الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
42- أصول منقولة من كتبه وفتاويه المتفرقة ومطاوي كتبه شيئا فشيئا. القواعد 617-632
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٤
التحميل: 1395
مرات الإستماع: 1875

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قبل ما نبدأ، في الدرس الماضي في الفائدة (608) التي في طبعتي، "والله تعالى أخبر أنه ينصر رسله في الحياة الدنيا"، رأيتم هذا، هذا الكلام له تتمة جيدة من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- والكلام هنا منقول بتصرف، يقول: "فمن خالف الرسل؛ عوقب بمثل ذنبه" هذه الفائدة التي ذكرت من قبل، ويذكرها ابن كثير -رحمه الله-[1] وغيره كثيرًا "فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه، فإن كان قد قدح فيهم، ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل، وخروج عن العلم، والعقل؛ ابُتلي في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به، ومن قال عنهم: إنهم تعمدوا الكذب؛ أظهر الله كذبه، ومن قال: إنهم جُهال أظهر الله جهله؛ ففرعون، وهامان، وقارون لما قالوا عن موسى: إنه ساحر كذاب؛ أخبر الله بذلك عنهم في قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24] وطلب فرعون إهلاكه بالقتل، وصار يصفه بالعيوب كقوله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] وقال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] أهلك الله فرعون، وأظهر كذبه، وافتراءه على الله، وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يُسمى أبا الحكم، ولكن النبي ﷺ سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله ﷺ أبو جهل، والذين قالوا عن النبي ﷺ: إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت، فينقطع ذكره؛ عوقبوا بانبتارهم، كما قال: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله، حتى أهل البدع المُخالفون لسنته، قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوم يجلسون للناس، ويتكلمون بالبدعة، فقال: "من جلس للناس جلس الناس إليه؛ لكن أهل السنة يبقون، ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون، ويموت ذكرهم"[2] يعني: وإن صار له شيء من البريق إلى آخر ما ذكر.

الفائدة التي بعدها (609) هنا أيضًا كلام لشيخ الإسلام -رحمه الله- هو تابع لها، يقول: "فلما ظهر النفاق، والبِدع، والفجور المخالف لدين الرسول سُلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوء حال، بين الكفار النصارى، والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره، والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عُبيد على النصارى؛ فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أُخذت مصر من بني عُبيد، أخذها صلاح الدين، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر، بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة، فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة، فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سُلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر المُلحدين والمُبتدعين نصرهم الله على الكفار؛ تحقيقًا لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] الآيات، وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من التُرك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور؛ سُلط عليهم الكفار" إلى آخر ما ذكر، كل هذا يُراجع، كلام جيد في أن تسليط الكافرين إنما كان بسبب ظهور البدع والبُعد عن دين الله وطاعته وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام-.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"خطاب النصارى ومناظرتهم في مقامين: أحدهما: تبديلهم لدين المسيح، الثاني: تكذيبهم لمحمد ﷺ، واليهود خطابهم في مقامين: في تكذيبهم من بعد موسى إلى المسيح، ثم في تكذيب محمد ﷺ، مع عدم عملهم بدينهم، وتغييره وتحريفهم إياه، كما ذكر الله خطاب الطائفتين في كتابه".

فهذا يُفيد في المناظرة إلى أي شيء تتوجه، فهؤلاء من اليهود والنصارى حينما يُناظرون فإنهم يُناظرون في أمرين أساسين:

الأول: هو ما يتعلق بتبديل الدين الذي أنزله الله عليهم، فالنصارى كما وصفهم الله أهل ضلال، وَلَا الضَّالِّينَ، وذلك أنهم عبدوا الله بجهل، وضلوا عن الحق، ومن ثم فإن ضلالات النصارى من تعظيم الصليب، وعبادة الصليب، والقول بأن الله ثالث ثلاثة كل هذا داخل في التبديل، فهم يُناظرون في مثل هذه القضايا، أن هذا ليس من دين المسيح وأن الله ما أنزل ذلك.

والأمر الثاني هو: أنهم كذبوا بمحمد ﷺ وهذا كفر وحده، واليهود أيضًا يُناظرون في هذه القضية، كذبوا ما بعد موسى، كذبوا بعيسى وبمحمد -عليه الصلاة والسلام- والله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87] فكان هذا شأنهم مع أنبياء الله -تبارك وتعالى- وهكذا في قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89].

وكذلك في قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101-102] إلى آخر ما ذكر الله عنهم، فيُناظرون في هذا وهذا.

"لا يوجد قط مسألة مُجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ﷺ، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع، فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثاني مع النص".

بمعنى أن الدليل إنما هو قال الله قال رسوله ﷺ، وإذا نظرنا إلى الأدلة التي يذكرها العلماء، من الأصوليين وغيرهم، فهم يقولون: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس مثلاً، فهذا الإجماع تجد في مضامين كلامهم أنه أقوى الأدلة، والواقع أن هذا الإجماع له مُستند من الكتاب والسنة، ولكنه قد يخفى، فحينما يقولون: إن الإجماع أقوى هذه الأدلة مثلاً، لا يقصدون أن هذا الإجماع أنه مُجرد من الدليل، هو له مُستند، كل إجماع له مُستند من الكتاب والسُنة، ولكن الفرق بين الإجماع والأدلة الأخرى المُفردة من الكتاب والسنة أن الدليل المعين من الكتاب أو السنة قد يختلف العلماء في توجيهه ومعناه، فهذا يفهم منه حكمًا، وهذا يفهم منه حكمًا آخر، أما الإجماع فمعنى ذلك أنهم اتفقوا على مُقتضى هذا الدليل، هذا المراد بالإجماع، فهو دليل وزيادة، يعني: دليل مع اتفاق، ومن الناس من يظن أن الإجماع مُجرد من الدليل، فيقول: كيف يُقدم الإجماع على قول الله وقول رسوله ﷺ؟ هذا ليس بمُراد، فكل إجماع فله مُستند، لكنه قد يخفى.

يقول: كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، يعني: الآن النص يُطلق على نفس الدليل، ويُطلق على ما دل على معنى لا يحتمل غيره، فقد يستدل به من لا يعرف دلالته، فعندنا الدليل في نفسه، وعندنا الدلالة التي يدل عليها هذا الدليل، هل تدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة، أو تدل عليه دلالة قطعية مثلاً.

كذلك على كل حال، يقول: ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع، يعني: يخفى عليه الدليل الذي كان الإجماع مُستندًا إليه، وهكذا من يستدل بدليل من الأدلة هذا الدليل قطعي الدلالة على معنى من المعاني مثلاً، ولكنه لا يعلم قوة دِلالة هذا الدليل.

"والخُلق العظيم الذي وصف به محمد ﷺ فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مُطلقًا، وحقيقته المُبادرة إلى امتثال ما يُحبه الله، بطيب نفس، وانشراح صدر".

 هذه الفائدة تتبعها الفائدة التي بعدها والتي بعدها، هذه الثلاث مترابطة، في سياق واحد، والمقصود بذلك يعني: الله لم وصف النبي ﷺ قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] هذا الخُلق العظيم ما حقيقته؟ ما هو؟

هنا يقول: هو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مُطلقًا، يعني: معناها أنه حقق التقوى، معناها أنه حقق محاب الله واجتنب مساخطه، فإنه لا يحصل للإنسان الكمال، ويكون على خلق عظيم إلا إذا كان بهذه المثابة، وذلك أن الخُلق يتصل بأمور تتعلق بصلة العبد مع ربه، وأدبه معه، وصلته مع كتابه وكلامه، وكذلك بصلة العبد مع نفسه، صلته مع من يعول، بصلته مع الناس الذين يُخالطهم، وما إلى ذلك، فإذا مستوفيًا لهذه الأمور؛ فإن ذلك، يعني: أنه حقق الإسلام والتقوى التي هي جِماع فعل الخير وترك الشر.

"وتقوى الله تجمع فعل ما أمر به إيجابًا واستحبابًا، وترك ما نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا، وذلك يجمع حقوق الله، وحقوق العباد".

 يعني: هذه من العبارات الجامعة: التقوى، البر؛ هي من أوسع العبارات، فيدخل تحتها الدين برُمته.

"وجِماع حُسن الخلق مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له، والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، وتُعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفوا عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذا واجب، وبعضه مُستحب".

يعني: النبي ﷺ لاحظ هنا تكلم على الخلق العظيم، وتكلم على التقوى، وجِماع حُسن الخلق، النبي ﷺ قال: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن[3].

فهنا جماع حُسن الخلق مع الناس ما هو؟ أن تصل من قطعك بالسلام، ليس فقط بالسلام، والإكرام، والدعاء له، والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، لاحظ هذا من قطعك، انظر هذه خمسة أشياء، يعني: نحن في كثير من الأحيان لربما نُحسن، أو نُقصر مع من أحسن إلينا، لكن الكلام ليس في هذا، هذه قد لا يُبطأ عنها أحد، أو لا يعجز عنها أحد، ولكن تأتي الثانية، هي التي تختبر النفوس، وتُبين حقائق الناس، ومعادنهم، وما هم عليه من الإيمان والتقوى، والتربية، ومُجاهدة النفس، هي التي قال الله فيها: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

فتجد هذا الإنسان الذي لربما يتعامل بتعامل جيد، وأخلاق جيدة مع أولئك الذين يُحسنون إليه، ويُحسنون التعامل معه، فإذا وجد من أحد منهم تعاملاً غير لائق، أو إساءة، أو نحو ذلك لربما وجد في قلبه من النفور منه، والغِل عليه، وتحركت دواعي الانتقام في نفسه، ليس هذا هو حُسن الخلق الحقيقي.

قال: أن تصل من قطعك بالسلام، والإكرام، والدعاء له، والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، من يفعل هذا مع من قطعه؟ يذهب إليه ويزوره، ويدعو له، ويُثني عليه، ويُكرمه، طيب، والذي حرمه ما يقول له: الجزاء من جنس العمل، أو الصيف ضيعت اللبن، لا، تُعطي من حرمك، تُعطيه من التعليم والمنفعة والمال، فهذا كله يُعطى لهذا الإنسان الذي صدر منه هذا الفعل المشين تجاهك، هذا قطع، وهذا حرم، بقي الذي ظلم؟ تعفوا عمن ظلمك، تعفوا عنه في ماذا؟

الظلم في دم، أو مال، أو عرض، وبعض هذا واجب، وبعض هذا مُستحب، بعض الأشياء السابقة، هذه أخلاق عالية، يحتاج الإنسان أن يعرض نفسه عليها، وينظر أين هو من هذه الأخلاق، وكما قيل:

ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب

هنا تظهر المعادن، وتظهر الأخلاق الحقيقية.

على كل حال بالنسبة للفوائد هذه، يعني: (616، 617، 618) هذه كلها في مجموع الفتاوى من رسالة الوصية الصغرى، التي قبلها (613، 614، 615) هي في مجموع الفتاوى، في المجلد التاسع عشر، لكنه من رسالة معارج الوصول، كما سبق، ذكرنا هذا سابقًا.

"كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يُقرب إلى الله من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله".

بمعنى: أن ذكر الله واسع: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم ...[4] فيدخل في هذا، ويتدارسونه بينهم تدارس: التفسير، والعلم، والفقه، والحديث، وما إلى ذلك؛ لأن كل ذلك يكون شارحًا لكلام الله كما قال الشافعي، كل ما تقوله الأمة فهو شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح لأسماء الله وصفاته[5] فهذا في مجالس الذكر التي جاء الثناء عليها وما إلى ذلك، هذه المجالس تشمل هنا كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب مما يُقرب إلى الله، يعني: يدخل فيها: قراءة القرآن، والذكر الأذكار، ويدخل فيها أيضًا: تعلم العلم، تعليم العلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا من ذكر الله .

وهذه المعاني في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124] كما سبق أنه ما يُذكر الله به، وكذلك أيضًا مذكور الرب -تبارك وتعالى- الذي هو القرآن من الإضافة إلى الفاعل، أو الإضافة إلى المفعول، إضافة المصدر إلى هذا أو هذا.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ[الأحزاب:35] مثلاً اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] يشمل ذكره باللسان، وذكره بالقلب، وذكره بالجوارح، وأفضل الذكر ما حصلت فيه المواطأة بين هذه الأمور الثلاثة، أما الذكر المُجرد باللسان فهذا ذكر، ولكنه ناقص ما لم يحصل مواطأة القلب، فإن حصل مع ذلك مواطأة الجوارح، يعني: بالعمل بطاعة الله فهذا من جملة الذكر.

في له كلامه هنا -رحمه الله- في المجلد العاشر صفحة (660) يتعلق بهذا المعنى، مفيد يقول: "هنا سُئل عن أفضل الأعمال بعد الفرائض؟ وذكر أن ذلك يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه، وما يُناسب أوقاتهم فلا يمكن فيه جواب جامع مُفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن مُلازمة ذكر الله دائمًا هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجُملة.

يعني: الآن كل إنسان يختلف بحسبه، ومن وقت إلى آخر، يعني: إذا أذن المؤذن، فالصلاة، إذا جاء وقت الحج فالحج، وهكذا.

يقول: "وعلى هذا دل عليه حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم: سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات[6] وذكر الحديث الآخر: ألا أنبأكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورِق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله[7] وذكر أن الأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة".

ثم قال: "وأقل ذلك أن يُلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين ﷺ، كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة مثل ما يُقال عند الأكل، والشرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر، والرعد إلى غير ذلك، وقد صُنفت له الكتب المُسماة بعمل اليوم والليلة".

يقول: "ثم مُلازمة الذكر مُطلقًا، وأفضله لا إله إلا الله، وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: سبحان الله، والحمد، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله أفضل منه" ثم ذكر هذه الفائدة.

هذا الكلام تابع للكلام الذي قبله، التي هي الفائدة التي بعدها ما اشتبه على العبد.

"ما اشتبه على العبد أمره، فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله".

نعم، إذا تردد الإنسان، وله أن يُكرر الاستخارة إذا لم يحصل له، لم يجد ما يدفعه على الإقدام، أو نحو ذلك، لا زال مُترددًا، لا زال مُتحيرًا، لا زال، فله أن يُكرر الاستخارة، وقد جاء ذلك عن بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم- في تكرار الاستخارة؛ إذا احتاج إلى ذلك، لكن لا ينتظر أن يرى رؤيا، أو يقول: وجدت ارتياحًا، وانشراحًا، أو نحو ذلك، لكن إن غلب عليه التردد والتحير يمكن أن يُعيد الاستخارة، فهذا من جُملة الدعاء، فيُلح على ربه بالدعاء، لكنه إذا استخار يعلم أن الله لن يُضيعه، فهو طلب من الله، سأله أن يكتب له الخير حيث كان، وفوض أمره إليه، وأن الله يعلم، وهو لا يعلم، ويقدر، وهو لا يقدر، يعني: العبد، ومن ثَم فإنه يُقدم بعد ذلك، ولا يحتاج أن ينتظر رؤيا، أو ينتظر انشراحًا، أو نحو هذا، فيُقدم على هذا العمل، ويفوض أمره إلى الله بالكلية، بمعنى: إذا جاءت الأمور على ما تميل إليه نفسه؛ حمد الله، وإذا جاءت الأمور على غير ما تميل إليه النفس؛ حمد الله؛ لأنه طلب الخير، فهذا الذي حصل له هو مُقتضى هذه الاستخارة، ولذلك مما يُنافي الاستخارة، ويغلط فيه بعض الناس: أنه يستخير، ثم بعد ذلك يتسخط ويجزع ويحزن إذا لم يحصل له مطلوبه، ففي مثل هذا كيف يكون قد فوض أمره إلى الله، وطلب أن يُدبره، وأن يكتب له الخير حيث كان، وفي الوقت نفسه تصدر منه مثل هذه التصرفات، والاعتراض على ربه -تبارك وتعالى- هذا أمر يحتاج إلى أن يتنبه إليه الإنسان؛ لأننا في كثير من الأحيان نغفل عن هذا المعنى، يعني: كأننا نستخير ونُريد أن يتحقق لنا ما نُريد، يعني: ما تميل إليه النفس، فإن لم يتحقق لربما ظن الإنسان أنه قد فشل، وأنه قد أُحبط، ولم يخرج بطائل، الواقع أن الله يسر له ما فيه الخير له، وإن غاب ذلك عنه، وإن لم يعرف ما وراء ذلك.

"أرجح المكاسب: التوكل على الله، والثقة بكفايته، وحُسن الظن به، ويأخذ المال بسخاوة نفس من غير أن يكون له في القلب مكانة، ولكنه يسعى في تصليحه، وتنميته لإقامة ما عليه من واجبات ومستحبات، والاستغناء عن الخلق".

يعني: أن هذه الطريقة المُثلى في التعامل فيما يتصل بطلب الرزق والكسب والمعايش، وما إلى ذلك، أن يكون الإنسان متوكلاً على ربه، واثقًا بكفايته، وحسن الظن أيضًا بربه فهذه القضية الأولى، يعني: هي لا بد منها قبل كل شيء، أن يكون القلب، واثقًا بالرب، حسن الظن به، أن الله لن يُضيعه أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها... أنه لا يدري أين الخير، فالله يُيسر له، ويُقدر له ما فيه الخير، قد يكون صلاحه في الفقر، قد يكون صلاحه في الغِنى، وأنه لا يمكن لأحد أن يأخذ شيئًا من رزقه إطلاقًا، لا قليلاً، ولا كثيرًا، فإذا اطمأنت النفس بهذا؛ استراح الإنسان، ولم يتلفت إلى ما في أيدي الناس، وينظر إلى ما أعطاهم الله فيقع منه الحسد، أو أنه يشعر أنه في عِراك، وأنه في سير سريع شديد، الناس فيه يُسرعون ويشمرون نحو أرزاق يتخطفونها من بين يدي القدر، هذا أمر ليس بصحيح، ولن يصل لأحد مهما كان سيره حثيثًا، ومهما كان عمله، وجلده في طلب الزرق والكسب، لن يصل إليه إلا ما كُتب له، مهما كان سعي هذا الإنسان وكده، مهما كان ذكاؤه، لن يصل إليه إلا ما كُتب له، وقد تأتيه أموال طائلة، وقد تأتيه صفقات كثيرة، وتذهب من ناحية أخرى، فالحاصل أن الإنسان إذا روض قلبه على هذه المعاني المتصلة بالتوكل.

ثم بعد ذلك كيف يأخذ المال الذي يحصل له، سواء كان قليلاً، أو كثيرًا؟ قال: يأخذ المال بسخاوة نفس من غير أن يكون له في القلب مكانة، هذه قضية مهمة، بمعنى: أنه لا يتهافت على المال، لا ينحط وينسفل في طلب المال فيقع في أمور تُذهب المروءات، وتوقعه في أحوال وأفعال مشينة، تذهب فيها كرامة النفس، لكنه يأخذ بسخاوة نفس، يعني: ما يأتي، ويتعرض للناس، ويسأل الناس، أو أنه يُطالب بحقوقه بطريقة يعني: لا تليق، أو أنه يتهافت على الدنيا بطريقة لا تليق، ولهذا قال النبي ﷺ: فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب[8] فتقوى الله أن يأخذه الإنسان من حِله، ويترك ما حرُم عليه، وأجملوا في الطلب بمعنى لا تتهافت على الدنيا، نعم، أجمل في الطلب، يعني: من الناس من تكون دقته وحساباته بالقليل والكثير والقِطمير، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا أحصها، فمثل هذا التهافت هو لن ينضم إليه رزق لم يُكتب له، ولن يفوته رزق قد كتبه الله له، ولكن الإنسان لربما بهذا الصنيع تذهب كرامته ومروءته، ويحصل له بسبب ذلك من سوء العلاقة مع الناس، والقطيعة مع القرابات، وما إلى هذا، يعني: هذا حال الشحيح.

ولهذا قال الله : وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] الشحيح هو الذي يتصرف بهذه الطريقة، وعلق به الفلاح، بل جعله كالمحصور فيه، أولئك هم المفلحون؛ لأن الإنسان إذا صار شحيحًا فإن الشح يحمله على قطيعة الرحم، ويحمله على ارتكاب القبائح، وعلى منع الحقوق، وغير ذلك مما هو معلوم، ولهذا كان الشُح قد أهلك من قبلنا، كما أخبر النبي ﷺ.

فهنا يأخذه بسخاوة نفس، لا يبخل، ولا يكون شحيحًا، ولا يتهافت على الدنيا، والله يقول في الحديث القُدسي: يا ابن آدم أنفق؛ أُنفق عليك[9] هل رأيتم جوادًا مات من الجوع، لكن أولئك الذين لا يخرج من أيديهم شيء، هل رأيتم هؤلاء قد حصلوا شيئًا لم يُكتب لهم من الأرزاق؟ أبدًا، بل حال ذلك الجواد أحسن منهم وأفضل، وهو أحسن منهم فألاً، وأطيب منهم قلبًا، كما هو مُشاهد.

يقول: ولكنه يسعى في تصليحه، تصليح المال يعني، وتنميته؛ لإقامة ما عليه من واجبات أو مُستحبات، والاستغناء عن الخلق، لا للتكثر، وإنما ليستغني به عن السؤال، ويؤدي الحقوق بهذا المال، ويُنفق على أولاده، ونحو ذلك.

"وأكمل أنواع طلب العلم أن تكون همة الطالب مصروفة في تلقي العلم".

 لاحظ، الأولى في المكاسب، الآن في طلب العلم، ما هي أكمل الأحوال.

"وأكمل أنواع طلب العلم أن تكون همة الطالب مصروفة في تلقي العلم الموروث عن النبي ﷺ، وفهم مقاصد الرسول ﷺ في أمره ونهيه وسائر كلامه، واتباع ذلك، وتقديمه على غيره، وليعتصم في كل باب من أبواب العلم بحديث عن الرسول ﷺ من الأحاديث الصحيحة الجوامع".

 بمعنى أن أكمل العلم أن يشتغل بالعلم المأثور عن النبي ﷺ ويدخل في ذلك علم الكتاب والسنة، والسنة -كما سبق- شارحة للقرآن، فهذا هو أشرف العلم، ويدخل في ذلك على سبيل التبع ما لا يتوصل إلى الفقه في هذا العلم الموروث عن النبي ﷺ إلا به، يعني: العلوم المُكملة لذلك، علوم الآلة فإنها تُطلب؛ لأنها مِرقاة له، فهنا هذا العلم الشريف.

يقول: "وفهم مقاصد الرسول ﷺ في أمره ونهيه وسائر كلامه، واتباع ذلك، وتقديمه على غيره" يعني: أن يتفقه في هذا المنقول المأثور، وأن يكون مؤثرًا له على غيره، يعني: لا يُعارضه بالعقول، لا يُعارضه بالأقيسة، لا يُعارضه بآراء الرجال، يُعرض عليه النص، ثم يقول: لا، العالم الفلاني قال كذا، الإمام الفلاني يقول كذا، فيؤثر ذلك على غيره.

ثم علمه طريقة حسنة في التعلم، أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بحديث عن النبي ﷺ الأحاديث الصحيحة الجوامع، هناك أحاديث هو أصل في هذا الباب، فإذا ضبط هذه الأحاديث؛ فإن ذلك يكون مدعاة لضبط العلم، ولذلك تجد العلماء صنفوا في هذه الأحاديث، يعني: مثل النووي -رحمه الله- في الأربعين النووية جمع أحاديث جامعة، مثل المقدسي -رحمه الله- في عمدة الأحكام، فإنه جمع أحاديث هي عُمدة في الباب بالجملة، وهي في غاية الصحة في الجُملة، ومن ثَم فإن حفظ مثل هذه الأحاديث، لا شك أنه أدعى لضبط العلم؛ لأن النصوص كثيرة، والروايات كثيرة، والأحاديث كثيرة، فكيف يضبط طالب العلم، قد لا يستطيع أن يحفظ -كما قال الإمام أحمد- يحفظ ستمائة ألف حديث، أو خمسمائة ألف حديث، فيُذكر له ستمائة ألف حديث، فيُحرك يده هكذا، لكن هذا لا يتأتى لأكثر الناس، فماذا يفعل؟ ما هي الطريقة الصحيحة في التعلم؟ أن يكون عنده أصل في كل باب.

هنا في كلام له -رحمه الله- في هذا المجلد العاشر (664) يتعلق بهذا المعنى، تكملة للكلام السابق، يعني: هذا السائل كان يسأله عن الكتب التي يقرأها، وماذا يفعل، وكيف يتلقى العلم، فأرشده إلى أن المأثور عن النبي ﷺ هو الذي يستحق أن يُسمى بالعلم، وما سواه، إما أن يكون علمًا؛ فلا يكون نافعًا، وإما ألا يكون علمًا، وإن سُمي به، ولئن كان علمًا نافعًا؛ فلابد أن يكون في ميراث محمد ﷺ ما يُغني عنه، مما هو مثله، وخير منه، هذا مثل بعض النظريات، وبعض الأشياء التي من كُتب مُترجمة من هنا، وهناك، لبعض الغربيين في التربية والآداب، وما أشبه ذلك، وفن التعامل مع الآخرين، والقواعد الست، أو السبع، أو العشر في كذا، فتُقرأ هذه الكتب، ويتهافت عليها بعض الناس، فهذا إن كان صوابًا يقول: فلا بد أن يكون في ميراث محمد ﷺ ما يُغني عنه مما هو مثله وخير منه، ثم ذكر الكلام السابق.

قال: "وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس؛ فليدعوا بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ كان يقول إذا قام يُصلي من الليل: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة..[10] الحديث".

"وقد أمر -صلى الله عليه وسلم- المسلمين باتباعه، وأن يُعتقد وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه، وأنه لا أفضل من ذلك، فمن لم يعتقد هذا؛ فقد عصى أمره".

يعني: هذا من الوضوح ما يحتاج إلى إيضاح.

"السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا".

 هنا هذه من الوصية الكبرى، وهي التي كتبها لأتباع عدي بن مُسافر، يعني: هذا، والفوائد التي بعده من الوصية الكبرى.

يقول: السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي ..، يعني: هو يتكلم عن أولئك الذين يتعبدون الله يعني: هو يتكلم عن هؤلاء الصوفية، أتباع عدي بن مُسافر، عندهم بِدع، وعندهم ضلالات، فكتب لهم هذه النصيحة، ففي التي قبلها يقول النبي ﷺ أمر باتباعه، وأن يُعتقد وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه، وأنه لا أفضل من ذلك، يعني: الطرق التي أنتم عليها، وهذه الأشياء التي تنقلونها عن شيخكم عدي بن مُسافر، والطريقة التي رسمها لكم، الطريقة المرسومة من قِبل النبي ﷺ هي الكاملة، وأما هذه الطُرق التي يسمونها الطُرق الصوفية، فهي مُخالفة لما جاء به الرسول ﷺ واتباع سنته إنما هو اتباع ما صح عنه، وأما تلك الروايات المكذوبة، التي تروج في تلك البيئات الصوفية، فمثل هذه ليس ذلك من اتباع سنته، وإن سُمي ذلك أحاديث، لكنها ليست بشيء.

"دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يُبالي بأيهما ظفر؛ إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه، وأمثلة هذا الأصل كثيرة معروفة".

 هذا هو الواقع في جميع وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] الأمة بين الديانات، وهذا معروف، ومضى، ودرستموه في الواسطية مثلاً، وفي غيرها، كذلك أهل السنة وسط بين الطوائف كما هو معلوم، ودائمًا الشيطان يسعى إلى هذا أو هذا، فهو ينظر إلى حال العبد إن كان فيه ميل إلى الشدة؛ فإنه يأتيه من هذا الباب؛ فيحصل له نوع غلو، وإذا كان فيه ميل إلى السهولة واليُسر؛ فإنه يأتيه من هذا الباب؛ فيكون فيه نوع تفريط، والحق هو الوسط بين هذا وهذا، بين الغلو والجفاء، فهذا يُلاحظه الإنسان في أحواله كلها، وقد يكون الإنسان على حالة معتدلة، يعني: على حالة مستوية، أو وسط في أبواب كثيرة، ولكنه في بعض الأبواب لا يكون كذلك، يعني: يحصل له شطط، أو تفريط في بعض الأبواب، إما لجهل، وإما لهوى عنده مثلاً، أو لغير ذلك من الأمور كالتقليد في بعض الأبواب التي لربما نشأ على شيء فيها، فقد لا يسلم أحد من هذا.

ولكن على كل حال يحاول الإنسان دائمًا أن يكون مُسددًا، وأن ينظر بما كان عليه النبي ﷺ فيتبعه، هذا هو الواجب، ما المقصود بالوسط؟ الوسط، يعني: الحق بين الإفراط والتفريط، يعني: ليست القضية أن يكون الإنسان في حالة، يعني: كما هو في الرسم الهندسي، أو أن يكون الإنسان في وسط بين طرفين بحيث يكون متوسطًا في مسافة متحدة من هذا أو هذا، ما هو الوسط؟، يعني: ما المراد بالوسط شرعًا؟ الوسط أن يكون الإنسان على الحق، فكل أحد يدعي أنه وسط، فأهل التفريط يدعون أنهم وسط، وأهل الغلو يدعون أنهم وسط، فإذا أردنا أن نتوسط كيف نصنع؟ ننظر إلى هدي النبي ﷺ، ولعله يأتي حديث مُستقل -إن شاء الله تعالى- عن حقيقة الوسطية، ما هي الوسطية؟

يعني: مثلاً لو جئنا مثلاً نقول: وسط، المنافقون أرادوا أن يكونوا وسطًا، والآن الكفار ماذا يقولون عن المنافقين في زماننا؟ يسمونهم بالمُعتدلين، فهذا الوسط الآن الذي كان المنافقون عليه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62] ما هو هذا الإحسان والتوفيق؟ المنافق ماذا يريد؟ يريد أن يكون وسطًا بين الكافرين والمؤمنين، فيتوسط، يعني: يكون رمادي لا أبيض ولا أسود، فيُرضي هؤلاء ويُرضي هؤلاء، ويقول: أنا لست في هذا الاتجاه، ولست في هذا الاتجاه، أنا أحاول أقرب وجهات النظر، وأحاول أني أوفق، توفق بين من ومن؟ بين الكفار والمؤمنين، فهذا محاولة التوسط بين الكفار والمؤمنين هذا لا يُقال له: وسطًا، بل هو انحراف أدى بهم لئن يكونوا من أهل الدرك الأسفل من النار، وهم يدعون أنهم على حال من التوسط، وقل مثل ذلك في أشياء كثيرة، لو جاء إنسان وقال -يعني: بمحض الهوى، نظر إلى العمل المشروع مثلاً في مسألة الولاء والبراء، بين من يتولى الكفارة موالاة تامة، وبين من يتبرأ من أعداء الله بمختلف طوائفهم- فقال: نحن نتوسط في هذا الموضوع، فقال: أنا أريد أن لا أتبرأ منهم، ولا أتولاهم، وسط بين من يتولاهم، وبين من يتبرأ منهم، قال: أنا لا أتبرأ منهم، ولا أتولاهم، البراءة منهم لماذا؟ فأراد أن يكون وسطًا في هذا، هل يكون فعلاً حقق التوسط في هذا الباب؟ لا، ما كل من أراد أن يقف بين كِفتين أو بين جهتين يكون متوسطًا، بل إنه قد يكون بذلك منحرفًا، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بقضايا حسمها الشارع، وأمور تتعلق بالعبادات، أو قضايا تتعلق بالمرأة، أو الميراث، أو نحو هذا، فأراد أن يتخذ طريقة وسطًا بين ما جاء به الشرع، وبينما مثلاً ما عند غير المسلمين من القوانين المُخالفة للشرع، قال: نحن نريد أن نتخذ شيئًا وسطًا خليطًا، كما فعل المغول حينما جاؤوا بالياسق، جعلوا خليطًا من أصل ديانة السيخ، السيخ هؤلاء ما أصل ديانتهم؟

هذا كان رجل، يعني: يشتغل تقريبًا مع رجل تجار مسلم، والأصل أن الرجل هذا من الهندوس، وكانت الصراعات بين المسلمين والهندوس في القارة الهندية محتدمة، والحروب ما تتوقف، والنزاعات والقتال، وما إلى ذلك، وهذا يؤلمه، فهو مُعجب بهذا التاجر المسلم، وبأخلاقه، وتجارته، وانضباطه، وعمله، وسموه، ويتألم أيضًا لقومه لا يستطيع أن يُفارق دينه، فماذا فعل؟

أراد أن يأتي بديانة مزيج من المسلمين والهندوس، يجمع بين هؤلاء وهؤلاء الفرقاء، ويأتي بديانة في منتصف الطريق، بحيث أنه يلتأم الشمل، ويجتمع الناس هؤلاء على دين، يعني: مُركب من الديانتين، ما الذي حصل؟

ظهرت ديانة جديدة اسمها السيخ، وهي أشد عداوة وحقدًا على المسلمين، وفتكًا من الهندوس كما هو معلوم، فهذا أراد أن يكون وسطًا، وقل مثل ذلك في أمثلة وصور كثيرة جدًا، فالوسط لا يعني: أن يقف الإنسان في النقطة، يعني: في المسطرة إذا كانت ثلاثين سنتيمتر يقف عند رقم (15) أن يقول: هذا الوسط، لا، ليس ذلك بالضرورة في كل الصور، والأمثلة، إنما يكون مع الحق، فالحق هو الوسط، وقد تتغير المعايير، تتدنس الفِطر، ويرى الناس أن الحق هو التشدد مثلاً، فلزوم الحق هو التوسط.

مثل الآن في الخلافات القائمة في كثير من بلاد المسلمين، أو في بعضها، هؤلاء يريدون تحكيم الشريعة، وهؤلاء تريدون تحكيم الديمقراطية والقوانين، وما إلى ذلك، يأتي من يقول: وسط، نُلفق بين هذا، ونُرضي هؤلاء، ونُرضي هؤلاء، فيكون له موقف بزعمه أنه موقف مُعتدل، متوسط، ففي هذا في الواقع أنه انحراف، وليس من التوسط في شيء.

"لا يحل امتحان الناس بأسماء ليست في الكتاب والسنة؛ فإن هذا خلاف ما أمر الله به ورسوله ﷺ، وهو مُحدث للفتن والتفريق بين الأمة، فأكرم الخلق على الله أتقاهم من أي طائفة كانت، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بحث الأمة على الإتلاف، وتحذيرهم من الافتراق، فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد ﷺ أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويُعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله، وقد برء الله نبيه ممن كان هكذا، وإنما هذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماءهم، وأقل ما في هذا من الشر أن يُفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان الآخر أتقى منه، وإنما الواجب أن يُقدم من قدم الله ورسوله ﷺ، وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علماؤها وأُمراؤها وكُبراؤها هو الذي أوجب تسلط الأعداء، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، فمتى ترك الناس بعض ما أمر الله ورسوله ﷺ به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".

 شيخ الإٍسلام -رحمه الله- في هذا وضع أصبعه على الجُرح، الذي لم يزل ينزف منذ قُتل عثمان -رضي الله تعالى عنه، وأرضاه- فصارت الأمة على طوائف يكون الولاء والبراء فيها على غير ما رسمه الشارع وحده لأهل الإيمان، فمن كان معهم فهو منهم ووالوه، ومن لم يكن كذلك ناصبوه العداء، وتكلموا فيه بالظن كما يقول هنا: "ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا بُرهان من الله، وقد برّأ الله نبيه، وإنما هذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماءهم"، يتكلم في الناس بالظن، كل من لا يوافقه في هواه، واجتهاداته فهو يُعاديه، ويلزمه، ويتكلم فيه، وهو لا يعرفه، ولم يسمع له كلامًا، ولم يُجالس هذا الإنسان، ولم يسمع له درسًا، ولم يعرف عنه قليلاً ولا كثيرًا إلا أنه فقط ليس من طائفته، والعبرة بالحقائق، وليست العبرة بالأسماء، ولهذا لما كانت الأسماء الشرعية أعني المُهاجرين والأنصار، وهي مما أثنى الله عليه في كتابه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100] لما اُستعمل ذلك على وجه الحمية، والعصبية، فقال رجل من موالي المُهاجرين، وهو الجهجاه مولى لعمر : يا للمهاجرين، وقال الآخر -وهو مولى لأُبي بن كعب- قال: يا للأنصار، فدعو هنا بدعوة، بأسماء شريفة، فسماها النبي ﷺ بدعوى الجاهلية، قال: أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم[11] فإذا استعملت الأسماء الشرعية التي يُحبها الله ورسوله ﷺ على وجه الحمية والعصبية فذلك من دعوى الجاهلية، فهذا الأمر لا يكاد يسلم منه أحد، فيحتاج العبد إلى تجرد كبير.

وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أحد أسباب هذه القضية قال: "فمتى ترك الناس بعض ما أمر الله ورسوله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء"، هؤلاء اهتموا بالعلم، وهؤلاء اهتموا بالعقيدة، وهؤلاء اهتموا بالدعوة، وهؤلاء اهتموا بالجهاد، ولم يقل أحد منهم نحن نقوم بفرض كفاية، والآخرون يقومون بالفرض الآخر، لا، صاروا طوائف، وصارت كل طائفة تتحزب على بعض الدين بعض ما جاء به الرسول ﷺ، فإذا أخذت كل طائفة ببعض ما جاء عن النبي ﷺ أورث ذلك بينهم العداوة والبغضاء، ولا بد، والصحيح أن يأخذ الإنسان الدين بشموله وكماله، فإذا كان لا يستطيع أن ينهض بجميع هذه الوظائف، ولن يستطيع؛ فإن ذلك يكون مُفرقًا في الأمة، فهؤلاء يقومون بهذا، وهؤلاء يقومون بهذا، وهؤلاء يقومون بهذا، ويكون بينهم التناصر والتعاضد، والتعاون على البر والتقوى، وتسود بينهم المحبة والموالاة كما أمرهم الله -تبارك وتعالى-، وهناك أمور قد يقول الناس: نحن في بعض البلاد بحاجة إليها مثلاً، ويجتهدون، ويتأولون لكن ذلك يحتاج إلى مزيد من الحذر، وعلهم يسلمون، مثلاً: لو أنهم في بلد من البُلدان أرادوا الدخول في هذا المُعترك من الانتخابات، وما إلى ذلك، ورأوا أن ذلك يسوغ لهم، فأسسوا لهم حزبًا؛ لأنهم لا يستطيعون الدخول إلا عن طريق هذا الحزب الذي يؤسسونه مثلاً، فهنا لا يصح منهم بحال من الأحوال أن يتحولوا إلى قوم يتحزبون حقيقة، يعني: هم دخلوا هذا على أنه وسيلة يتوصلون بها إلى ما يريدون بعد ذلك، فلا يصح أن يتحولوا حقيقة إلى قوم يتحزبون، ويوالون ويُعادون على هذا الحزب، ثم بعد ذلك يطلبون المكاسب لهذا الحزب، أو أن يوظفوا الجهود والأعمال التي يقوم بها غيرهم ممن قد يُناصرهم ويؤازرهم؛ لأنه يرى أنهم أفضل من يُمثله، ولكنه ليس منهم، فتوظف هذه الأعمال من قِبل هؤلاء، والواقع أنها ليست لهم، فإذا جاءت الإحصاءات يقولون: نحن معنا كذا من الناس، نحن بنينا كذا من المساجد، نحن يتبعنا كذا من المدارس، يتبعنا كذا من المعاهد، والواقع أنها ليست لهم، قد أقول أنا مثلاً: نُنشأ جمعية، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يمكن لكثير من الناس أنهم يتعاونون معي، أو نحو ذلك؛ لأنهم يرون أني أُمثلهم على الأقل في، لا أصح أني آتي، وأقول: والله أنا عندي من الفروع كذا وكذا، وهي أعمال أقامها آخرون، ولهم فيها جهود مشكورة، وأعمال مبرورة، ثم بعد ذلك يتحدث الإنسان على أن هذه جميعًا من مُكتسباته وأعماله التي أسسها، ونهض بها، فتتحرك النفوس ممن كانوا معه، ويرون أن هؤلاء قد جُردوا من كل شيء، هؤلاء من الأنصار الذين معه، جُردوا من كل شيء، وأن جميع هذه الأعمال والمُكتسبات عبر السنين الطويلة ذهبت إلى غيرهم، فصار يتشبع بها غيرهم، وينسبها إلى نفسه؛ فتتحرك نفوسهم، فتقع النُفرة والعداوة والبغضاء بين المتفقين الآن، دعك من غيرهم من أولئك الذين يختلفون معهم، فمثل هؤلاء تقع بينهم تحريش، يقع تحريش الشيطان، ولابد، لكن لو أنا الناس تجردوا، يعني: يتجرد الإنسان في نفسه هو، وتتجرد الطائفة من هؤلاء ممن صاروا بهذه المثابة، يتجردون من حظوظ النفس، فيقولون: ما منا شيء، ولا لنا شيء، المقصود أن يكثر الخير نُسب إلينا أو نُسب إلى غيرنا، المقصود ألا يرجع أولئك الشياطين، أولئك من أهل الإجرام والظلم والعُتاة، المقصود أن يكثر في الناس الخير ويشيع، ولا نُريد أن يُنسب إلينا من هذا شيء، هذا لو فُعل؛ لكان ذلك مؤديًا إلى المطلوب، لكن من الذي يفعل هذا؟! من الذي يسمو إلى هذا المستوى؟ لا، تجد كثيرين يقول: أنا، أنا كان دوري كذا، فأين نصيبي، لماذا لا أُذكر؟! لماذا لا أُعطى كذا؟! لماذا لا يكون لي من الحِصة كذا، فتقع العداوة، وتقع معارك ومُطاحنات المُنتصر فيها خاسر، وهم لا يمكن أن تبقى طائفة واحدة منهم منتصرة، إنما باجتماعهم، فإذا حصل هذا التنافر وهذه المعاداة والفضائح على الفضائيات مثلاً، أو غير ذلك؛ مجهم الناس وكرهوهم، ونفضوا أيديهم منهم، ثم تبقى كل طائفة لوحدها، فيأتي أولئك من أعوان الشيطان وحزبه فيجتمعون، ثم بعد ذلك يفوتون عليهم الفرصة، ويضيع الحق الذي في أيديهم بسبب هذه الاختلافات، ولا يرجعون إلا بالحرمان والخيبة، ونسأل الله أن يلطف بعباده.

هذا كلام في غاية الأهمية لشيخ الإسلام -رحمه الله- وهو كلام نفيس، وطويل يقول -مثلاً مما ذكره- يقول: "كذلك التفريق بين الأمة، وامتحانها بما لم يأمر الله به، ولا رسوله مثل: أن يُقال للرجل: أنت شكيلي، أنت قرفندي"، يعني: أنت كذا، أنت كذا، تنصيف الناس هذا لا يجوز، حرام، يقول: فإن هذه أسماء باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة، لا شكيلي، ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي، ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.

وذكر ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معاوية سأله: أنت على ملة علي، أو على ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي، ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله ﷺ[12].

وهكذا يقول: والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين، المؤمنين، عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم، وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، ويقول: بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها، مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، أو إلى شيخ، أو نحو ذلك يقول: أو القبائل: كالقيسي، واليماني إلى آخره، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يُعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان.

ويقول: وأولياء الله الذي هم أولياؤه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، وذكر ليس البر، إلى أن يقول -كلامه طويل على كل حال أنا اختار منه بعض المُقتطفات- يقول: فقد أخبر الله سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، سواء كان من أهل نسبة، أو بلدة، أو مذهب، أو طريقة، أو لم يكن، والله يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] إلى آخر ما ذكر، وساق جملة من النصوص.

وقول الله : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الأنعام:159] إلى أن قال: "فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد ﷺ أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويُعادي طائفة أخرى بالظن والهوى"، الكلام الذي سبق، وأن هذا فعل أهل البدع، وأن أهل السنة معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يُفضل الرجل، إلى آخره، وذكر كلامًا نقله الشيخ عبد الرحمن بن سعدي يقول: وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مُبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ يُراجع كلامه طويل في غاية النفاسة في هذه الوصية.

مداخلة: كلامه يُنزل على أهل السنة، أو يشمل جميع الطوائف التي لم تصل حد الكفر؟

 كل من كان مُحققًا للاتباع والسنة؛ فإنه يوالى تحت أي اسم كان، وإن كُنا لا نُقر الأسماء المُحدثة، فليست العبرة بالأسماء، وأما من كان عنده بِدع ومُخالفات، فيكون له من الولاء بقدر ما عنده من الاستقامة، ويكون له من البراء بقدر ما عنده من الانحراف، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمُعتزلة، فإن الولاء والبراء عندهم لا يتجزأ، يا أسود يا أبيض، إما معي أو ضدي، إما أن تكون ملكًا، والعلّامة البحر الفهامة، الذي ما شاء الله، ويُعطى أعظم الأوصاف، وإلا زنديق ضال مُبتدع، ليس بشيء، هالك -نسأل الله العافية- يعني: هذا من الفجور في الخصومة، أين الولاء والبراء لأهل الإيمان؟

طيب عنده بِدع، عنده مُخالفات، خلاص انتهى، صار زنديقًا وهالك، وكل هذه الأشياء، أعطه من الولاء، أعطه من حقوق المسلمين، أين النصوص الكثيرة الواردة في الحقوق الواجب بذلها لأهل الإسلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه[13] إلى آخره، الله يصلح الحال.

الشوكاني -رحمه الله- ذكر عن بعض علماء اليمن، قال: الناس ثلاثة: علماء يختلفون من الراسخين في العلم، هؤلاء إذا اختلفوا لا يكون مشكلة من اختلافهم، يتفاهمون، وعوام هم تبع للعلماء، المشكلة هذا أبو شبر، هؤلاء الذين في الوسط، لا صار عالمًا، ولا من العوام، وإنما هم بين بين، ما نضجوا، لا زالوا في طور النشأة، وقد يتوقف الإنسان، أحيانًا يكون شيصًا فلا يكون رُطبًا، فيتوقف النمو، يعني: يبقى في حال من غير الاكتمال والنُضج، يعني: لم يكتمل بعد، فمثل هذا هو الذي يقع بسببه الشقاق والنزاع والخلاف، بغض النظر عن السن، يعني: قد يكون كبيرًا في سنه، قد يكون صغيرًا، لكنه لم ينضج علميًّا، لم يكن بمرتبة الراسخين في العلم، فهؤلاء هم الذين يقع بسببهم النزاع الكثير والشر والتفرق، وهذا أمر لا يرضاه الله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] والأعظم من ذلك إذا كان هذا النزاع والتفرق والشقاق بسبب اجتهادات، اجتهادات مُحتملة في قضايا وأمور ومسائل دعوية أو قضايا تتعلق بأشخاص تُحسن الظن بزيد أو عمرو، أو تترحم على زيد أو عمرو، هذا لا يجوز أن يوالي الإنسان عليه ويوالي أبدًا، ولا يمكن أن يصدر هذا من إنسان عنده علم، ويعرف ما يكون الولاء عليه والبراء، إطلاقًا لا يمكن، ولكن إما بالجهل، وإما سبب الهوى والبغي، فتُجعل هذه القضايا التي ليست مناطًا للولاء والبراء قضايا اجتهادية مُحتملة تُجعل قضايا مُفاصلة كاملة، هذا من عمل الشيطان، والله المستعان.

"إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأُكرم المتقون من جميع الطوائف؛ كان ذلك من أعظم الأسباب التي تُرضي الله ورسوله ﷺ، وتُصلح أمر المسلمين".

 هذا الكلام تابع للكلام السابق، يعني: القضية ليست أن هذا من الطائفة الفلانية، أو هذا معي، أو نحو ذلك، كل من أساء يُعامل بما يستحق، أيًّا كان انتسابه، ومن أحسن فإنه يُشكر على هذا الإحسان، ويُعان، ويُدعى له.

"ويجب على أولي الأمر أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، فالأول مثل شرائع الإسلام كالصلوات الخمس، وما يتبعها من واجبات وسُنن، لأسباب وغير أسباب، والصدقات، والصوم، والحج، فرض ذلك ونفله، ومثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ومثل الإحسان؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وكل معروف صدقة، ومثل سائر ما أمر الله به من الأمور الباطنة والظاهرة؛ كإخلاص الدين لله، والتوكل على الله، وأن يكون الله ورسوله ﷺ أحب إليه مما سواهما، والرجاء لرحمة الله، والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله، ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك، والعدل في المقال والفِعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق كلها.

والثاني: مثل الشرك، والقتل، والزنا، والسحر، والربا، والميسر، وأكل الأموال بالباطل، والمعاملات التي نهى عنها الرسول ﷺ، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق، والقول على الله بلا علم، كالبِدع الاعتقادية، والبِدع العملية، والإفتاء بغير علم، والتعاون على الإثم والعدوان؛ وهو جميع المعاصي، وجميع الظلم للعباد في دماءهم وأموالهم وأعراضهم".

 هذا الكلام تابع أيضًا للكلام السابق، هناك ذكر أن الأخذ ببعض الدين سبب للتفرق، هنا يقول: الأخذ بكل الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو سبب للاجتماع، ولهذا قال الله مُذكرًا أهل الإيمان: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۝ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:103-104] يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُواوذكرهم بحالهم قبل الإسلام من التفرق والتشرذم، وكيف أنهم كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها، فينبغي أن يُدركوا، وأن يعرفوا قدر هذه النعمة العظيمة، فيتمسكوا بها، فلا يُضيعوها، وكيف يكون هذا التضييع وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] فهؤلاء الذين يخرجون ببِدع وضلالات وأهواء وانحرافات ونحو ذلك؛ هؤلاء يُنصحون، يُكلمون، يؤمرون بالمعروف، يُنهون عن المنكر، وإلا حصل التفرق، فتأتي هذه تصير طائفة، وهذه تصير طائفة، وهذه تصير طائفة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أعظم أسباب اجتماع الكلمة، وإلا فإن النبي ﷺ ذكر أشياء يسيرة في نظرنا، يعني: لما قال مثلاً: لتسوون صفوفكم، أو ليُخالفن الله بين قلوبكم[14].

فإذا كان تسوية الصفوف في الصلاة تكون سببًا للمُخالفة في القلوب، فيُعرض هذا عن هذا، وهذا يُشيح عن هذا ما يُريد أن يراه، ولا يُسلم عليه، ويُريد أن يخرج من المسجد لا يرى أحدًا، ولا يُسلم على أحد، يجد وحشة من الناس، فهذا بسبب ماذا؟ قضية مثل هذه تسوية الصفوف، يعني: الشارع حينما يذكر أشياء في نظرنا يسيرة، معاوية لما جاء إلى المدينة، وخطب، وأخذ خصلة من شعر، فتكلم على قضية الوصل، قال: يا أهل المدينة أين فُقهاؤكم؟ أين عُلماؤكم؟ ثم ذكر عن النبي ﷺ أن هذا كان سببًا لهلاك بني إسرائيل[15].

ما الذي أهلك هؤلاء الأمة، التي كانت أمة عظيمة في يوم من الأيام؟ ذكر قضية يسيرة، وهي وصل الشعر، إذًا كيف بما هو أعظم من هذا من تضييع شرائع الإسلام الكبار، وحقائق الدين، وفعل المنكرات العظيمة، وظهور البِدع الكِبار، كل هذا، فتبقى هذه الأمة في حال من التفرق والتشرذم، هذا أمر في غاية..

لكن حينما نقول الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، كما قال الله : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] على الأقل جمع كلمة أهل السنة الآن، ونبذ أسباب التفرق، هذا من المطالب في المرحلة الأولى، هذا من المطالب الضرورية التي قد تكون سببًا لرفع بعض هذا البلاء الذي مُنيت به الأمة، لكن تبقى حظوظ النفس هذه حاضرة، والشيطان ينفخ فيها، مُكتسباتنا نحن الذين عملنا، نحن كذا، نحن مشينا على هذا الأصل دائمًا أفرادًا وطوائف، في مشارق الأرض ومغاربها، ما مني شيء ولا لي شيء، المقصود تكثير الخير والمعروف، ما لي مُكتسبات، وما مني شيء، ولا يُنسب إليّ شيء، ولا فعلت شيئًا، بهذه الطريقة لو وصلنا إلى هذا المستوى؛ لصارت الأمة في حال أخرى تمامًا، لكن كل واحد يقول: لا، نحن عبارة عن كِيان، ولنا مُقدرات ومُكتسبات، وصار عندنا، يعني: سُمعة طيبة، والناس يثقون بنا، والناس والناس، ويبدأ الشيطان ينفخ في هذه القضايا، والنتيجة ما هي؟ الفشل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا [الأنفال:46] تحتاج النفوس هذه إلى مُجاهدة، الصبر على طاعة الله ، وصبر عن حظوظ النفس، والله المستعان.

"الأمور العامة التي يفعلها الباري تكون لحكمة عامة، ورحمة عامة".

 إي نعم، يعني: الله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164] فهذا من رحمته -تبارك وتعالى- أن بعث فيهم هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ فهذه رحمة عامة.

"وحكمته -تعالى- يعلمها العباد، وقد يخفى عليهم كثير منها، والأضرار اليسيرة المغفورة تُغتفر في جنب المصالح العامة".

يعني: هذا، يعني: جواب على سؤال مُقدر، قد يقول قائل: طيب وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] في ناس تضرروا، في ناس قتلوا، في ناس سُبيت نساؤهم، أُخذت ديارهم من قِبل جيوش المسلمين، في ناس أُسروا، في ناس جُرحوا، طيب هل هذا بالنسبة إليهم رحمة؟ فيقال: هو رحمة، من جهات عِدة:

أولاً: أن هؤلاء الكفار قلَّ كفرهم وشرهم وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251] فقلَّ هذا الشر والكفر، وهؤلاء الذين قتلتهم جيوش النبي ﷺ أو جيوش المسلمين لم تطل أعمارهم في الكفر، فيكون ذلك سببًا لزيادة العذاب والنكال عليهم، ثم أيضًا هذا الضرر الذي وقع لزيد أو عمرو هو مغمور بالنسبة للمصالح الكلية العُظمى، يعني: الآن مثلاً كما يذكر شيخ الإسلام المطر، هذا المطر الذي ينزل هو رحمة، أليس كذلك، والناس يستسقون من أجل أن ينزل المطر، لكن حينما ينزل المطر، هذا سقطت داره، وهذا غرقت أرضه أو مزرعته، وهذا حصل تلف لمحاصيله، وذاك غرق في الوادي، وهؤلاء جاء الوادي وجرف بيوتهم التي بُنيت فيه، وذاك حصل له بسبب المطر سيارته مثلاً، أو سيارات الناس صار لها، يعني: ما صارت نظيفة، والشوارع كذلك، طيب تعطل السير في أحد الطُرقات، مثل هذه الأشياء هي قليلة، ومغمورة بالنسبة لمصالح المطر، يعني: الإنسان الذي لا ينظر إلا لما حصل له هو فقط هذا قاصر النظر، نظره محدود، عنده ضيق أُفق، لكن المصالح العُظمى بنزول المطر، مصالح البلاد والعباد، هذه تنغمر معها كون يحصل انهدام بيت لهذا، أو مكروه لذاك، فهي أمور مغمورة بالعبرة بما غلب، ولذلك فإن هذه الدار، يعني: الدنيا كما سبق فيما ذكره الشاطبي لا يوجد فيها مصالح، يعني: منافع محضة من كل وجه، لا بد أن يكون فيها نقص، لا بد أن تكون مشوبة، كما لا يوجد فيها مفاسد من كل وجه، لكن العبرة بما غلب[16] والله -تبارك وتعالى- إنما يُناط التحريم خطابه بالتحليل أو التحريم، باعتبار الغالب يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] وإلا فالمطعومات والمشروبات التي نشربها إلى آخره ما تخلوا من نسبة من الضرر، ليست نفعًا محضًا كشراب الجنة وطعام الجنة، لكن هذا الضرر يسير ومُغتفر بالنسبة للمنافع الكثيرة التي فيها، لكن أفعال الله كلها خير؛ ولهذا لا يُنسب الشر إليه، وقد مضى الكلام على هذا، إنما الشر يكون في مفعولاته، وليس في أفعاله، فأفعاله لِحكم عظيمة، وتظهر فيها معاني أسمائه وصفاته، وقد مضى شرح هذه الجملة.

"فالمحافظة على الكُليات في الشرع، والقدر مُقدم على مراعاة الجُزئيات؛ لأنها لو لم توجد تلك الأضرار الجُزئية اليسيرة؛ فاتت المصالح الكلية الكبيرة والكثيرة".

 ولهذا العلماء هؤلاء كالشاطبي وشيخ الإسلام يتكلمون عمّن قصُر علمه ونظره وعقله فيتمسك بمصالح جُزئية تفوت المصالح الكلية[17] وهذا حينما يحصل التعارض بين المصالح والمفاسد، أو تزاحم المصالح، أو تزاحم المفاسد، فإن هذه على مراتب: ضروريات، حاجيات، تحسينيات، وهذه الضرورات تتفرع منها فروع ضرورات خمس، الحاجيات هي مُكملة للضرورات، والتسحينات مُكملة للحاجيات، فيأتي في هذه الحالات حينما يحصل التعارض من يتمسك بمصلحة جُزئية، ويفوت مصلحة كلية، يتمسك بدفع مفسدة جُزئية، فتفوت مصلحة عُظمى تتعلق بأعلى المراتب في الضرورات الخمس، وهذه مشكلة.

فهذا يحتاج إلى فقه، ويحتاج إلى وزن لهذه الأمور بميزان الشرع، ويحتاج إلى عقل راجح، وحُسن نظر في مثل هذه الأمور، يعني: يحتاج فقه وعقل، والعلم شيء والعقل شيء آخر، قد يكون الإنسان من أوعية العلم لكن لا عقل له، فمثل هذا المفروض أنه لا يتوقف على ما بدا له، وإنما يسأل أهل العقول الراجحة، وقد يكون الإنسان ليس عنده علم، لكن عنده بصر، عقل راجح، فيسأل أهل العلم، فالعلم شيء، والعقل شيء، الذكاء شيء، والعقل شيء، قد يكون الإنسان من أذكى الناس، وقد يكون عنده أيضًا حافظة قوية، ويحفظ مئات الآلاف من الأحاديث، لكن العقل، ما عنده عقل، ما عنده عقل، ممكن أن يفوت المصالح الكلية بالتمسك بمصلحة جزئية، وتأتيك الفتاوى يمنة ويسرة، يعني: تهدم أصولاً عظيمة، والسبب أنه لم يكن له عقل راجح.

في فرق بين العقل والعلم، فرق بين العقل والذكاء، العقل غير الذكاء، ذكي لكن ما عنده عقل، تجد مثل هذا الذكي، أو مثل هذا الذي عنده علم كثير، ممكن أنه يعفس -كما نُعبر، يعني- أُسرته، يُطلق زوجته، يشرد أولاده في أمور قد تكون ممكن تُلم، ممكن تُعالج عن طريق أهل العقول، ممكن كذا، علاقاته الاجتماعية مُبترة، مُقطعة من كذا، لا يُحسن التصرف، لا يُحسن التعامل؛ لأتفه الأشياء يمكن يطيش، ممكن أنه يتصرف تصرفات تهدم، وتضره، لماذا؟

لأنه ما عنده عقل، فلو أنه يستشير، يتأنى؛ لكان خيرًا له، وقد يكون في العلم عنده الشيء الكثير، فالعلم غير العقل، النظر في المصالح والمفاسد يحتاج إلى الأمرين، لا يطير إلا بهذين الجناحين، والله المستعان.

"والشر لا يجيء في كلام الله، وكلام رسوله ﷺ إضافته وحده إلى الله، ولكنه يأتي على أحد ثلاثة أوجه".

 الآن هذا تابع للكلام السابق، قلنا: إنه لا يوجد في الدنيا شر محض، ولا يوجد خير محض، وإنما العبرة بما غلب، وأن أفعال الله مبنية على الحكمة، فالشر في مفعولاته، وليس في أفعاله، ولهذا لا يُنسب إليه، فكما قال النبي ﷺ: والشر ليس إليك[18] بدأ يتكلم عن الشر، أنه لا يجيء في كلام الله وكلام الرسول إضافته وحده إلى الله، ولكن يأتي على أحد، يعني: ممكن أن يقال: الله خلق الخير والشر، لا إشكال في هذا، لكن لا يُنسب الشر إلى الله وحده، فإن ذلك ليس من الأدب معه، وإن كان هو الذي خلقه يقول: ولكنه يأتي على أحد ثلاثة أوجه.

"إما على وجه العموم، أو يُحذف فاعله كقوله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، أو يُضاف إلى فاعله من المخلوقين".

 هذا الكلام الذي نقله الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- يعني: كأنه تصرف فيه، ويعني تغير بعض الشيء، فلابد من المُقارنة بالأصل، فهو في المجلد الثامن صفحة (94، 95) انظروا الأوجه الثلاثة التي ذكرها، يقول: ولكنه يأتي على أحد ثلاثة أوجه، هنا في الأصل في الفتاوى، يقول: بل لا يُذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، هذا المعنى الأول الذي هو على وجه العموم، في عموم المخلوقات، فإنه إذا دخل في العموم؛ أفاد عموم القُدرة، والمشيئة، والخلق، وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم، يعني: بمعنى أنه يقال: الله خالق كل شيء، فيدخل في هذا الخير والشر، هذا بالنسبة للعموم.

طيب لاحظ الثاني، هنا يقول: أو يُحذف فاعله كقوله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] لاحظ شيخ الإسلام يقول: وإما أن يُضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يُحذف فاعله، فالأول: الذي هو العموم، أن يدخل في عموم المخلوقات الله خالق كل شيء، قال: ومن هذا الباب أسماء الله المُقترنة؛ كالمُعطي المانع، والضار النافع، المُعز المُذل، الخافض الرافع، فلا يُفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قرينه، يعني: لا يُقال الله الضار؛ لأن اقترانهما يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى، وما في الوجود من غير ذلك فهو من عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين: يمين الله ملئى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار[19] إلى أن قال: وأما حذف الفاعل، فمثل قول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] وقوله تعالى في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أضاف الإنعام إليه، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] مغضوب، ما قال: غير الذين غضبت عليهم، مع أنه هو الذي غضب عليهم ولكن من باب الأدب، ومثل التأدب: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] أضاف المرض إلى نفسه، إبراهيم والشفاء إلى الله، وقصة الخضر مع موسى : فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82].

قال: وإضافته إلى السبب كقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، وقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82]، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

لاحظ الآن هذه الثلاثة، عموم المخلوقات: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أو أن يُحذف الفاعل تأدبًا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، وإما أن يُضاف إلى السبب، يعني: ليس إلى الله، الآن من الذي عاب السفينة؟ هو الخضر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] أضافه إلى السبب، أن الخضر كان هو المُباشر لذلك، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] مع أن الجميع من تقدير الله وخلقه، أليس كذلك؟

لكن هنا قال: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أضافه إلى السبب، ولم يُضفه إلى الخالق، مع أنه هو الذي خلقه، أفعال العباد مخلوقة لله فهنا وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] الهزيمة التي حصلت في يوم أُحد، من عند أنفسكم، مع أنه من تقدير الله فهذه ثلاثة أنواع في الأصل أوضح مما هنا، لاحظ، إما على وجه العموم، أو يُحذف فاعله، أو يُضاف إلى فاعله من المخلوقين، يعني: إلى السبب.

  1. انظر: تفسير ابن كثير (5/447).
  2. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (13/173).
  3. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم (1987)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5083).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).
  5. انظر: دراسات أصولية في القرآن الكريم، محمد إبراهيم الحفناوي (ص: 5).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2676).
  7. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (3377)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2269).
  8. أخرجه في الموطأ، كتاب القدر، جامع ما جاء في أهل القدر، برقم (3347) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2738).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  10. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (770).
  11. انظر: سرة ابن هشام (1/556) والحديث ضعيف. انظر تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن، لسيد قطب - رحمه الله – برقم (143).
  12. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم (1/328).
  13. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2580).
  14. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، برقم (662)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5069).
  15. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3468)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2127).
  16. انظر: الموافقات للشاطبي (2/45).
  17. انظر: المصدر السابق (3/180).
  18. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  19. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} [هود:7] {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} [التوبة:129]، برقم (7419)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).

مواد ذات صلة