق الجنة أو نحو ذلك، هذه العبارة تستعمل في العشق الذي هو التعلق بالنسوان أو نحو ذلك، عاشق الجنة، عاشقة الجنة، مثل هذا لو أن الإنسان ترك هذه العبارات.

الثامنة: التتيم؛ وهو التعبد والتذلل، يقال تيمه الحب أي ذلـله وعبده؛ وهذا لا يصح إلا لله.

التاسعة: التعبد؛ وهو فوق التتيم، فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقه فلم يبق له شيء من نفسه البتة، بل كله عبد لمحبوبه ظاهرًا وباطنًا، هذه حقيقة العبودية لله ، أما مع المخلوق فهذا نسأل الله العافية.

العاشرة: مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب، هذه هي المراتب للمحبة.

"ولها آثار وثمرات جليلة كثيرة؛ كالشوق، والأُنس، واليقين، والرغبة في الطاعة، وكراهة المعصية، ونحو ذلك".

إذا تحققت المحبة في قلب الإنسان اشتاق إلى الله وإلى لقائه، وكذلك صار يأنس به؛ إذا خلا يصلي ويذكر، وقد يستوحش من الناس ويأنس بالله، ولهذا كان بعضهم يأنس بالليل، بعض السلف وينتظر الليل ويشتاق إلى الليل من أجل مناجاة الله في ظلمته، يصلي قيام الليل.

وهكذا الرغبة في الطاعة إذا وجدت المحبة.

هذا ما يتعلق بهذا الكتاب، والحمد لله رب العالمين.

 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، برقم (6117)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (37).
  2. مدارج السالكين (2/257).
  3. مدارج السالكين (2/258).
  4. مدارج السالكين (2/258).
  5. مدارج السالكين (2/258).
  6. مدارج السالكين (2/259).
  7. المصدر السابق.
  8. مدارج السالكين (2/260).
  9. المصدر السابق.
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر السابق.
  12. المصدر السابق.
  13. المصدر السابق.
  14. المصدر السابق (2/261).
  15. مدارج السالكين (2/277).
  16. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الشح، برقم (1698)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1489).
  17. مدارج السالكين (2/279).
  18. مدارج السالكين (2/279).
  19. مدارج السالكين (2/279)
  20. مدارج السالكين (2/279).
  21. مدارج السالكين (2/279).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب فضل الإصلاح بين الناس، والعدل بينهم، برقم (2707)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (720).
  23. مدارج السالكين (2/281).
  24. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/261).
  25. الإكليل في استنباط التنزيل (ص: 55).
  26. بدائع السلك في طبائع الملك (1/510).
  27. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
  28. مدارج السالكين (2/277).
  29. مجموع الفتاوى (1/39).
  30. مدارج السالكين (2/295).
  31. مدارج السالكين (2/295).
  32. مدارج السالكين (2/295).
  33. مدارج السالكين (2/295).
  34. مدارج السالكين (2/295).
  35. مدارج السالكين (2/295).
  36. مدارج السالكين (2/297).
  37. مدارج السالكين (2/298).
  38. مدارج السالكين (2/299).
  39. مدارج السالكين (2/299).
  40. مدارج السالكين (2/300).
  41. مدارج السالكين (2/300).
  42. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  43. مدارج السالكين (2/368).
  44. مدارج السالكين (2/420).
  45. مدارج السالكين (2/471).
  46. المصدر السابق.
  47. المصدر السابق.
  48. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/116).

مواد ذات صلة