الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
36- ومن كتاب الاختيارات. القواعد 480-493‏
تاريخ النشر: ٠٤ / محرّم / ١٤٣٤
التحميل: 2320
مرات الإستماع: 2660

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف –رحمه الله-:

"المفهوم لا عموم فيه".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: العموم لا مفهوم فيه؛ ذكر هذا في سياق الكلام على حديث القُلتين: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث[1] وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الماء الذي ينجُس أن ذلك لا يختص بالكثير، وإنما أيضًا العبرة في القليل بالتغير، أن يتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة: الرائحة، أو الطعم، أو اللون.

ومن أهل العلم كما هو معلوم من يقول: إن القليل، يعني: ما دون القُلتين ينجُس بمجرد ملاقاة النجاسة، ومن أبرز الأدلة التي يستدلون بها على أنه يجنُس، ولو لم يتغير أحد أوصافه، أعني: القليل، مفهوم المُخالفة من حديث القُلتين، يعني: إذا كان المنطوق في حديث القُلتين: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث هذا المنطوق إذا بلغ القُلتين، يعني: فأكثر، مفهوم المخالفة أنه إن لم يبلُغ القُلتين فإنه ينجُس، يحمل الخبث، يعني: بمُجرد مُلاقاة النجاسة، هكذا قد يُفهم، فشيخ الإسلام كان يتكلم على هذه المسألة، ويُقرر أن الماء لا ينجُس إلا بتغير أحد الأوصاف الثلاثة سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، على ما فيها من الخلاف المعروف.

فكان مما احتج به، وأجاب عن قول القائلين بأنه ينجُس أن المفهوم لا عموم له، قال: يكفي أن يصدق ذلك على صورة من الصور، إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث، فما دونه قد يحمل الخبث في بعض الصور، فإذا وجدت صورة كالذي تغير أحد أوصافه؛ حصل المقصود، ولو حُمل على العموم لقيل: الماء إذا لم يبلغ القُلتين فإنه لا ينجُس مطلقًا إلا إذا تغير أحد الأوصاف، يعني: سواء كان قُلة واحدة، أو كان أقل من ذلك، فإنه لا ينجُس، وهذا المعنى أيضًا قرره الحافظ ابن القيم بأن المفهوم لا عموم له[2] مع أن الجمهور على أن المفهوم له عموم.

وأصل مأخذ المسألة، مسألة العموم، وهي مسألة مُهمة، هو هل العموم من عوارض المباني والألفاظ، أو مما يدخل في المعاني؟ هذا مأخذ المسألة، فطوائف من أهل العلم من الأصوليين، وغيرهم يقولون: إنه من عوارض الألفاظ، ولذلك تجدون التفسير المشهور للعام بأصول الفقه مثلاً ماذا يقولون: فيه؟

يقولون: هو اللفظ المُستغرِق ما يصلح له دُفعة بلا حصر من اللفظ، اللفظ المُستغرق ما يصلح له الرجال يستغرق الرجال ما يستغرق النساء مثلاً، أو غير الرجال الصبيان مثلاً، اللفظ المُستغرق ما يصلح له دُفعة ما تقول: جاء زيد، وعمرو، وخالد، وزيد، وعبد الله حتى تستوعب الذين جاءوا، لكن تقول: جاء الضيوف دفعة من غير حصر، يعني: من غير أن تذكر العدد، يعني: ما تقول: جاء عشرة، جاء مائة، فهذا حصر لفظي بعدد، لا، العموم ثوب يتسع لكل ما يدخل فيه من غير حصر، جاء الرجال، جاء الضيوف، جاء التلاميذ، جاء القادة، جاء الجُند، فمثل هذا يكون بهذه المثابة كل ما يصلح له، فهو داخل فيه، فالشاهد أن المأخذ المِفصل في هذه المسألة هو هذا، هل العموم من عوارض الألفاظ والمباني، أو يتصل أيضًا بالمعاني؟ يعني: هل العموم يؤخذ من اللفظ فقط، أو أنه يؤخذ من الألفاظ والمعاني؟ فمن قال: إن العموم يؤخذ من الألفاظ؛ قالوا: المفهوم لا عموم له؛ لأنه ليس بلفظ إنما فُهم المعنى من جهة المسكوت عنه، سواء كان مفهوم مُخالفة، وهو ما كان المسكوت عنه مُخالفًا للمنطوق.

حينما تقول مثلاً: أحسن إلى الفقراء، أحسن إلى الصالحين، صاحب الأخيار، مفهوم المُخالفة لا تُصاحب الأشرار، أما مفهوم الموافقة، فهو بنفس الاتجاه حينما يقول: الله : فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] لا تضربهما، لا تشتمهما، لا تزجرهما، من باب أولى، مفهوم الموافقة سواء كان أولوي، أو مساوي، لا تأكل مال اليتيم، لا تُحرق مال اليتيم، لا تُغرق مال اليتيم، لا تتُلف مال اليتيم بأي نوع من الإتلافات، لا فرق بينه وبين الأكل، هذا اسمه مفهوم موافقة مساوي.

الآن إذا قلنا: بأن المفهوم لا عموم له، فهذا يمكن أن يكون بناؤه على أن العموم من عوارض الألفاظ، ولا يختص بالمعاني، والأرجح أن العموم يؤخذ من الألفاظ، ومن المعاني على حد سواء، فحينما يقول: الله مثلاً: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] يدخل فيه عموم الرجال، سواء كان هذا الرجل قوي الشخصية، أو ضعيف الشخصية، سواء كانت المرأة قوية الشخصية حسنة التدبير، أو غير حسنة التدبير، الرجال كل الرجال قوامون إلا لدليل يُخصصه، وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] كل حامل فأجلها أن تضع الحمل، سواء كانت مثلاً مُعتدة للوفاة، وذلك أقصر، أربعة أشهر وعشرة أيام، أو كانت مساوية -يعني وضع الحمل-، أو كان أطول، وأولات الأحمال، كل حامل فأجلها هو وضع الحمل، وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [البقرة:228] كل مُطلقة تتربص أربعة قروء إلا ما ورد تخصيصه كالصغيرة، والآيسة، والحامل، يعني: ما خصه الدليل.

إذا قلنا: إن العموم يتصل بالألفاظ والمعاني، فهذا يدخل فيه أشياء مُتعددة، نأخذ منها العموم، منها ما هنا المفهوم بنوعيه: مفهوم المُخالفة، ومفهوم الموافقة، حينما تقول: صاحب الأخيار، مفهوم المُخالفة: لا تُصاحب الأشرار، كل الأشرار، أيًّا كان نوع الشر الذي هم فيه، فهذا يدل على العموم، العموم من جهة المسكوت عنه، عموم المفهوم، والعموم يؤخذ أيضًا من أشياء أخرى غير المفهوم، أشياء كثيرة، منها العِلة في القياس، العِلة كما قال في المراقي:

وقد تُخصص وقد تُعمم لأصلها لكنها لا تخرِم[3]

فالعِلة أحيانًا تكون تُعمم إذا فهُمت العلة، لماذا حُرم هذا الشيء، فخلاص حيث وجدت العلة وجد الحُكم، فإذا فهمنا العلة قد لا نتقيد بما ورد معها من اللفظ، فيؤخذ من هذا النوع، ويؤخذ من أشياء أخرى، العموم غير موضوع العلة، وغير موضوع المفهوم، وليس الحديث الآن في أنواع العموم، ومما يُستمد العموم، ويُستدل به عليه، لكن الراجح أن العموم يؤخذ من الألفاظ ومن المعاني، إذا كان يؤخذ من المعاني أيضًا كالمفهوم، مفهوم المُخالفة، ومفهوم الموافقة، هنا أمام مفهوم مخالفة حديث القُلتين: إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث والحديث صحيح، فمثل هذا الآن إذا أخذنا بمُقتضى أن العموم يؤخذ من المفهوم، فقد يُفهم أنه إذا كان دون القُلتين؛ فإنه يحمل الخبث، وقلنا: إن الراجح أنه لا يحمل الخبث إلا إذا تغير أحد أوصافه، فكيف الجواب: عن هذا الإشكال؟

يعني: إما أن يُقال بأن القواعد أغلبية، وهذا خرج عنها، وقد لا يكون هذا الجواب كما ينبغي في هذا الموضع، وإما أن يقال إذا بلغ الماء قُلتين أنه لا عموم فيه أصلاً من جهة اللفظ المنطوق إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث ولا عموم فيه من جهة المفهوم، يعني: في المفهوم ما عندنا إلا صورة واحدة، وهي صورة الماء القليل الذي لم يبلغ القُلتين، ما فيه تعدد، ما فيه عموم أصلاً، حتى يُقال: إنه هنا ينطبق عليه هذا الأصل: أن العموم يؤخذ من المعاني، ومن ذلك مفهوم المُخالفة، ما عندنا أصلاً في هذا المثال ما في عموم لا في المنطوق، ولا في المفهوم، فما ينطبق عليه أصلاً، ولا يرد الإشكال، هذا احتمال.

وإن كان عند التأمل قد يُقال غير ذلك، قد يُقال: مفهوم المُخالفة هنا قد يصدق على صور مُتعددة في الماء الذي لم يبلغ القُلتين، وهناك يمكن أن يُجاب بجواب آخر ثالث، وهو أن هذا الحديث جاء جوابًا على سؤال، وهذا في ظني أحسن هذه الأجوبة التي يمكن أن نُجيب فيها، جاء جوابًا على سؤال، والمفهوم حُجة، مفهوم المخالفة عند الجمهور حُجة، بصرف النظر عن موضوع العموم، أو غير العموم.

لكن مفهوم المُخالفة من أصله لا يكون مُعتبرًا في حالات معينة، هذه الحالات لا يكون مفهوم المُخالفة فيها مُعتبرًا، وهذه واحدة منها، ودع إذا الساكت عنه خافا[4] طبعًا هذا لا يرد في كلام الله لكن في كلام الناس؛ لأن كلام الناس له مفهوم كما هو معلوم، وكذلك الجهل، وهذا لا يرد في كلام الله ولا كلام رسوله ﷺ يعني: هو تكلم في حد ما يعلم، الناس العاديين، ولا يعلم أصلاً غير ذلك؛ فمفهومه غير مُعتبر، أو جاء هذا المنطوق للسؤل، جوابًا على سؤال، هذا الشاهد هنا عندنا، جوابًا على سؤال، فهذا الجواب على سؤال لا مفهوم له؛ لأن المقصود هو الإجابة عن السؤال فقط، للسؤل، أو جرى على الذي غلب[5] جرى على الذي غلب، يعني: بناء على الغالب، ففي هذه الحال، أو وفاق الواقع أيضًا مثل: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] هذا مفهوم شرط، يعني: المفهوم أنها إن لم تُرد التحصن فلا بأس، وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ [النور:33] فتياتكم، يعني: الإماء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33] مفهوم المخالفة أنها إن لم تُرد التحصن هي تُريد الزنا أصلاً، ولا تُبالي؛ فلا حرج، هل هذا المفهوم صحيح؟

الجواب: لا، لماذا، ونحن نقول: إن المفهوم حُجة؟ هنا؛ لأنه جاء النص وفاقًا لواقع مُعين، يتحدث عن قضية واقعة مُعينة، وفاق الواقع، فهنا عبد الله بن أُبي كان له جاريتان، وكان يُكرههن على الزنا والبغاء بأجرة؛ فنزلت الآية وفاقًا للواقع.

مثل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28] هنا المفهوم غير مُعتبر، لو جاء إنسان، فقال: أنا أوالي المشركين مع المؤمنين، وليس من دون المؤمنين، نقول: له: لا، لا يجوز موالاة المشركين سواء كانت دون المؤمنين، أو كانت مع المؤمنين، وهذه الآية لماذا لا نعمل مفهوم المخالفة، أنه إن لم يكن من دون المؤمنين، يعني: ما هو بضد ناس من المؤمنين فلا بأس، فيقال: هذه إحدى الحالات التي لا يُعمل بها بمفهوم المُخالفة، أو وفاق الواقع، إلى غير ذلك من الحالات.

لكن هنا هذه إحدى الحالات، وهو ما جاء جوابًا على سؤال، وننتهي من إشكال حديث القُلتين أصلاً، ونقول: المفهوم حُجة، مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، وله عموم، فالعموم يؤخذ من الألفاظ، ويؤخذ من المعاني على الراجح، وهذا قول الجمهور، ولذلك ما تجدونه في كتُب أصول الفقه كثيرًا يقول: العام هو اللفظ المُستغرق لجميع ما يصلح له[6] نقول: هذه اللفظة ضع تحتها خط، فيها نظر، إذًا ماذا نقول: حتى نُدخل المعاني؟

نقول: العام ما استغرق الصالح دفعة بلا حصر من اللفظ، كعشر مثلاً، ما استغرق، فما هذه تفيد العموم، يدخل فيها الألفاظ، ويدخل فيها المعاني، ما استغرق الصالح، هو ما يستغرق ما يصلح له دُفعة بلا حصر، عرفتم مأخذ المسألة، فهنا المفهوم لا عموم له قاله شيخ الإسلام نعم في هذا السياق، في الكلام على حديث القُلتين، وقاله الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أيضًا[7] وظاهر من كلامه أنه يُريد ذلك جيدًا، ويحتج له -والله تعالى أعلم- هذه مسألة المفهوم.

مداخلة... [16: 2]

كيف يُقال: إنه أغلبي؟ أن أغلب الماء قُلتين، هي أكثر من قُلتين، في الغالب، يحتمل، ممكن يُقال هذا الجواب، فيكون مفهوم المخالفة أيضًا لا عبرة له، فيُحمل على الصورة الثانية من الصور التي لا يُعتبر فيها مفهوم المُخالفة، لو قيل مثلاً بأن هذا المنطوق إذا بلغ الماء قُلتين جرى على الغالب، ويمكن أن يُجمع بينهما، فيقال: أصلاً هذا جواب على سؤال، ثم إنه في الغالب، وإلا فالكثير قد يتغير بالنجاسة، قد يبلغ القُلتين، وأكثر، ويتغير بالنجاسة، أليس كذلك؟ لكن باعتبار الغالب، فيكون اجتمع فيه مانعان من اعتبار مفهوم المخالفة ممكن.

"الاستحالة تقلب الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا على الصحيح".

الاستحالة تقلب الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا على الصحيح، هذا صحيح، مثل ماذا؟ الاستحالة، لو تحولت الجيفة الميتة إلى ملح، الميتة نجسة أليس كذلك؟ إذا تحولت إلى ملح، أو حُرقت؛ فتحولت إلى رماد تمامًا، هذه الاستحالة تُصيرها إلى عين أخرى الآن، ومثل الخمر في الدن، وعاء الخم،ر تحولت من غير عمل الإنسان، ومعالجته إلى خل، الخل طاهر، أو نجس؟ طاهر، والخمر فيها الخلاف المعروف في عينها، لكن على القول بأنها نجسة العين، والمقصود التمثيل، وإلا فالأقرب أنها نجسة نجاسة معنوية، لكن على القول بأنها نجسة العين، فإذا تحولت إلى خل؛ فإنها تطهر، ويكون الإناء الذي هي فيه طاهرًا، مع أنه كان إناء للخمر يُلابس النجاسة عند القائل بذلك ما يحتاج إلى غسل؛ إذا تحولت إلى خل.

فهنا يقول: بأن الاستحالة تقلب الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا على الصحيح، المسألة فيها خلاف، وهذا هو الأقرب، فإذا تحولت العين؛ فلا إشكال، وهذا أيضًا له صور أخرى، الاستحالة تقلب الطيب النباتات الآن، الثمار إلى آخره حينما تُسقى من مياه نجسة، ومن أعزكم أسمدة نجسة، ونحو ذلك؛ فالثمر الذي يخرج يكون طاهرًا، أو نجسا؟ طاهرًا، إذا أشكل عليك المقصود التمثيل، انظر إلى الأشجار المُرتفعة كالنخيل، هذه بلا إشكال طاهر، يعني: بعض الناس قد يستشكل النباتات كالخضروات، والأشياء التي تكون قصيرة، وصغيرة فإنها تتأثر بالنجاسة أكثر من غيرها مع أن الاستحالة تحولها.

كذلك أيضًا المياه المُعالجة الصرف الصحي إذا ذهبت أوصاف النجاسة كلها تطهر، أو لا تطهر؟ تطهر، عُولجت؛ فذهبت أوصاف النجاسة، كون أن الإنسان يستقذر هذا، هذا أمر آخر، لكن الكلام على الطهارة، هل تكون طاهرة، أو نجسة، يعني: سواء كانت هذه الاستحالة بفعل الإنسان، أو بغيره، طبعًا بالنسبة للخمر لا يجوز لأحد أن يُخللها، بل يجب إتلافها، لكن لو أنها تخللت من غير فعل الإنسان.

"قد أمر الله في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة، والثاني أشد من الأول".

غض البصر نوعان: غض البصر عن العورة، يعني: لا ينظر إلى العورة عمومًا، يعني: ليس هناك ارتباط بين العورة، والشهوة، غض البصر عن العورة، الآن لو أن رجلاً خرج بلباس قصير، بسراويل قصيرة، أو كما يفعل بعض الرجال جالس، ولا يُبالي، وقد لبس سروالاً قصيرًا، وأخرج ما وراء ذلك، ويقول: أنا رجل، كما يفعل بعض الناس، يعني: الحياء عنده ليس بذاك، ويقول: أنا رجل، والرجل ليست له عورة؟، فقد يكون هذا الإنسان، النظر إليه لا يُحرك الشهوة، ولا يُحرك الغريزة، لكن هل يجوز النظر، أو يجب غض البصر؟ يجب غض البصر عن العورة.

قد يجلس ناس كبار السن فيما يُسمى بالحمامات قديمًا، التي يُسخن فيها الماء، ونحو ذلك، ويلبسون سراويل قصيرة، هل يجوز النظر إلى هذه العورات المكشوفة؟ الجواب: لا، يجب غض البصر، قد يتولى الإنسان تنظيف مُسن، يعني: كالذين يقومون على المُستشفيات، أو لأب مريض، أو هرم، أو نحو ذلك، أو البنت على أمها، فإنه يجب مع ذلك غض البصر ما أمكن، مع أن هذه القضية لا يتعلق بها ربما شهوة.

فهنا عندنا غض البصر عن العورة هذا واجب، بصرف النظر عن الشهوة، يعني: قد يقول قائل: هذا لا تتحرك الغريزة بالنظر إليه، فغض البصر عن العورة واجب، ويدل عليه عموم قول النبي ﷺ: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة[8] فما قيده هنا بوجود الشهوة، قد تكون هذه المرأة دميمة قد تكون كبيرة في السن، ولربما تترخص في تغيير ملابسها، ونحو ذلك عند أهلها، أو عند بناتها، أو أخواتها، أو نحو ذلك، فهل يجوز النظر؟ لا، يجب غض البصر.

فهذه أدلة غض البصر عن العورة، ويدل على ذلك أيضًا الآية، وهي قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] ثم قال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] فقوله: يغضوا من أبصارهم حمله ابن جرير -رحمه الله- وبعض المُفسرين على أن المقصود يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ: فلا ينظرون إلى العورات، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ: فلا يُبدونها للناظرين[9] بقرينة أنه قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فالأمران بينهما ارتباط من هذه الحيثية مما يتصل بالنظر في رأي هؤلاء، يحفظوا فروجهم، فهو مأمور بغض البصر، وأيضًا لا يكون هناك أيضًا دواعي للنظر، وانفلات، وتبذل، ثم يُطالب الناس بغض الأبصار، يعني: تبقى العورات مكشوفة، والتبذل على أشُده، على الشواطئ، وغيرها كما في بعض البلاد، ثم يُطالب الناس بغض البصر، نعم هو يجب عليهم غض البصر أيضًا، ويجب عليهم أن يحفظوا فروجهم، على هذا التفسير، وهو معنى صحيح، ولكن الحفظ يشمل هذا، وهذا -والله أعلم- حفظ الفروج من الانكشاف، ومن مُقارفة ما حرم الله -تبارك وتعالى- فيدخل فيه هذا وهذا، وقد مضى الكلام على هذا المعنى في تفسير، أو في التعليق على سورة النور.

هنا يقول: أمر الله في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، والنبي ﷺ يقول: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك[10] احفظها من أجل ماذا؟ من الانكشاف، وأيضًا يدخل فيه مُقارفة ما حرم الله -تبارك وتعالى- لكن لا يحصل التكشف إلا في هذا، ومن هنا أخذ بعض أهل العلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتعرى من غير حاجة، مع أن هذا ليس بصريح فيه، وقد ورد في بعض الروايات، أو الأحاديث التي لا تخلو من ضعف، لكن الله أحق أن يُستحيا منه، وهذه عادات عند بعض الكفار سرت إلى بعض المسلمين، يعني: ينام الواحد، وللأسف في مجتمعنا بدأ بعض الناس يسألون عن حكمها، إذا نام الواحد يتعرى من غير حاجة، ينام لوحده في غرفته، ويتعرى، لماذا؟ لا أدري لتتبعن سنن من كان قبلكم[11] هذه عادة موجودة عند الروس، ومن خالطهم، وموجودة في بعض البيئات الأخرى، لكنها في الأصل ليست من عادات المسلمين.

فالشاهد هنا قال: وغضها عن محل الشهوة، الأول قلنا مثل غض البصر عن عورة الرجل الذي لا تتحرك الغريزة بالنظر إليه، والثاني: كغضها عن الزينة الباطنة كما قال الله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31] فهذا؛ لأنه يُحرك النفوس، ويتصل بالشهوة، وهنا لا يجوز النظر إلى وجوه النساء، أو إلى أجسادهن، أو غير ذلك، فهنا لك الأولى، وعليك الثانية، فإذا كان النظر تتحرك معه الشهوة، يعني: في محل الشهوة، فهذا الغض فيها أوجب، والنظر فيه أشد؛ لتحقق العلة بأكمل صورها، يعني: إذا كان يجب غض البصر، وإن لم توجد شهوة، غض البصر عن العورات، فكيف إذا وجد محل الشهوة كالنظر إلى الحِسان ممن تتعلق نفوسهم بالمردان، أو ممن ينظر أيضًا إلى النساء، أو إلى أجسادهن، أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز، لك الأولى، وعليك الثانية، واضح الفرق بين نوعي غض البصر، فيكون الحكم آكد، والتحريم أشد؛ إذا كانت العلة أوفى.

مداخلة... [27: 29]

الحرج الشرعي في التعري، طبعًا وردت فيه روايات، لكن لا تصح، لكن الحرج أن الله أحق أن يُستحيا منه، أنا لا أقول: إنه حرام، ولا أقصد كون الإنسان مع أهله في لحاف واحد، هذا لا إشكال فيه، لكن أتكلم عن الذي ليس معه زوجته، ولا المرأة مع زوجها، إنما لوحده، ويتعرى، لا ينام إلا مُتعريًا، هذا أولاً الله أحق أن يُستحيا منه.

ثانيًا: أن هذا قد يكون محلاً لتلاعب الشيطان به حسًا ومعنى، يتسلط عليه الشيطان؛ ولذلك في معالجات الانحرافات، والأمور، والسلوكيات التي لا تليق، والتي لا تجوز، ولا تحل، عادة يوصى مثل هذا الإنسان المُبتلى ألا يلبس اللباس الخفيف، ألا يذهب إلى فراشه مُبكرًا إلى آخره، حتى يُغالبه النوم، فكيف بهذا الذي يذهب، ويتعرى، فالله أحق أن يُستحيا منه، أقصد التعري الكامل.

"من ترك شيئًا لله؛ عوضه الله خيرًا منه".

هذا ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في جُملة فوائد غض البصر، وغض البصر يحصل بسببه لذة يعوض الله بها هذا الإنسان، ولهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكما مضى في الكلام على الأمثال في القرآن اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] ذكر هذه الآية بعد الأمر بغض الأبصار، فيؤخذ فيما يُسمى بعلم المُناسبة، والارتباط بين المقطع والمقطع، أو الآية والآية، أن ذكر هذه الآية، آية النور بعد الأمر بغض البصر، أن غض البصر عمَّا حرم الله -عز وجل- يكون سببًا لما يقذفه الله ويعوضه لمن غض بصره، من استنارة القلب، وانفتاح البصيرة، فالجزاء من جنس العمل، بهذا الاعتبار.

فالله يعوضه، يعوض هذا الإنسان الذي يغض بصره، يعوضه من لذة الإيمان، يعوضه لذة عن هذا الأمر الذي يحتاج إلى شيء من الصبر والمُجاهدة، وهنا في كتاب القواعد الحسان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ذكر فائدة، وهي القاعدة التاسعة والستون: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه[12].

يقول: فمنها ما ذكره الله عن المُهاجرين الأولين الذين هجروا أوطانهم، وأموالهم، وأحبابهم، فعوضهم الله الرزق الواسع في الدنيا، والعز والتمكين لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8].

وكذلك قال: وإبراهيم لما اعتزل قومه، وأباه، وما يدعون من دون الله؛ وهب له إسحاق ويعقوب، والذرية الصالحين، وهذا مضى الكلام عليه في التعليق على المصباح المنير فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ يعوضه الله بالأولاد الذين ينسونه الأهل، والوطن، والعشيرة، فرتب هذا على هذا؛ من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.

يقول: وسليمان لما ألهته الخيل عن ذكره ربه؛ فأتلفها -على هذا القول في التفسير- عوضه الله الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ۝ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:36-37].

وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم، وما يعبدون من دون الله؛ وهب لهم من رحمته، وهيء لهم أسباب التوفيق، والراحة، وجعلهم هداية للضالين، وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91].

يقول: ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله؛ عوضه من محبته، وعبادته، والإنابة إليه ما يفوق جميع لذات الدنيا، ومن تتبع هذا؛ وجد أشياء في الكتاب والسنة جيدة، يحسُن جمعها وتدبرها.

"ومن أراد السلامة من فتن التعلق بالعشق، والنظر المُحرم؛ فليستعن بالله، وليداوم على الصلوات الخمس، والدعاء والتضرع وقت السحر، وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع، وليُكثر الدعاء يا مُقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، وطاعة رسولك، وليُبعد عن مواضع الفتن، وليتعوض عنها بالحلال الطيب".

هذه إذا فصلتها تجد أنها جُملة من الأمور التي يُستعان بها على مُدافعة ما قد يُبتلى به بعض الناس من تعلق القلب والعشق والنظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى- فإن هذه أمور يصعب لمن ابُتلي بها أن يتخلص منها، وأن يُدافعها، وهي نار تضطرم في قلب الإنسان، ويُعذب بذلك في الدنيا قبل الآخرة، ويكون ذلك صادًا، وصارفًا له عن كثير من الخير والمعروف، والبر والتقوى، ويظهر أثر ذلك على عقله وجسده وعافيته وعبادته، وما إلى ذلك من مصالحه الدنيوية والأخروية، فالحب كما قال بعضهم، أعرابي لما سُأل؟ قال:

الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسنِ[13]

والآخر يقول:

وللحب آيات تُبين بالفتى شحوب وتعرى من يديه الأصابع[14]

يعني: يبدأ الشحوب على الوجه، والأصابع عظام بادية، بارزة، والسبب على ماذا؟ على امرأة -أعزكم الله- تذهب إلى الخلاء، ولربما ما تطمح إليه نفسه منها هو مجمع أقذر القذر الذي يمكن أن يتصوره الإنسان، أو أن يتخيله، أنواع القذر، أنواع أقذر القذر، ولكنها الشهوة حينما تطغى على العقل؛ تُعميه، وإلا لو تفكر الإنسان لربما كان ذلك مُنفرًا له عن بعض الحلال، ولكن الله ركب هذه الشهوات في الناس.

فالمقصود أن تأمل مثل هذه الأشياء، والنظر فيها، والاستعانة بالله، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، إلى آخره، وجماع ذلك أن هذا العشق والتعلق والنظر إلى الحرام إلى آخره إنما ينتج عادة من أين؟ ينتج من فراغ القلب، القلب الفارغ تتسلل إليه مثل هذه الآفات، فيتعاظم المخلوق؛ ابن القيم -رحمه الله- ذكر للمحبة عشر مراتب، يذكرها أهل العلم غير ابن القيم أيضًا، عشر مراتب، من مراتبها العالية المرتفعة مرتبة العشق[15] وهي مذمومة، ومُشغلة للقلب، وما إلى ذلك، ولذلك بعض الناس تجد في التويتر، أو في رسائلهم، أو في المنتديات، كثير من النساء عاشقة الجنة، عاشقة رضا الله، هذا لا يُعبر به، يقال: مُحب الجنة، مؤثر الجنة، الراغب في الجنة، أما العشق، عاشقة الجنة!، فالمقصود أن جماع ذلك هو أن يُملأ القلب بمحبة الله -عز وجل- وتعظيمه، فإذا امتلأ القلب من هذا؛ لم يعد فيه محل لمثل هذه التوافه، هذا باختصار يعني، هذا اختصار لكلام طويل يمكن أن يُسرد في أوقات طويلة، يُذكر فيها ما يذكره أهل العلم في هذا الباب، وما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- يرجع إلى هذا، مع الدعاء.

فيوسف قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] قال: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34] فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والانشغال بأمور أخرى، الانصراف عن السبب المُحرك والمُثير، السمع والبصر يُغذيان هذه الشجرة السيئة في القلب، فإذا انقطع عن النظر، أو انقطع عن السماع، سماع صوت هذا المحبوب؛ فإن القلب يسلو، قد يجد بعض المعاناة تحتاج إلى شيء من المجاهدة في البداية، لكن القلب يسلو بعد ذلك، ينتهي، فلا بد من قطع المادة، وإقبال القلب على ما ينفعه، وذلك كان من الأشياء المُهمة الاشتغال، يعني: كثرة النظر في معاني أسماء الله الحُسنى؛ لأنها تورثه كل معروف وبر وخير، فالقلب لم يعد يتعجب إذا امتلأ قلب المؤمن بهذا محبة الله، وتعظيمه إلى آخره، يتعجب لما يسمع كلام الشعراء، كيف يصف امرأة، وكيف يصف قلبه معها، وانشغاله، وإلى آخره، يقول: الأمور كيف تبلغ هذا المبلغ لهؤلاء الناس، أين هي هذه المحبوبة التي جُن بسببها قيس، أو غيره، لو أُخرجت من قبرها بعد ثلاثة أيام، كيف تكون حالها؟

الناس يحتاجون إلى كمامات، أطباق من الكمامات، أو لا؟ ولو أنها بقيت، مضى عليها سنون، وهي على الحياة؛ فإن جمالها يذهب، ويتحول، وتكون شمطاء إلى آخره، لو قيل لأحد: ترغب فيها، نزوجك إياها، ونعطيك أضعاف المهر، لما قبل، أليس كذلك؟

على كل حال فأقول: القلب إذا مُلئ نحتاج فيه هذا المعنى حتى نملأ هذا القلب كثرة النظر في معاني الأسماء الحُسنى، وكثرة النظر في أحوال القلب، والأعمال القلبية التي منها المحبة، والخوف، والرجاء، والمراقبة إلى آخره، فإذا كانت هذه زاكية، حية في القلب؛ لم يعد لهذه الأمور أصلاً محل، المحل لا يكون قابلاً، لكن القلب الفارغ تُسرع إليه مثل هذه الأشياء، كالماء ينحدر من علو.

وليُبعد عن مواضع الفتن، وليتعوض عنها بالحلال الطيب، يُبعد عن مواضع الفتن، من عرض نفسه للفتنة أولاً؛ لم ينجو منها آخرًا، يُعرض نفسه للفتنة، وينظر إلى ما حرم الله ثم يريد أن يسلم قلبه، هذا لا يكون، وكذلك التعوض بالحلال الطيب، ولهذا أرشد النبي ﷺ من نظر إلى امرأة أعجبته أن يرجع إلى أهله، أن يأتي أهله، والعلة أن عندها ما عند تلك، فهذا من العلاجات أن الإنسان يتعوض بالحلال، والكلام في هذا يطول على كل حال.

"الذي تتوافر الهمم، والدواعي على نقله هو الأمور الوجودية، وأما الأمور العدمية فلا، إلا إذ احتيج إليها".

هذا ذكره شيخ الإسلام، وهو مُفيد في كثر من القضايا لطالب العلم ذكره في سياق الرد على من قال بأن، يعني: الجهر بالبسملة سُنة، ومما احتج به قال: لو لم يكن الجهر سُنة لتواتر عن النبي ﷺ أنه لم يجهر، كيف تقول هذا؟ تقول: لو كان ما يجهر كان تواتر النقل أنه لم يجهر؟! يقول: شيخ الإسلام: هذه الطريقة غير صحيحة، فإن نقل العدم خلاف الأصل إلا في بعض الحالات، فهنا يُنقل يقال لم يكن يفعل كذا، وإلا فالأصل أن الناس لا ينقلون ذلك، فيقولون: كان لا يفعل كذا، كان لا يفعل كذا، كان لا يفعل كذا، وإنما تتوافر الهمم لنقل الوقائع والحوادث والأمور الوجودية، أما كان لا يفعل كذا، كان لا يقول: كذا، فهذا بالعادة لا ينُقل إلا إذا وجد السبب.

يقول: فلما لم يكن الجهر بالبسملة بالنسبة للنبي ﷺ ولا بالنسبة أيضًا لأصحابه كالخلفاء الراشدين، ونحو ذلك، يقول: فلما وجد الجهر بعد ذلك من قِبل بعض الناس؛ احتيج إلى هذا النفي أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بها، لكن قبل ذلك في عهد أصحاب النبي ﷺ ونحو ذلك ما كانت هذه القضية تتوافر الهمم والدواعي على نقل النفي فيها، وإلا فكل من يُريد أن يُثبت شيئًا يمكن أن يحتج أنه لم يُنقل النفي له تواترًا، فكونه أنه لم يُنقل نفي ذلك ليس بحُجة؛ لأن ذلك ليس من شأنه أن يُنقل، يعني: النفي، إنما الذي يُنقل هو الأمور الوجودية، وهذا غير قاعدة، أو الكلام في مسألة المُثبت مُطالب بالحجة، أو النافي مُطالب بالحُجة، بعض الناس ماذا يقولون: في هذا؟

يقولون: المُثبت مُطالب، والنافي غير مُطالب، لماذا؟ يقولون: لأن الأصل العدم، والواقع أن هذه أيضًا ليست على إطلاقها، لكنها غير موضوعنا هذا، واضح الفرق؟ هذه ليست على إطلاقها، لكنها غير الموضوع الذي نحن فيه، فأحيانًا يُطالب النافي، وأحيانًا يُطالب المُثبت.

"ما لا يُشرع قد يُستحب لمصلحة راجحة، كتعليم، ونحوه".

هذا مضى أيضًا أمثلة عليه في مثل الاختيارات، أليس كذلك؟ اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومثلنا عليه ما لا يُشرع قد يُستحب لمصلحة راجحة، كتعليم، ونحوه، كالجهر بالبسملة مثلاً، قد يجهر بها الإمام بعض الشيء، وإن كان الجهر على مراتب، يجهر تعليمًا للناس أنها تُقرأ مع الفاتحة، إذا كان هؤلاء الناس لا يعلمون، فهنا قد يُستحب، وقد يجهر بها تأليفًا للقلوب؛ لأنه يصلي مع قوم، أو يُصلي بقوم يرون وجوب، أو يرون استحباب الجهر، لكن العامة قد يرون أن ذلك من شروط صحة، أو من أركان الصلاة -كما هو معلوم- أن بعض العامة لجهلهم قد لا يُصحح الصلاة التي لم يجهر فيها الإمام.

وكذلك مسألة دعاء الاستفتاح قد يجهر به الإمام تعليمًا لمن خلفه، وقد يجهر ببعض الآيات في السور، في الصلاة السرية، أو يجهر بشيء من صلاة الجنازة؛ تعليمًا لمن خلفه، كيف يصلون، ماذا يقولون إذا كبر؟ فهذا للتعليم، فيكون هنا ما لا يُشرع قد يُستحب لمصلحة راجحة، كتعليم، ونحوه، ونحوه، يعني مثل: دفع فتنة، تأليف القلوب، وما أشبه ذلك، فهذه كلها من المصالح، كل هذا من المصالح.

مسألة القنوت، هل هو قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ هل يقنت في المكتوبة، أو لا يقنت؟ هل يقنت في الوتر، أو لا يقنت؟ أو يقنت أحيانًا؟ فقد يفعل ما يعتقد أنه خلاف المشروع؛ لتأليف القلوب مثلاً، بعضهم قد يرى أن القنوت في الوتر، وأنه لا يُترك، فيُصلي لقوم لا يرون القنوت في الوتر مثلاً، فيترك القنوت؛ تأليفًا للقلوب، أو قد يترك ذلك ليُبين أنه ليس بواجب، فهذا لا إشكال فيه، قد يتُرك المشروع، قد لا يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والغاشية، قد لا يقرأ في صلاة فجر الجمعة بالسجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر؛ ليُعلمهم أن ذلك غير واجب، وهكذا في أمثلة كثيرة، وقد مضى الكلام على هذا.

 "الإكراه على الأفعال المحرمة يُبيحها الشرع عند أكثر العلماء، وذهبت طائفة إلى أنه لا يُباح إلا الأقوال دون الأفعال، وعلى المُكره على شيء من ذلك أن يكره ذلك بقلبه، ويحرص على الامتناع بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله، وقد يُعافى ببركة صدقه بالأمر بذلك".

هذه مسألة مهمة، قضية الإكراه هل تختص بالأقوال، أو أنها تكون بالأقوال، والأفعال؟ يقول: الإكراه على الأفعال المُحرمة يُبيحها الشرع عند أكثر العلماء، وذهبت طائفة إلى أنه لا يُباح إلا الأقوال، دون الأفعال، وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- وقبله هو مروي أيضًا عن ابن عباس قالوا: إنما التُقية باللسان[16] وقد يحتج هؤلاء بحديث الذُباب: قالوا قرب، فأحدهما قرب ذُبابًا؛ فدخل النار، والآخر لم يُقرب، فقتلوه، فدخل الجنة[17] لكن الحديث ضعيف، يعني: مفاد الحديث أنه لم يكن ثمة رُخصة في الفعل، ولكن الحديث ضعيف، ومن هنا بنى بعض أهل العلم كما في بعض كتب التوحيد، أو حواشي كتب التوحيد، أو نحو ذلك، أو بعض الفتاوى لبعض هؤلاء العلماء في بعض فتاواهم أن ذلك يُقيد بالأقوال مثلاً، فهذا الظاهر أنه لا دليل عليه، وأنه لا فرق بين الأقوال والأفعال، وأنه قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] هذه في قضية مُعينة في بلال -رضي الله تعالى عنه- ومن معه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا في مسألة الكفر، وذلك يكون في الكفر وما دونه، لكن العلماء تكلموا على بعض الصور مثل إكراه الرجل على الزنا، هل يكون عذرًا، أو لا؟ باعتبار أن المُكره لا يحصل له انتشار أصلاً مثلاً، فبعضهم يقال: لا يُعذر، وبعضهم قال: يُعذر، ثم هذا الإكراه على مراتب وأنواع، وقد مضى الكلام على شيء من هذا.

الخلاصة أن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن الإكراه يكون في الأقوال والأفعال ولا فرق، الإكراه المُعتبر شرعًا، سواء في قضايا الكفر أو ما دونه، فهذا لا إشكال فيه إذا وجد الإكراه المُعتبر، وهذا كلام شيخ الإسلام هنا -رحمه الله- يقول: عند أكثر العلماء، ومن الخطأ أن أحدًا يقرأ كلمة لأحد أهل العلم في حاشية من حواشي كتاب التوحيد، أو نحو ذلك، ثم يتمسك بها، ويبني عليها أحكامًا، ويوالي عليها ويُعادي، ويُكفر الناس، ويُجهل أهل العلم الذين لا يقولون بهذا، وهو لم يطلع على كلام أهل العلم، ولم يعرف حكمهم، وكلامهم، ورأيهم، وأقوالهم في هذه المسألة.

فالإكراه يكون في الأقوال والأفعال، والإكراه أنواع، ومن ثَم فمسألة تحقق الشروط وانتفاء الموانع مسألة دقيقة، وليست بالسهلة، ولا يصح أن يجترئ عليها من هب ودب ودرج، يأتي من لم يحضر مجلسًا واحدًا في العلم، ثم يأتي، ويتكلم في هذه المسائل الكِبار، ويرشق الناس بالكفر، بجهل، هذا لا يجوز، أنا أظن أن هذا لو أنه بقي في لهو، وغفلة، واشتغال بالشهوات، فذلك خير له أضعاف المرات من هذا البلاء الذي اُبتلي به، هذا أمر عظيم، فلو بقي في شهواته ينغمس خير له من أن ينغمس في الدماء، والحكم على الناس بالكفر، ونحو ذلك بجهالة، وهكذا غيره ممن يرميهم بالضلالة والبدعة والزندقة، ونحو ذلك، وقد جمع بين سواد القلب، وسواد الوجه، مُجرد أنهم خالفوه في الرأي والاجتهاد، أو أحسنوا الظن بزيد أو بعمرو، هذا لو جلس يغرق في الشهوات، ويلهو مع اللاهين، ويرقص مع الراقصين، ويطرب مع المُطربين؛ لكان خير له أضعاف المرات من هذا الاشتغال بعباد الله الصالحين، فمثل هذا لا شك أنه بلاء وحرمان، ويدل على -نسأل الله العافية- قلة التوفيق لمن اُبتلي بهذا أو هذا.

"ومن كان له ورد مشروع، من صلاة الضحى، أو قيام الليل، أو غير ذلك، فإنه يُصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده بالمشروع؛ لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرًا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومُفسدات الإخلاص".

هذا صحيح، وهذا قاله في سياق الرد على من يُظهر الأعمال المشروعة؛ خوفًا من الرياء، والكلام الذي بعده تابع له، اقرأ الذي بعده.

"الطعن على من يُظهر الأعمال المشروعة من أوصاف المنافقين، وفيه فتح الباب لأهل الشر والفساد".

يعني: الآن هذا الذي يطعن على من يُظهر الأعمال الصالحة، كما الله -عز وجل- عن المنافقين: يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [التوبة:79] فإذا جاء الواحد بصدقة كبيرة؛ قالوا: هذا مُرائي، وإذا جاء بصدقة قليلة؛ قالوا: الله غني عن هذا وعن صدقته، فإذا فُتح هذا الباب، وأُنكر على من يُظهر العمل الصالح، وقيل: هذا من أبواب الرياء، ومن دواعي الرياء، ونحو ذلك، فهذا، يعني: تعطيل الطاعة، والعبادة لله -تبارك وتعالى- بل الإنسان يعمل الأعمال الصالحات حيث كان، صلاة الجماعة تكون في الجماعة، كيف يُصلي الإنسان في بيته، ويقول: أنا أخاف من الرياء؟! كيف يُصلي للناس إمامًا؟ كيف يجلس للإقراء؟ كيف يجلس للتعليم؟ كيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! هذه كلها أمور ظاهرة، الأذان، شعائر الدين الظاهرة من يقوم بها، ومن يُظهرها، ومن يُعلنها، ومن يُقيم عمود الدين، فإذا كان يُلمز من يقوم بأعمال ظاهرة من شرائع الإسلام بأن هذا رياء، معنى ذلك هدم الدين، وتعطيل شرائع الإسلام، فشيخ الإسلام يرد على هؤلاء، ويقول: الإنسان لا يترك ورده المشروع، سافر مع أُناس من عادته أن يقوم الليل يقوم، ما يترك قيام الليل يقول: أخاف من الرياء، من عادته أن يُصلي الضُحى، وكان بحضرة أُناس، ماذا يفعل؟ يُصلي، ويُصحح نيته، فبعض الناس يسأل يقول: أترك هذا العمل؟ أترك الدعوة؟ أترك التعليم؟ أخاف على نفسي من الرياء، نقول: صحح النية، وجاهد النفس، وتذكر ما عند الله وأن هؤلاء الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا، هم ما نفعوا أنفسهم حتى ينفعوك، لا يستطيع الواحد منهم أن يملك لنفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضُرًا إلا ما أراده الله -تبارك وتعالى- فنواصي الخلق كلها بيده، فما شأن الناس، وما بال الناس ينظر الإنسان إليهم، ويتعلق قلبه بهم، لكن عليه أن يُجاهد نفسه، وأن يُصحح النية، ويتذكر ما عند الله.

وأما قول الفُضيل بن عياض بأن العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك[18] فهذا ليس على إطلاقه، نعم العمل من أجل الناس، يعني: النظر إليهم، فهذا رياء، ولكن ترك العمل من أجل الناس لا يُقال: إنه شرك، وإنما يقال: هذا خطأ، وليس بشرك، وكلام الفُضيل -رحمه الله- ليس بوحي، ليس بكلام نبي مُرسل، وكل يؤخذ من قوله، ويُرد، فهذه الجملة الأخيرة غير صحيحة، لكن كأنه نظر -رحمه الله- إلى معنى، وهو أن المُحرك له، والدافع للفعل أو الترك هو نظر الناس؛ فصار بهذا الاعتبار عنده من قبيل الشرك، ولا يُظن أنه يقصد به أنه من الشرك الذي بالمعنى المعروف، ولكن كما يقال: المعاصي من الشرك، الذنوب من الشرك، الشهوات من الشرك، باعتبار أنها تُنافي، يعني: أن الإنسان يكون فيها مُتبعًا لدواع غير داعي الشرع، هذا المقصود أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] فيكون المُحرك له في الفعل أو الترك غير داعي الشرع، فبهذا الاعتبار يمكن أن يُقال عنه: أنه شرك، إن شئت أن تقول: مجازًا -إن صح التعبير-، لكن الشرك بالمعنى المعروف ترك العمل من أجل الناس ليس بشرك، لكنه خطأ.

"من شأن أهل العُرف إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يُفردون أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام مُختصًا بالآخر كما في ذوي الأرحام، والجائز، ونحوها من الأسماء".

قال هذا الكلام في سياق الجواب: على من أسرع للجمعة أسرع في المشي للجمعة محتجًا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] فهل المقصود هنا السعي: الإسراع في المشي، والنبي ﷺ قال: فأتوها وأنتم تمشون[19] ولا تأتوها، وأنتم تسعون[20] فالسعي منهي عنه، وإنما يأتي الإنسان الصلاة بشيء من الأناة، وعليه السكينة، ولا يُسرع إليها، فهذا السعي منهي عنه، طيب الآن يقول: من شأن أهل العُرف إذا كان الاسم عامًا لنوعين فإنهم يُفردون أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام مُختصًا بالآخر، نُطبق هذا على السعي، الذي تكلم عليه شيخ الإسلام أصلاً، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ما المُراد بالسعي هنا؟ السعي يأتي بمعنى المشي، ويأتي بمعنى الإسراع في المشي، ويأتي بمعنى العمل فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102] وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] ما الفرق بين هذا، وهذا؟ السعي بين الصفا والمروة؟ السعي بين العلمين؟ السعي بين الصفا والمروة المشي، وإنما الإسراع يكون بين العلمين، وقل مثل ذلك في قوله -تبارك وتعالى-: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] المقصود به كما قال جماعة من السلف كالحسن وغيره العمل على حضورها، وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير والمحققون من أهل العلم، ليس المقصود بالسعي الإسراع[21] وإنما العمل على حضورها؛ لا تشتغلوا عنها بشيء آخر، فهنا عندنا السعي بمعنى العمل، وعندنا السعي بما هو يقول: هنا: من شأن أهل العُرف إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يُفردون أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام مُختصًا بالآخر، فالسعي هنا بمعنى العمل، ويبقى ما يتعلق بالمشي يكون للإطلاق الآخر.

يقول: كما في ذوي الأرحام، ذوي الأرحام في الأصل يعم جميع ذوي الأقارب، كل من تربطك بهم، وشيجة الرحم فهم من ذوي الأرحام، سواء كانوا في باب الفرائض يرثون بفرض، أو تعصيب، أو بفرض وتعصيب، أو من لا فرض له ولا تعصيب، فلما ميزوا في الفرائض ذوي الفروض، وميزوا ذوي التعصيب، صار هذا الإطلاق عند أهل الفرائض إذا قيل: ميراث ذوي الأرحام، لما تميز ذاك بقي الاسم العام يُطلق على هذا النوع، هذاك تميز بأصحاب الفروض، والأخر بأصحاب العصبات، أصحاب التعصيب، بقي الاسم العام ذوي الأرحام يُطلق على القسم الآخر الذي لم يُميز، ما مُيز عندهم، انظر في كلام شيخ الإسلام: من شأن أهل العُرف إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يُفردون أحد نوعيه باسم، قلنا: بأن ذوي الأرحام يُطلق على أصحاب الفروض، والعصبات، ومن لا فرض له ولا تعصيب، فميزوا النوع الأول، والثاني، كل واحد أعطوه اسمًا يخصه، بقي الثالث، فصار له الاسم العام.

يقول: ويبقى الاسم العام مُختصًا بالآخر، هذا الذي لم يُميز، هذا في باب الفرائض.

يقول: والجائز، كلمة جائز، يعني: غير ممُتنع، فيدخل فيه الواجب، واللازم، يعني: ما وجب من الفروض مثلاً الصلاة واجب، الطاهرة واجبة، واللازم من العقود، يدخل فيه هذا وهذا، وما ليس كذلك مما يسوغ فعله يقال له: جائز، الآن الجائز لما صار اللازم يقال له: الواجب لما كان ما يسوغ مما أمر الله به أمرًا لازمًا في العبادات مثلاً يقال له: الواجب، وفي العقود مثلاً يقال له: اللازم، عقد لازم، ما الذي بقي؟

بقي القسم الثالث: الذي لا يجب، ولا يلزم لا في المعاملات ولا في العقود، وهو الجائز ما يسوغ فعله وتركه، فمثل هذا بقي له الاسم العام، فصار يُقال: الجائز على غير الواجب واللازم، فهذه أمثلة، والأمثلة كثيرة على كل حال.

مداخلة... [1: 2: 17]

هو هذا، هذا الكلام الواجب في العبادات، واللازم في المُعاملات والعقود، طيب بقي قسم الذي هو لا يلزم ولا يجب، مُخير المُكلف في فعله، سواء كان مستوي الطرفين الذي هو المُباح، أو يترجح الفعل على الترك، وهو المُستحب، أو يترجح الترك على الفعل الذي هو المكروه، فهذا كله يقال له: جائز بهذا الاعتبار، على مسألة السعي، يعني: الآن إذا قيل: بأن السعي في كتاب الله مثلاً لو قلنا: إن هذه الكليات تحتاج إلى تحرير، وتتبع، واستقراء، لكن بعض أهل العلم هكذا يقول: السعي في كتاب الله هو العمل، يعني: في الغالب، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فإذا خصص أهل العُرف السعي بمعنى الإسراع بالمشي مثلاً؛ فيبقى الاسم العام لما لم يُخصه العُرف، فيقال: السعي الإسراع في المشي سعي، والعمل يقال له: سعي إذا خص العُرف أحد الإطلاقين، أو أحد المعنيين الداخلين تحته باسم يخصه، فسُمي مثلاً السعي بالعمل الذي هو العمل على حضور الجمعة، بلغ معه السعي، يعني: طلب العيش، والرزق، والكسب، وما إلى ذلك، فيبقى للآخر الاسم العام الذي هو الإسراع في المشي هذا يقال له: سعي ولا تأتوها، وأنتم تسعون وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] فإذا جاء التخصيص في العُرف لأحدهما باسم يخصه؛ فيبقى الاسم العام للثاني.

مداخلة... [1: 4: 9]

ما علقنا عليها؟

مداخلة... [1: 4: 13]

تابعة نعم، وذكرته في أول الكلام، الطعن على من يُظهر الأعمال المشروعة من أوصاف المنافقين، قلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وقلنا: وفيه فتح الباب لأهل الشر والفساد، فيكون هنا انطماس معالم الشريعة، وتطاول أهل الشر على أهل الصلاح والخير، ولمزهم بالرياء، ونحو ذلك، وحينما يتركون مثل هذه العبادات والأعمال يحتجون بهذه الحُجج.

"العمل الواحد قد يكون فعله مُستحبًا تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية".

يعني: هو الكلام هكذا العمل الواحد قد يكون فعله مُستحبًا تارة، وتركه تارة، هكذا العبارة، وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمُسلم قد يترك المُستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، وهذا أيضًا يتعلق بما سبق الكلام على هذه المسألة، يعني: الآن النبي ﷺ يقول: بين كل أذانين صلاة قاله ثلاثًا، وقال في الثالثة: لمن شاء[22] قد يترجح الترك، لماذا؟ هنا قال: مُستحبًا تارة، وتركه باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، فقد يُترك هذا؛ لئلا يُظن مثلاً أنه لازم وواجب النبي ﷺ يقول: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا[23] أو كما قال -رحمه الله- شيخ الإسلام في غير هذا الموضع يقول: ولا يُلازم على ذلك ويداوم عليه؛ فتكون بمنزلة الراتبة، لاحظ مع أنه ورد فيها هذا الفضل، لكنه يترك ذلك أحيانًا، وعلى القول بأن الأُضحية ليست بواجبة كان بعض الصحابة -رضي الله عنه- يترك الأُضحية ليعلم الناس أنها ليست بواجبة، وهذا منقول عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.

قد يترك المُستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، مثل ما قلنا في ترك قراءة السجدة والإنسان في فجر الجمعة، النبي ﷺ ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم لمفسدة راجحة، مع ما في إعادتها من المصلحة، ولما سأل الخليفة العباسي الإمام مالك -رحمه الله- أبو جعفر المنصور أن يهدم الكعبة وأن يُعيدها من جديد على قواعد إبراهيم منعه الإمام مالك من هذا؛ لئلا تكون الكعبة ألعوبة بيد الملوك[24] وكذلك لما أراد أن يُلزم الناس بالموطأ[25] وقول الإمام مالك، ونحو ذلك، نهاه عن هذا لمفسدة راجحة، وهكذا أيضًا الأمثلة السابقة في الجهر بالبسملة، وعدم الجهر، ومسائل القنوت، ونحو ذلك.

"والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه".

هذه مسائل قد نحن نتصور أنها سهلة، لكنها في بعض البلاد ليست بسهلة، مسألة تحريك الأُصبع في التشهد، هذه عند بعض العامة، وفي بعض البلاد تُعتبر من العظائم، وضع اليدين أين يضع يديه؟ فإذا صليت معهم ضع يدك في المكان الذي يُخمد الشر والفتنة، ولا إشكال في هذا، في بعض البلاد الذين لا يجهرون بالبسملة، وعندهم هذا أن الجهر من العظائم يأتي بعض الشباب، ويُصلي معهم فإذا قال الإمام، ولا الضالين؛ قال بأعلى صوته: آمين، وهو الوحيد الذي يؤمن في المسجد بأعلى صوته، وليست مُبالغة هذا حصل في مسجد، في بلد زرته التفت الإمام من الغيظ، وقال له: لعنك الله، تصور، وأكمل الصلاة، يعني: بلاد يوالون ويُعادون على هذه المسائل، التفت الإمام، ولعنه -نسأل الله العافية- وهو يُصلي، وهذا يفعل هذا نكاية بهم، ويعتقد أن هذا هو نصر للإسلام والمسلمين والسنة المحمدية، بإغاظة هؤلاء المساكين الجهلة، فمثل هذا يُترك الجهر بالتأمين، عندهم هؤلاء أن الذي لا يُصلي السنة الراتبة في المسجد أن هذا مُضيع، وأنه لا يُصليها، وأنه، وهؤلاء الشباب، لا بد أن يُصليها في البيت؛ لأن هذا أفضل لا تجعلوا بيوتكم مقابر[26] إلى آخره، وهؤلاء لا يرونهم شيء، فإذا نوقشوا؛ قالوا: هؤلاء لا يصلون السنة الراتبة، أين يذهبون؟ أين هؤلاء من الدين؟ إذًا صل السنة الراتبة عندهم، وهكذا، فهذه الأشياء تقوم -في بعض الأماكن- الدنيا لها، ولا تقعد.

"والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم الدين".

صحيح، يعني: ليست مجرد حفظ القوالب اللفظية، وإنما فهم المعاني والعمل به، فالذين يحفظون القرآن كُثر، ولكنك إذا نظرت إلى الامتثال أحيانًا؛ وجدته بمنأى، فهذا الإنسان الذي يحفظ، ويُقيمه إقامة تامه بحروفه، وتجويده بغاية الدقة، وتعجب كيف يُذلل لسانه بهذه الطريقة العجيبة، وهذا الإتقان الكبير، وإذا نظرت إلى السلوك والعمل؛ وجدته أبعد ما يكون عن القرآن، وإذا نظرت إلى الفقه والعلم، وفهم معاني القرآن؛ قد تجد أيضًا كذلك، وقد تكون الحال أسوء من هذا، قد يتحول المسألة إلى نوع من الارتزاق بصورة أو بأخرى، ارتزاق هذا القارئ ممكن يُستضاف في بعض الأماكن، والمُدن، والبلاد، ويؤتى به، ويُعطى أموال من أجل أن يُصلي لهم فرضًا، أو في رمضان، أو غير ذلك، إن كان يقصد ما عند الله، فهذا بينه، وبين الله، لكن إن كان يقصد الدنيا فبأس ما صنع، وقد يأتي ليُصلي لهم فرضًا واحدًا، أو فرضين، أو ثلاثة؛ من أجل دُنيا يُعطاها، فصارت القضية كالإجارة، كما يذهب الشاعر، ويُلقي قصائد في بعض البلاد، ويُعطى أموالاً، فهذا القارئ أيضًا يذهب هنا، وهناك، ويُسافر، ويتنقل، ويترحل، يُصلي بهؤلاء يومًا، أو يومين، وهؤلاء يُصلي بهم يومًا أو يومين، وهكذا، فهذا ارتزاق بالقرآن بهذه الصورة المقيتة، وأسوء من هذا، وأقبح أنك قد تجد بعض هؤلاء يسأل مُباشرة، يعني: قد وضع أمامه منديلاً، أو نحو ذلك، وجلس، وأذكر قديمًا كان يأتي أُناس من بعض البلاد عُميانًا، إذا سمعت القراءة كأنك تسمخ الشيخ محمود خليل الحُصري -رحمه الله- في غاية الإتقان، يجلسون خمسة ستة عند مدخل الصحن في الحرم، في ساعات مُتأخرة من الليل، تأتي في أوقات، وتجدهم جالسين جنب بعض، كل واحد يُرتل، يسألون بهذه القراءة، فهذا لا يجوز، فالمقصود هو أن هذه القراءة نحتاج معها إلى فهم معاني القرآن، والعمل به، وإلا فإن مُجرد الحفظ وحده لا يكفي، هذه مزية، ولكن هناك أمور أخرى تُطلب، وراء ذلك.

"ما احتاج إليه العموم لم يُحظر عليهم".

ما احتاج إليه العموم، يعني: عموم الناس، يعني: قاله في معرض الكلام على أن من لم يجد الإزار في الإحرام ولا النعال؛ فإنه يلبس السراويل والخفاف؛ لأن الناس لا بد لهم من ستر العورات، وليس عليه فدية، الناس يحتاجون إلى ستر العورة، ماذا يفعل، ما وجد إزارًا؛ فيلبس سراويل، وليس عليه فدية، ما وجد نعلين ماذا يفعل؟ يلبس الخفين على خلاف هل يقطع، أو لا يقطع؛ لأنه بحاجة إلى الانتعال، فليس عليه فدية، بخلاف ما يكون عارضًا لبعض الناس، كأن يكون هذا الإنسان تأذى من البرد، فاحتاج إلى أن يلبس قميصًا، فهنا يكون عليه فدية، يحتاج أن يلبس من البرد مثلاً بسبب البرد الجوارب، ففي هذه الحالة يُقال عليه: فدية، احتاج لهوام رأسه أن يحلق الشعر، فهذه قضايا خاصة ببعض الناس، فيكون عليه فدية لارتكاب المحظور في الإحرام، أما الذي يحتاج إليه عموم الناس هم يحتاجون إلى ستر العورة، فإذا ما وجد الإزار لبس السراويل، ما وجد النعلين لبس الخُفين، وليس عليه فدية -والله تعالى أعلم-؛ لأن الحاجة عامة، بخلاف ما احتيج إليه لعارض.

  1. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (477).
  2. انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (361).
  3. انظر: نشر البنود على مراقي السعود، للشنقيطي (2/ 148).
  4. انظر: المصدر السابق (1/98).
  5. انظر: الأصل الجامع لإيضاح الدرر المنظومة في سلك جمع الجوامع، للسيناوي (1/55).
  6. انظر: المحصول، للرازي (2/309).
  7. انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (361).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، برقم (338).
  9. انظر: تفسير الطبري (19/154، 155).
  10. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحمام، باب ما جاء في التعري، برقم (4017)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3117).
  11. أخرجه البخاري، كتاب، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) برقم (7320).
  12. انظر: تفسير أسماء الله الحسنى، لابن سعدي (210).
  13. انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (2/150).
  14. انظر: لأمالي = شذور الأمالي = النوادر، لأبي علي القالي (2/ 316).
  15. انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء، لابن القيم (183).
  16. انظر: تفسير الطبري (6/ 315).
  17. أخرجه الإمام أحمد في الزهد، برقم (84)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم (5829).
  18. انظر: الرسالة القشيرية، للقشيري (2/ 361).
  19. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).
  20. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).
  21. انظر: تفسير ابن كثير (1/ 564).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: بين كل أذانين صلاة لمن شاء، برقم (627)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة، برقم (838).
  23. أخرجه أبو داود في سننه، باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، باب الصلاة قبل العصر، برقم (1271)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1170).
  24. انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (8/ 275).
  25. انظر: أدب الاختلاف في الإسلام، لطه العلواني (1/ 117).
  26. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، برقم (780).

مواد ذات صلة