الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
08- تنوع العبادات، التسعينية. (القواعد 119-131)
تاريخ النشر: ١٧ / ذو الحجة / ١٤٣٢
التحميل: 5572
مرات الإستماع: 3600

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا، ولنا، وللحاضرين.

قال -رحمه الله- من رسالة "تنوع العبادات":

العبادات التي فعلها النبي ﷺ على أنواع، يُشرع فعلها على جميع تلك الأنواع من غير كراهة لشيء منها.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

نسأل الله أن يتقبل منا، ومنكم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

هذه الرسالة "تنوع العبادات" هي من الرسائل المهمة لشيخ الإسلام -رحمه الله- وهي تتحدث عن نوع من الفقه في التعامل مع ألوان العبادات المشروعة التي جاءت في هذه الشريعة.

فهذه الشريعة كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "بمنزلة الشرائع المتعددة؛ لسعتها، وشمولها، فتارة ترِدُ العبادات على صور وأنواع تدخل تحت الجنس الواحد، وتارة تكون هذه العبادات متنوعة بمنزلة الأجناس المتعددة، بمنزلة الأجناس مثل: الصيام، الصلاة، الصدقة، الحج، بر الوالدين، وأشباه ذلك، فهذه عبادات متنوعة كل عبادة منها جنس تحته أنواع، فالصيام أنواع، والصلاة أنواع، والحج أنواع، وكذلك الصدقة، والعبادات المالية، وعلى هذا فقس.

وأحياناً هذا التنوع يكون تحت الجنس الواحد، مثل: صفات صلاة الخوف، فكل ذلك مشروع، ومثل: أنواع النسك: التمتع، والقران، والإفراد، فكل ذلك مشروع، ومثل: ما ورد من الصيغ القولية، مثل: صيغ التشهد الثابتة، وصيغ دعاء الاستفتاح، وصيغ ما يقال في الركوع والسجود، فهذا كله داخل في تنوع العبادات، فمن ذلك ما يكون على سبيل البدل، يعني: إذا فعل هذا لا يفعل الآخر في الوقت نفسه، ومنها ما يمكن أن يُجمع على خلافٍ في التفصيلات.

لكن هذا الكلام إجمالاً يوضح لك المراد من هذه الرسالة، فهذا نوع من الفقه، كيف يتصرف المكلف إزاء هذه الأمور؟ بعض الصور واضحة، وبعض الصور تحتاج إلى استنباط، أو تحتاج إلى فقه، أو تحتاج إلى دقة نظر، وهذا يكون تارة من قبيل اختيار خير الخيريْن، وأفضل العبادتيْن إذا كان لا بد من الترجيح بحيث لا يستطيع المكلف أن يجمع بينها، وتارة يكون الجميع مشروعاً على سبيل التنويع، فيأتي بهذا تارة وبهذا تارة، ويكون بذلك محققاً للكمال.

يقول: "العبادات التي فعلها النبي ﷺ على أنواع"، يعني: فعلها على صور، "يُشرع فعلها على جميع تلك الأنواع من غير كراهة لشيء منها"،  مثل: أنواع التشهد، لكنه لا يأتي بذلك مكرراً في الصلاة الواحدة، كما أنه لا يأتي به ملفقاً، فهذا خلاف المشروع، يأتي به مكرراً يعني يأتي بهذه الصيغة، ثم بعد ذلك في نفس التشهد يأتي بالصيغة الأخرى، ثم يأتي بالصيغة الأخرى فهذا غير مشروع، إنما يأتي بواحد. 

ولا يأتي به ملفقاً كمن يُركب من الصيغ المتنوعة صيغة متحدة، يلفقها بإضافة الزوائد، ثم بعد ذلك يقولها ويظن أن هذا هو الأكمل، وهذا غير صحيح؛ لأن هذه الأذكار توقيفية، فيأتي بها المكلف كما جاء عن النبي ﷺ، وفي الحديث لما قال: آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، وقال: "وبرسولك الذي أرسلت" فضرب النبي ﷺ على صدره، وقال: وبنبيك الذي أرسلت[1]، مع أن الرسول لا يكون رسولاً حتى يكون نبيًّا، والرسالة أبلغ من النبوة وأرفع، ومع ذلك النبي ﷺ أنكر عليه ذلك، فلا يغير كلمة من هذه الأذكار.

وهكذا ما جاء من صيغ الوتر وصفاته كون الإنسان يوتر بركعة تختم له الصلاة، أو يوتر بثلاث أو غير ذلك مما جاء عن النبي ﷺ فينوع، وهكذا في أوقاته في أول الليل، وفي وسطه، وفي آخره، كل ذلك من المشروع، ولكنه يتفاضل.

وهذا التفاضل يختلف باختلاف الناس أيضاً، فالذي قد يكون من حيث النظر ابتداء أفضل مطلقاً قد لا يكون في حق زيد من الناس هو الأفضل بإطلاق، وهذا سيأتي إيضاحه -إن شاء الله-.

يعني: قد نقول: إن هذا العمل، أو هذه الصفة، أو هذا الوقت للعبادة هو الأفضل مطلقاً، هذا من حيث الابتداء، لكن بالنظر إلى المعين من المكلفين فقد يكون الأفضل في حقه المفضول، وسيأتي إيضاح ذلك.

وهكذا أنواع القراءات المتواترة؛ فإنه لا يصح كماهي القاعدة أن يفضل بينها أو يرجح بطريقة تشعر بغمط القراءة الأخرى فضلاً عن توهينها، أو ردها كما يفعله بعض المعربين، أو المفسرين، طالما أنها ثابتة، فهذا كلام الله ، فكل ذلك من المشروع، فإذا قرأ بهذا أو هذا فإنه لا يُعاب، ولكنه يُنظر إلى حال هذا القارئ، فإذا كان في مقام التلقين والإقراء، فإنه لا يلبس على المتلقين، يُقرئهم بحفص فيخلط في القراءة مثلاً، فيحصل بسبب ذلك اللبس على هؤلاء الذين يتلقون عنه، وهكذا لو كان هذا في مقامٍ يصلي خلفه من لا يعقل هذه الأمور فيتسبب ذلك في فتنة فإنه لا يقرأ إلا بما يعرفون، وذلك هو الأفضل في حقه.

وما ينقل عن السلف من التكبيرات في العيد والصيغ، وصيغ التلبية، فينوع في هذه الصيغ، ولا ينكر أحد على أحد، وهكذا الترجيع في الأذان يعني عند الشهادتين يردّ ذلك ثانية كما جاء في أذان أبي محذورة  [2].

فلو أذن بذلك الأذان فإنه لا يُعاب، وإذا أذن بأذان بلال فإنه لا يعاب، وهكذا في تثنية الإقامة، أو إفرادها، فكل ذلك من المشروع، لكنه قد يكون في بعض الأحوال والأوقات الأفضل الاقتصار على نوع منها لاعتبارات تحتفّ بذلك.

وقل مثل ذلك فيما يتصل بصفات صلاة الخوف، فكل هذا من المشروع لكنه قد يكون أفضل في بعض الحالات بحسب مقام العدو مثلاً، فإنه قد يكون الأصلح لهم بعض الصفات في صلاة الخوف، وتكون هي الأفضل في حقهم نظراً لمقتضى الحال.

المقصود من هذه الفائدة، أو هذا الأصل الذي ذكره: أنه يُشرع فعل جميع تلك الأنواع من غير كراهة لشيء منها بصرف النظر عن التفصيل، هل يجمع بينها أو لا يجمع؟ وهذه القاعدة ملخصة من كلام لشيخ الإسلام -رحمه الله- وإلا فكلامه أطول من هذا.

قال -رحمه الله-: وينبغي أن يفعل هذا تارة وهذا أخرى.

هذا متصل بالذي قبله، يعني ينوع، مرة يقول دعاء الاستفتاح هذا، وفي صلاة أخرى يقول الدعاء الآخر، مرة يوتر بهذه الصفة، ومرة يوتر بالصفة الأخرى، ولذلك فإن صلاة التراويح التي نصلي بها -أو صلاة القيام- هكذا صبة واحدة من أولها إلى آخرها، وبصفة واحدة على الدوام لا أعلم لهذه المواظبة بهذه الصفة أصلاً في الشرع، النبي ﷺ كما في حديث عائشة وفي غيره لما وصفوا صلاته بالليل، كيف كان يصلي؟ يبدأ بركعتين خفيفتين، ثم يصلي ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين طويلتين طويلتين دون التي قبلها، ثم يصلي ركعتين طويلتين طويلتين دون التي قبلها، وهكذا، ما كان النبي ﷺ من أول التراويح -أو أول القيام- إلى آخر ركعة يصلي صلاة بصفة واحدة لا تزيد سطراً، ولا تنقص سطراً، يعدها بالأوجه، هذا لا  يعرف من فعل النبي ﷺ.

وهكذا في الصيغ كون النبي ﷺ يوتر بركعة واحدة، قد أوتر بغير ذلك من صفات الوتر، فينوع ذلك للناس إذا صلى بهم يصلي كما صلى النبي ﷺ لا من جهة الطول إلا إذا أطاق الناس ذلك، ولا أقل من أن يجعل ذلك متفاوتاً كما جعله النبي ﷺ متفاوتاً.

وهكذا ما يتصل بفعل القنوت وترك القنوت، فقد قنت النبي ﷺ وترك.

ولا يشترط أن يصلي إحدى عشرة ركعة من أول رمضان إلى آخر رمضان، فالنبي ﷺ لم يواظب على هذا، كان يصلي إحدى عشرة ركعة، وما زاد عن ثلاث عشرة ركعة، لكن ما كان يواظب دائماً على هذا العدد، فينوع، تارة يصلي بهم إحدى عشرة ركعة، وتارة يصلى ثلاث عشرة ركعة، وتارة يصلي أقل من ذلك ويطيل أكثر، فيعلمهم هذه الصيغ الواردة، وكذلك أيضاً ما يقوله في ركوعه وسجوده من الأذكار الثابتة عن النبي ﷺ.

قال -رحمه الله-: وقد يستحب بعضها لسبب شرعي.

يستحب بعضها لسبب شرعي كما سبق كأن يكون فِعل الآخر لا يطيقه الناس، أو أن نفوسهم لم تعتد ذلك، ولم تتروض عليه، فيحصل بسبب ذلك فتنة، مثلاً ناس اعتادوا على نمط معين جروا فيه على فتيا علماء بلادهم، أو على إمام متبوع، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يأتيهم بهذه الصيغ التي لا يعرفونها، فيحصل بسبب ذلك فتنة بين الناس.

وقد تكون الحال كما في صفة صلاة الخوف مثلاً، فيكون الأفضل في حقهم هو الأنفع، والأصلح، والأحوط، والأحفظ لهم. 

وقال -رحمه الله-: المفضول قد يصير فاضلاً لمصلحة راجحة تقترن به، أو زوال مفسدة.

يعني: بعض الأشياء قد تكون أفضل من بعض، بعض هذه العبادات المتنوعة قد تكون أفضل؛ لأنه اقترن بها مصلحة راجحة، أو لما يعتور ذلك من المفسدة سواء كان ذلك بالنسبة للشخص المعين المكلف في مزاولاته وعباداته وأعماله التي يتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى- أو كان ذلك بالنظر إلى مقتضى الحال، أو بالنظر إلى غيره من المكلفين -يعني المصلحة العامة- فيكون المفضول أحياناً أفضل في حقه، أو في حق هؤلاء من الفاضل، فمثلاً: أيهما أفضل الصلاة أو القراءة؟

الأفضل الصلاة، كما قال شيخ الإسلام في كلامه على هذه القضايا، ولكن القراءة قد تكون في بعض الأحوال أفضل، مثل: وقت النهي، فالمفضول الذي هو القراءة صار فاضلاً، وهكذا الذكر قد يكون أفضل مثلما يقال في الطواف، وبين الصفا والمروة، وعلى الصفا، وعلى المروة، وفي يوم عرفة: أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير[3]، فأفضل أن نقول ذلك في يوم عرفة.

وكذلك التكبير في أيام العشر، وإظهار ذلك لاسيما في الأيام التي أُميت فيها هذا لدى كثير من المسلمين، كما ترون لا تسمعون التكبير لا في المساجد، ولا في الأسواق، فما الأفضل الذكر أو القراءة أو التكبير؟ التكبير.

في العيدين حينما يخرج الإنسان لصلاة العيد مثلاً، ما الأفضل أن يقرأ القرآن مثلاً في نفسه أو أن يكبر؟

وإذا جلس في المصلى ينتظر الإمام هل الأفضل أن يخرج المصحف ويقرأ أو يكبر؟

الأفضل أن يكبر، فالتكبير أفضل، فالمفضول قد يكون فاضلاً باعتبارات مختلفة، وهكذا هل الأفضل أن نقرأ القرآن بين الصفا والمروة وفي الطواف، أو أن نذكر الله وأن ندعوه؟  الدعاء والذكر أفضل من قراءة القرآن.

وقل مثل هذا في يوم عرفة، وهذا له صور وأمثلة كثيرة كما هو بعد الفجر إلى الإسفار في مزدلفة، يرفع يديه، ويدعو حتى الإسفار، فلو جلس أحد يقرأ القرآن أخرج المصحف وجلس يقرأ، هو في عبادة، لكن هل هذا هو أفضل؟

هل الأفضل في ليلة عرفة أن يحيي الليل بالقيام أو ينام؟ قيام الليل مطلوب ومشروع، وفاضل، وردت فيه النصوص لكن في تلك الليلة ما هو الأفضل؟ الأفضل أن ينام من أجل أن يتقوى على أعمال يوم النحر، فذاك النوم صار في هذا الحال أفضل.

وباعتبار الأشخاص، فمن الناس من قد يكون الأصلح له المفضول، ويكون في حقه فاضلاً، وهذا يكون في الأذكار، وفي العبادات، وفي الأمكنة، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما تحدث عن أفضل البقاع أي الأماكن يكون فاضلاً بالنسبة للإقامة والسكنى فيه؟ تكلم عن مكة والمدينة وبيت المقدس وفضل المجاورة إلى آخره، وقال: "ولكن ذلك يختلف باختلاف الناس"[4]، وذكر أن المكلف حينما يجد قلبه في مكان آخر فذاك يكون هو الأفضل في حقه، قد يقول: أنا أسكن في المدينة أو مكة، ولكن لا أجد قلبي، لا أستريح لسبب أو لآخر، ولكن أجد قلبي في البلدة الفلانية، نقول: هذا هو الأفضل في حقك.

وقل مثل هذا في مواضع العبادة، في الصلاة في المساجد، في المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو في غيرها من المساجد، بعض الناس يقول: أنا أذهب في رمضان وأصلي التراويح والقيام في الحرم، ولكن أجد قلبي بسبب الزحام وكثرة الناس في مكان آخر، فأخشع ويرق قلبي وأستشعر العبادة فما هو الأفضل؟

نقول: هناك مزية وهي المضاعفة، ولكن المزية لا تقتضي الأفضلية -يعني بإطلاق-فيكون الأفضل في حقه حيث وجد قلبه؛ ولهذا بعض الإخوان في مكة كثيراً ما يسألون يقولون: نحن في مكة ونستطيع أن نعتكف في المسجد الحرام، ولكن لا نجد قلوبنا هناك، بسبب الزحام، ولكني أستطيع أن أعتكف في مسجدي في مكة، أو في مسجد آخر أخلو فيه وأنقطع للذكر والعبادة، وأجد من الخشوع والرقة ومقاصد العبادة المعينة التي هي الاعتكاف أعظم مما أجده في المسجد الحرام، بعض الناس يقول: هذا غبن وخسارة في مكة، ويترك الاعتكاف في الحرم ويعتكف في مسجد آخر!

نقول: هذا قد يكون هو الأفضل في حق هذا المعين، ففرق بين أن يقال: هذا الأفضل ابتداءً، وأن يقال: هذا هو الأفضل في حق زيد من الناس، فالمفضول قد يكون فاضلاً أيضاً باعتبار بعض المكلفين.

وقل مثل ذلك في القراءة في المصحف، والقراءة نظراً تكلم العلماء فيها وأن القراءة نظراً فيها إشغال للبصر، وهذا عبادة، ولكن النووي -رحمه الله- فصل في المسألة تفصيلاً جيداً فقال: هذا يختلف باختلاف الناس، نعم القراءة في المصحف لها شرف وفضل وزيادة في إعمال الجوارح في العبودية، ولكن من يجد قلبه حينما يقرأ عن ظهر قلب فذاك هو الأفضل في حقه، ومن استوى عنده الأمران، فالأفضل أن يقرأ نظراً من المصحف[5].

وهكذا أيضاً بالنسبة لأحوال الناس، قد يكون لنقصهم أو لضعفهم أو لعجزهم يكون الأفضل في حقهم هو العمل الفلاني، مثلاً الاعتكاف في رمضان فاضل، ولكن زيداً من الناس يقول: أعتكف، ولكن أولادي لا يذهبون إلى الصلاة، وأمهم لا تستطيع إيقاظهم يسهرون بالليل وينامون بالنهار، فيضيعون الصلاة المفروضة، ولربما خرج الوقت وهم لم يصلوا، فالأفضل في حق هذا أن يقوم على هؤلاء الأولاد ويترك الاعتكاف: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، فهذا الأفضل في حقه.

قد يتعارض عنده بر الوالدين مع الاعتكاف مثلاً، أو الحج والعمرة، فماذا يقدم إذا كان ذلك من قبيل التطوع؟ وفي هذه الأيام تسمعون الكلام في قضايا الحج في هذا الزحام، هل الأفضل تكرار الحج تطوعاً، أو يقال: الأفضل أن يتصدق بهذا المال الذي سيحج فيه، وأن الله يجزيه على ما علم من قلبه من الرغبة في النسك، فما هو الأفضل؟  

فهذه أشياء يُحتاج إلى معرفتها، وقل مثل ذلك أيضاً فما يتعلق بالنساء ما هو الأفضل لها؟ المرأة قد تقول: أنا أصلي في بيتي في رمضان، ولا أجد قلبي، ووقتي يتفرق عليّ بسبب الأطفال، وإذا ذهبت إلى المسجد على الأقل أحصّل قيام ليلة، لا انصرف حتى ينصرف الإمام، وإلا فإني أنشغل هنا وهنا، ومع المطبخ، ومع الأولاد، ويضيع الليل وما عملت شيئًا، فيكون الأفضل في حقها الخروج للصلاة مع الإمام، أما التي تستطيع أن تصلي في بيتها، ولا يضيع عليها ذلك، فإن الأفضل في حقها أن تصلي في بيتها.

وهكذا من يستطيع أن يصلي في بيته من الرجال صلاة طويلة على طريقة يحضر فيها قلبه، ويخشع، ويطبق فيها ما استطاع سنة النبي ﷺ في صلاة الليل فهذا أفضل في حقه من أن يصلي وراء الإمام الترويح أو القيام.

فهذا كله يرجع إلى هذا اللون من الفقه الذي نحتاج إليه، هل الأفضل أن يضحي أو يتصدق بثمنها مثلاً؟ فالمفضول قد يصير فاضلاً؛ لمصلحة راجحة تقترن به أو زوال مفسدة، وهذا باب واسع، ولعل ما ذكرته من التنويع والأمثلة يُفتق الأذهان إلى أشياء أخرى كثيرة جدًّا تحصل للمكلفين، ولربما يحصل التردد فيها.

قال -رحمه الله-: من التسعينية

على الناس أن يجعلوا كلام الله، ورسوله هو الأصل الإمام المقتدَى به، سواء فهموا معناه، أو لم يفهموه، فيؤمنوا بلفظ النصوص وإن لم يعرفوا حقيقة معناها، وأما ما سوى كلام الله ورسوله فلا يُجعل أصلاً بحال.

هذه الرسالة المسماة: بـ"التسعينية" تجدونها في آخر مجلد من الفتاوى الكبرى، وقد ذكر سبب تأليفها، وأنه في آخر شهر رمضان من سنة ست وعشرين وسبعمائة جاء أميران أرسلهما الملأ المجتمعون من الأمراء والقضاة، ومن معهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حينما كان في الحبس في القاهرة، فجاء إليه هؤلاء يقولون: إن القضاة قد اجتمعوا، ويريدون منك الحضور من أجل كلمة يسيرة، يعني يقولون له: المطلوب هو خروجك، وأن يكون الكلام مختصراً من أجل إنهاء الموضوع، إنهاء هذه المشكلة، إنهاء هذه القضية، شيخ الإسلام -رحمه الله- تعرفون أنه تكلم على المتكلمين من الأشاعرة، والماتريدية، والمعتزلة والكلابية؛ فثارت ثائرة هؤلاء، وتكلم على الصوفية؛ فثارت ثائرتهم أيضاً فدُعي بعد ما حبس في الشام- إلى مصر لما تكلم على ابن عربي وابن سبعين، وأمثال هؤلاء من أهل وحدة الوجود، فقامت قيامة أبي نصر المَنْبجي، وحرض عليه الجاشنكير، وتألب هؤلاء وأرادوا به سوءًا، حتى إنهم فكروا بقتله، فطلبوا منه الحضور من أجل أن يتكلم معهم بكلام مختصر لإنهاء هذا الموضوع.

فقال للرسولين: لكم سنة، وقبل السنة مدة أخرى تسمعون كلام الخصوم الليل والنهار وإلى الساعة لم تسمعوا مني كلمة واحدة، وأن هذا من أعظم الظلم، وأنه لو كان الخصم يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو عدوًّا آخر للإسلام ولدولتكم لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، وأنتم قد سمعتم كلام الخصوم وحدهم في مجالس كثيرة، فاسمعوا كلامي وحدي في مجلس واحد، وبعد ذلك نجتمع ونتخاطب بحضوركم، فإن هذا من العدل الذي أمر الله به في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، فقال له الرسولان: اكتب هذا في ورقة، اكتب هذا الاعتراض، أو هذا الطلب فكتبه لهم فذهبوا ثم رجعوا، قالوا: المطلوب أن تحضر لتخاطب القضاة بكلمتين ثم تنفصل، فقط نريد كلمتين، يقول: وكان في أوائل النصف من الشهر المذكور جاءنا هذان الرسولان بورقة كتب لهم فيها هؤلاء القضاة أشياء كثيرة وطويلة، وطلب منهم الشيخ -رحمه الله- النسخة فرفضوا أن يعطوه هذه النسخة، وطلبوا منه أن يقول أشياء في صفة استواء الله على العرش، وحصل بينه وبين هذين الرسولين مخاطبة، ثم لم يعطوه الورقة، وندموا على كتابتها، يعني كأنهم طلبوا منه شيئاً أحرجهم أنه شيء يخالف صريح القرآن في مسألة الاستواء على العرش.

فالشاهد أنه قال لهم: أنا لا أحضر إلى من يحكم بحكم الجاهلية، وبغير ما أنزل الله ، ويفعل بي ما لا تستحله اليهود ولا النصارى، كما فعلتم في المجلس الأول، وقال للرسول: قد كان ذلك بحضوركم، أتريدون أن تمكروا بي كما مكروا في العام الماضي؟ هذا لا أجيب إليه، ولكن من زعم أني قلت قولاً باطلاً فليكتب خطه بما أنكره من كلامي ويذكر حجته، وأنا أكتب جوابي مع كلامه، ويعرض كلامي وكلامه على علماء الشرق والغرب، فقد قلت هذا بالشام، وأنا قائله هنا -يعني في مصر، وهذه عقيدتي التي بحثتُ بالشام بحضرة قضاتها ومشايخها وعلمائها، وقد أرسل إليكم نائبكم النسخة التي قُرئت وأخبركم بصورة ما جرى.

يقول: إنه وقع من التقصير في حقي، والعدوان وأشياء ما قد علمه الله وعلمه المسلمون، يقول: فانظروا النسخة التي عندكم، وذكر لهم أن هذا هو اعتقاده فمن أنكر منه شيئاً فليكتب ما ينكره، وليكتب حجته لأكتب جوابي.

يقول: فأخذا العقيدة، وذهبا ثم عادا، وأخذا ورقة لم يذكرا ما فيها من الاعتراض على كلامي، بل قد أنشئوا فيها كلاماً طلبوه، يقول: ذكر الرسول أنهم كتبوا ورقة ثم قطعوها، ثم كتبوا هذه، ولفظها: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله، والتحيز، وأن لا يقول بأن كلام الله حرف وصوت، قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وأنه سبحانه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، يعني أنه في السماء، فطلبوا منه هذا، وأن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بذلك إلى البلاد، يعني لا يكتب فتاوى وتنشر، ولا يفتي في هذه القضايا، فرد عليهم شيخ الإسلام ردًّا عنيفاً، برسالة مطولة ثم كتب هذا الكتاب، وكان مما قال لهم: وأما قول القائل: أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العامة، فما فاتحت عاميًّا في شيء من ذلك قط، وأما الجواب -يقول: إذا سألوني- بما بعث الله به رسوله للمسترشد المستهدي، فقد قال النبي ﷺ: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار[6]، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة: 159]، الآية، فلا يؤمر العالم بما يوجب لعنة الله عليه، يعني: من الكتمان، وأن لا يفتي، وأن لا يجيب من سأله، يقول: فأخذا الجواب، وذهبا فأطالا الغيبة، ثم رجعا ولم يأتيا بكلام -يعني فيه نتيجة- إلا طلب الحضور.

يقول: فأغلظت لهم في الجواب، فقلت لهم بصوت رفيع: يا مبدلين، يا مرتدين عن الشريعة، يا زنادقة، وكلاماً آخر كثيراً، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني، يعني في السجن، وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة التي طلبوها مني في هذا اليوم، وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين، بما في ذلك من المنفعة للمسلمين، إلى آخر ما ذكر.

فهو قال لهم هذا الكلام، وصفهم بهذه الأوصاف الشديدة من الردة، ونحو ذلك باعتبار أنهم أرادوا أن يبدلوا كلام الله، أنهم قالوا له: تقول ما نقول نحن، ولا تحدث بآيات الصفات، ولا تقول: إن الله مستوٍ على العرش، وأرادوا أن يقول ما يوافق أهواءهم، فقال: إن هذا تبديل لكلام الله ، ومن شاء أن يعرف متعلقات هذا الكلام، ولماذا قاله شيخ الإسلام فليرجع إلى الكتاب نفسه، هذا سبب تأليف الرسالة.  فحصل لهم أن السجن تاب الناس فيه وصلحت حالهم، وتحول إلى محل لطلاب العلم، وصار الناس يتعلمون ويستفيدون، فضاقوا به ذرعاً، ثم منعوا منه الكتابة، ثم بعد ذلك أرسلوه إلى الإسكندرية من أجل أتباع أبي نصر المنبجي من الحلولية لعل أحدًا منهم يقتل شيخ الإسلام غيلة، فذهبوا به إلى الإسكندرية وأسكنوه في مكان، في برج فصار الناس يترددون عليه، ويسمعون منه، فتاب كثير من هؤلاء الحلولية، وتاب رئيس من كبرائهم، وناقشهم شيخ الإسلام -رحمه الله- وكتب رسالة في ذلك، ورد عليهم، وأبطل أصولهم، وطلبوا منه أن تُقرأ كتب ابن عربي، وأن يجيب عنها، وكتب ابن سبعين، فقرأ من كتبهم التي اختاروها، وأجاب عنها، وبين الحق فيها، فتاب على يده خلائق، وصار الناس يترددون عليه، وصار العلماء يأتون ويقرءون، ويسألون، وفتح الله  فتحاً عظيماً، وقال شيخ الإسلام: "إن دولة الجاشنكير هذه لن تدوم، وأنه إلى زوال قريباً"، وفعلاً زالت دولته وانقضت، وجاء الملك الناصر إلى مصر واستعاد ملكه، فاستدعاه في القاهرة لما جاء إليها، ووصلها شيخ الإسلام بعد نحو عشرة أيام، مشى في اليوم الثاني من عيد الفطر، فجاء إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأول وخرج منها في بداية شهر شوال، فالملك الناصر لم يكن له اشتغال إلا بطلب شيخ الإسلام؛ ليعظمه وليرفعه لينتصر به على أولئك الذين تمالئوا ضده لما سقط ملكه، فيريد أن يتنصر بشيخ الإسلام ضد أولئك في القصة المعروفة، ولما كلمه، وأخرج له خطوطًا كتبوها بأن شيخ الإسلام كافرًا، وأن دمه حلالًا، وحرضوا على قتله، فشيخ الإسلام قال: هذا لا يكون، وهم في حل مما جرى، وأنه لا قيام لملكك إلا بهم، مع أنهم من أهل البدع، يقول: عرفتُ مقصوده، يعني: أراد أن ينتقم لنفسه، هذا ما يتعلق بهذه الرسالة، وهي التسعينية تجدونها في آخر الفتاوى الكبرى. 

وهذه القاعدة التي ذكرها أولاً هي الوجه الثالث عشر من الرد، رد عليهم من عشرات الأوجه، يقول: "على الناس أن يجعلوا كلام الله ورسوله هو الأصل الإمام المقتدَى به"، وفي الأصل في كتاب شيخ الإسلام "هو الأصل المتبَع، والإمام المقتدى به سواء فهموا معناه، أو لم يفهموا معناه، فيؤمنون بلفظ النصوص، وإن لم يعرفوا حقيقة معناها، وأما سوى كلام الله ورسوله فلا يُجعل أصلاً بحال".   

يعني: أن هؤلاء الناس جعلوا أصولاً أصّلوها، وأرادوا أن يحاكموا نصوص الشارع إليها، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه، فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: الأصل هو كلام الله وكلام رسوله ﷺ ويُنظر في غير كلام الله وفي غير كلام رسوله ﷺ ويُحاكم إلى كلام الله وإلى كلام رسوله ﷺ فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه رُد، ولا يسوغ لأحد بأي حال من الأحوال أن ينصِّب أحداً من الناس يكون كلامه حاكماً على كلام الله أو كلام رسوله ﷺ سواءً كان هذا من العلماء، أو كان من الدعاة إلى الله أو غير ذلك؛ فإن العبرة بما جاء في الوحي. 

وللأسف تجد اليوم بعض من ينتسب للدعوة ويكتب ويتكلم، ويقول: إنه كان يعتقد أن العداوة بين المسلمين والأمم الأخرى من الكفار أنها عدواة بسبب العقائد، يقول: بقينا على هذا مدة طويلة، ثم تبين لنا بعدما عرفنا ثورة الخميني أن العداوة عداوة مصالح، والله يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89]، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [البقرة: 217]، وتترك هذا، وتأخذ مثل هذه المفاهيم الفاسدة من هؤلاء الضُّلال الذين هم من أضل الطوائف، هذا كيف يكون؟ والله المستعان.

قوله: "فيؤمنون بلفظ النصوص وإن لم يعرفوا حقيقة معناها"، يؤمنون بها وإن لم يعرفوا فهذا هو الواجب، كما قال الزهري: "من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"[7]، سواء فهمنا المعنى أو لم نفهم المعنى، عرفنا الحكمة، أو لم نعرف الحكمة، على الوصل في قوله -تبارك وتعالى- في آية آل عمران: مِنه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، هذا على الوقف باعتبار التشابه المطلق، وقلنا: إنه لا يكون في المعاني، ولكن قد يحصل التشابه النسبي في المعاني لبعض الناس، فهنا يفوض أمر ذلك إلى الله إذا خفي عليه المعنى وأشكل عليه، ويكل ذلك إلى عالمه، ولكن لا يجحد، ولا ينكر، ولا يحرف النصوص.

وأما كلام الناس فإنه لا يصدق بشيء منه حتى يفهم معناه، فإن كان موافقاً قُبل، وإن كان مخالفاً رُد، وإن كان مجملاً مشتملاً على حق وباطل لم يجز للمسلم أن يثبته -أن يقبله- ولا أن ينكره، وإنما يستفصل في ذلك مثلما سبق في لفظ الجهة، ومسألة حلول الحوادث والجسم، ونحو ذلك بالنسبة لما يوصف ربنا -تبارك وتعالى- به، فهل يضاف ذلك إلى الله؟

نقول: هذا لم يرد في الكتاب ولا السنة، فهذه ألفاظ مجملة إن قصدتَ بها كذا فهذا حق، ولا نقر هذا اللفظ الذي عبرت به، وإن قصدتَ بها المعنى الآخر فهذا باطل، ونحن لا نقر أيضاً لا هذا المعنى، ولا هذا اللفظ الذي عبرت به، فالألفاظ المجملة المحتملة نستفصل فيها ولا نعبر بها، ولا نستعمل مثل هذه العبارات التي يعبر بها أهل البدع، فهذا هو الواجب على المكلف.

قال -رحمه الله-: ليس لأحد أن يلزم الناس أو يوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله، ومن فعل ذلك فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله.

لأن التشريع هو مختص بالله  والنبي ﷺ مبلغ عن الله، فليس لأحد أن يلزم أحداً من الناس بكلام من غير كلام الله أو كلام رسوله ﷺ وأنهم يجب عليهم أن يأخذوا به ويعملوا بمقتضاه، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- ذم الذين اتخذوا ديناً لم يأمرهم به الله -تبارك وتعالى- وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 311]، فالتشريع إنما يكون من الله.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر أن من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل وإلزام الناس به، وهكذا إكراههم عليه، والموالاة على ذلك، والمعاداة على تركه، أمور لم ترد في الشرع فيمتحنون الناس بها فمن قبلها فهو موافق لهم، ومن ردها فهو مخالف لهم فيعادونه، هذه طريقة أهل البدع.

وأما أهل الإسلام فإنهم أهل السنة المحضة فإنهم لا يقبلون إلا ما كان ثابتاً مشروعاً وما عدا ذلك فإنهم لا يمتحنون الناس به، ولا يلزمونهم بمقتضاه، والله أعلم.

قال -رحمه الله-: الاعتقاد الذي يجب على المؤمنين خاصتهم وعامتهم ويعاقب تاركوه هو ما بينه النبي ﷺ فأخبر به، وأمر بالإيمان به، دون ما قاله غيره.

وهذا أيضاً تابع للذي قبله، أن ذلك يرجع إلى ما بينه الشارع، وما جاء من طريقه، وأما ما قاله القائلون من الناس فلا يصح أن يُجعل عقيدة وديناً يدان الله -تبارك وتعالى- به، ومن عافاه الله من البدع والضلالات قد يستغرب من تقرير مثل هذا الكلام، ولكنك حينما تقرأ وتنظر في أحوال أهل البدع، أو بعض الطوائف من الصوفية وغيرهم من طوائف المتكلمين؛ فإنك تجد التعبد بالعبارات، والدوران معها، ومحاكمة نصوص الشارع إليها، وأن من قال بكذا فهو منهم، ومن لم يقل به فهو مخالف لهم، فتجد كل طائفة من هذه الطوائف تميزت بأشياء من قال بها كان منهم، ومن خالف في هذه الأصول فليس منهم، هذا تجده في الخوارج، وفي المعتزلة، وفي الشيعة، وتجد هذا في طوائف الصوفية، فيتعبدون الله بأشياء مما كتبه شيوخهم وتلقوه عنهم، فهذا كله لا يجوز.

قال -رحمه الله-: لا ريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً مقرًّا بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها أنه يكون بذلك من المؤمنين؛ إذ الإيمان بكل فردٍ فردٍ من تفصيل ما أخبر به الرسول، وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول؛ ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يُقر فيها بأحد النقيضين لا ينفيها، ولا يثبتها، إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها أو أثبتها. 

ومن ثَمّ فإنه يسعه السكوت عن النقيضين في أشياء كثيرة إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لكن إذا كان أحد القولين قال به النبي ﷺ أو أحد النقيضين قاله دون الآخر فهنا يجب الأخذ بما قاله النبي ﷺ وترك ما يناقضه، أو يضاده، لكن الذي لم يرد عن الشارع، ويقال: الله في جهة، أو ليس في جهة؟ هذان نقيضان، فالمكلف أحياناً لا يستبين له المراد، وليس ملزماً أن يقول هذا.

وهكذا حينما يقال: الله جسم أو ليس بجسم؟ هل يحصل حلول الحوادث بذات الله أو لا يحصل؟ يعرضون عليه هذه الطريقة، أنت تقول بكذا أو كذا؟ امتحان للناس، وهذه قد عمت بها الفتنة في أوقات وأزمنة وقرون طويلة، فالمكلف ليس بملزم أن يقول بهذا أو بهذا، ولكنه إذا تبين له الحق تبعه سواء كان في أحد هذين النقيضين أم لا، وإن لم يتبين له فإنه يسعه أن يسكت، وإذا كان المقام يحتاج إلى تفصيل يُحسنه فصّل، وإذا كان لا يحسن هذا التفصيل ولا يدري ما هذه المسألة أصلاً فإنه غير مطالب بها؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام في أول هذا الكلام بأنه يسع المكلف أن يؤمن هذا الإيمان المجمل، وقد مضى الكلام على هذه المسألة، بمعنى أن المكلف يكفيه الإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً، مقرًّا بما بلغه من تفصيل الجملة، غير جاحد لشيء من تفاصيلها، كما يقول الشافعي: لا يوجد أحد من العلماء أحاط بكل ما جاء عن الرسول ﷺ الصحابة خفي عليهم أشياء كثيرة، وقد مضت الإشارة إلى شيء من هذا، كبار الصحابة، ذكرنا أمثلة عن أبي بكر ، وعن عمر، وعن عثمان، وعن علي، وعن غيرهم  كبار الأئمة خفيت عليهم أشياء، وسنن، فمثل هذه الأمور حينما تخفى، هل يكون المكلف مؤاخذاً على ذلك؟

فإذا كان هؤلاء الكبار من أصحاب النبي ﷺ من الخلفاء الأربعة، أو من العشرة، أو من أهل بدر خفيت عليهم أشياء مما ورد عن الشارع، فكيف بمن دونهم؟ فكيف بعوام المسلمين؟ فكيف بالأزمان المتأخرة؟ فكيف بآخر الزمان؟

فهل هؤلاء يقال: إنهم مؤاخذون ومعاقبون، ويجب عليهم أن يؤمنوا بجميع التفاصيل، بكل فرد من تفاصيل الشريعة؟  

إننا إن قلنا بذلك نكون قد حملناهم ما لا يطيقون، وطلبنا منهم عنتاً وشططًا، هذا لا يمكن، إنما يكفي الإيمان المجمل، فما بلغه من التفصيل يؤمن به ولا ينكر شيئاً منه، فيكفيه أن يؤمن بجميع الرسل، أن يؤمن بجميع الكتب، أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ولكن لا نقول له: عليك أن تعرف المراتب الأربع في القدر، فهذا لا يشترط، فالإنسان يؤمن إيماناً مجملاً بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- فما بلغه منهم آمن به، ومن لم  يبلغه هل يقال: إنك يجب أن تؤمن بكل رسول بعينه باسمه على سبيل التفصيل؟

الجواب: لا، ما بلغه، ما أحصى عدد الرسل، قد لا يعرف من أسماء الله إلا القليل مما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، عامي، فهل يقال: إنه بذلك يكون معرضاً للعقوبة، وإنه قد فعل خطيئة أو إثماً؟

الجواب: لا، لكن المهم أن يتلقى ذلك بالتسليم والقبول والانقياد فيما بلغه، وهكذا.

قال -رحمه الله-: ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم: قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل؛ لينصروا الإسلام – زعموا بذلك– فيتسلط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم، ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، والظلم والعدوان لإخوانهم المسلمين بما استظهر عليهم أولئك المشركون، فصار قولهم مشتملاً على إيمان وكفر، وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمعٍ بين النقيضين، وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين.

هذا وقع فيه طوائف من الأمم ممن ابتلوا بالعلوم الكلامية والجدل، فالذين جادلوا الفلاسفة، وزعموا أنهم يردون على الفلاسفة مثلاً من المتكلمين من المعتزلة، والنظار من الأشاعرة ونحوهم، هؤلاء ناظروهم في أشياء فلما كانت علومهم ناقصة إذ إنهم لا يعرفون الوحي معرفة صحيحة تامة، وليس لهم عناية به؛ لأنهم يعتبرون أن العلم هو تلك الأصول التي قرروها، والقواعد التي رتبوها، وصاروا يتحاكمون إليها، ويحاكمون إليها النصوص، ويرون أن النصوص لا تفي بالمقصود، وأنها لا تفيد إلا الظن، إما من جهة الثبوت، وإما من جهة الدلالة، في تفصيل يطول ذكره.

فجعلوا المعول على العقول، وجعلوا هذه الأقيسة العقلية، وناظروا الفلاسفة، فلما ناظروا الفلاسفة ألزمهم الفلاسفة بأشياء، ناظروهم في مسألة قِدم العالم مثلاً، وناظروهم في ما يتصل بأولية الله -تبارك وتعالى- أنه الأول، فألزمهم الفلاسفة بإلزامات فوقعوا في إشكالات، والتزموا بعض الانحرافات من أجل الرد على هؤلاء، أولئك -أي الفلاسفة- مثلاً يقولون: القديم لا يتبعض، القديم يجب أن يكون واحداً، جاء هؤلاء يردون عليهم قالوا: نعم، نحن نقول: القديم يجب أن يكون واحداً، طيب والصفات؟ قالوا: الصفات مخلوقة، الله يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]، قالوا: جرحه بمخالب الحكمة، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143]، قالوا: كلمه، خلق كلاماً في الشجرة، شجرة تقول: يا موسى إني أنا الله، وتقول: أنا ربك، كيف يكون هذا؟

وما فهموا أن الصفات ملازمة أصلاً للذات، وأنها ليست هي الذات، وليست بمنفكة عنها، وإنما هي ملازمة لها، لم يفهموا هذا الأصل، وبنوا كلامهم على أن الذات منفكة عن الصفات، فنفوا الصفات، وقالوا: إنها مخلوقة، فهذا مثال في مناظرة الفلاسفة، لما جاءوا لمسألة الصفات الاختيارية ما يسمونه بحلول الحوادث، الصفات المتعلقة بالمشيئة والإرادة، مثل: الغضب، الضحك، الكلام، أن الله يتكلم متى شاء.

فالمعتزلة قالوا: القديم لا تحل به الحوادث، بناء على الأصل الذي ناظروا فيه الفلاسفة، قالوا: لا تحل به الحوادث، وأن ذلك مخلوق، والقديم واحد لا يتبعض، ولا يتجزأ، وقالوا كلمات يقصدون بها نفي الصفات.

والأشاعرة قالوا: إن الله متصف بصفات، ونفوا بعض الصفات، وأنكروها، وأثبتوا بعضاً، قالوا: إن العقل دل عليها، وتفاوتت عقولهم، فبعضهم أثبت سبعاً، وبعضهم أثبت ثلاث عشرة صفة، وبعضهم أثبت حوالي إحدى وعشرين صفة، مدارس، فلما جاءوا يناظرون في مسألة حلول الحوادث، جاءت مسألة الكلام مثلاً، فجاءوا بأمر لا يعرف في اللغة، ولا يعرف عند العقلاء، ولا يعرف في النقل والوحي.

قالوا: كلامه واحد قديم، لا تعاقب فيه ولا انقضاء، لما قالوا: إنه متصف بصفة الكلام، قال المعتزلة: هذا يقتضي حلول الحوادث، متعلق بالمشيئة والإرادة، كلم موسى، يتكلم يوم القيامة، ويقول: يا عيسى إلى آخره، قالوا: لا، كلامه معنى واحد لا تعاقب فيه ولا انقضاء، وهو قديم، كيف يكون معنى واحدًا لا تعاقب فيه؟ معنى واحد أي الأمر عين النهي عين الخبر عين الاستفهام، هذا لا يعقل! أنتم ما تفهمون هذا الكلام؛ لأنه لا يعقل، كما قال شيخ الإسلام بأن الباطل لا يمكن تصوره على وجه يصح؛ لأنه باطل، فاطمئنوا إذا ما فهمتم؛ لأنه باطل، هذا الذي جاءوا به يخالف العقول أصلاً فضلاً عن مخالفته للمنقول.     

لا تعاقب فيه ولا انقضاء، قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 2]، لا نقول: الباء والسين جاءت بعدها والميم جاءت بعدها، ثم الله جاءت بعدها، لا، هذه كلها جاءت مرة واحدة، دفعة واحدة، ما في تعاقب بينها، وقالوا: إنه إن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، هذا المعنى الواحد، قائم بالنفس، بمعنى أنه لا يتكلم حقيقة، فقولهم هو نفس قول المعتزلة إلا أنهم صاغوه بصيغة لا يقرها العقلاء، ولا يمكن أن تتفق مع المنقول، ولما كان بصر هؤلاء المتكلمين من الأشعرية أقل من بصر المعتزلة في العلوم العقلية والقضايا الفلسفية، وقعوا بمثل هذه التناقضات، مثل: مسألة التحسين والتقبيح، هل للأشياء حسن وقبح ذاتي أو لا؟ فما المعول فيه؟

تحيروا مع أنهم يجعلون العقل مقدمًا على النقل، هذا يفعله المعتزلة والأشاعرة، لكن لما ناظروا المعتزلة تحيروا وألزمهم المعتزلة بأمور باطلة، فناقضوا أصولهم، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، فجاءوا بمسألة التحسين والتقبيح العقليين -مثلاً- قالوا: لا يوجد للأشياء حسن وقبح ذاتي، عجباً!

المعتزلة يطردون مع الأصل يقولون: التحسين والتقبيح مرجعهما إلى العقل، ما حسنه العقل قُبل، وما لم يحسنه رُد والنقل تابع له، الأشاعرة قالوا: لا، هذا يسبب لنا إشكالات، فأرادوا أن يناظروا المعتزلة وما استطاعوا، فقالوا: إن الأشياء ليس لها حسن وقبح  ذاتي، المعتزلة قالوا: لها حسن وقبح ذاتي تدركه العقول، الأشاعرة قالوا: لا يوجد قبح ذاتي لها، فما حسنه النقل قُبل، فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، ولو حسّن الزنا لكان حسناً، ولو حسّن الظلم لكان حسناً، ولو حسن الفجور والكذب لكان حسناً، ولو قبّح العدل والصدق والكرم لكان ذلك قبيحاً، فالعقلاء لا يمكن أن يقبلوا هذا، كل العقلاء في الأمم يدركون ويجمعون على أن العدل حسن، وأن العقول تدركه.

أما أهل السنة فتوسطوا في هذا الباب، وقالوا: من الأشياء ما يدرك العقل حسنه وقبحه، والعقل من أدلة الشرع، فالعقل والنقل دليلان صحيحان، العقل الصحيح، فالعقل يدرك حسن بعض الأشياء، والنقل الصحيح لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح، ولهذا ألف شيخ الإسلام "درء تعارض العقل والنقل" لا يمكن أن يتعارض، عندهم يمكن التعارض، فشيخ الإسلام يقول: "إن الرسل جاءوا بمَحارات العقول أي أمور تتوقف عندها العقول، انظر إلى الماء إذا جاء في السيل وصل إلى منطقة مسدودة يحور، يتوقف، ولم يأتوا بمُحالات العقول"[8].  

وكما قيل لأعرابي: "بم عرفت أنه الرسول؟ قال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به"[9]، فهناك أشياء تدركها العقول، وهناك أشياء لا تدركها، تتوقف فيها بيّنها النقل.

فما أمر به فالله عليم حكيم فلا شك أنه حسن، وما نهى عنه فلا شك أنه قبيح وإن لم ندرك، ولكن لا يمكن للعقل الصحيح أن يخالفه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه لا تناقض أصلاً، وأما الأشاعرة والمعتزلة فبنوا أصولهم على التناقض بين العقل والنقل.

وقل مثل ذلك في مسألة الإرادة وكونها ملازمة للمحبة أو لا، ولم يفرقوا بين الإرادة الكونية والقضاء الشرعي، الحكم الشرعي والحكم الكوني، والإذن الشرعي والإذن الكوني، ما فرقوا بين هذه الأشياء؛ فوقعوا في هذه الأمور.

وشيخ الإسلام تكلم في مواضع من كتبه على أئمة هؤلاء وجعلهم على طبقات، نحو خمس طبقات -أعني طبقات المتكلمين- من حيث العلم بالمنقول، وأنهم جهلة في هذا الباب، وأنهم يتفاوتون، فمنهم من لا بصر له في هذا أصلاً، فهو في غاية الجهل، فلا يمكن أن تقارن الرازي بمن دخل في المسائل الكلامية ولا يحسنها كالبيهقي مثلاً، فالرازي وأمثال الرازي من هؤلاء الذين هم أقرب إلى التجهّم لهم بصر في الأمور العقلية ولكن لا علم لهم بالشرع، وقد ذكر شيخ الإسلام عن أحد هؤلاء المتكلمين جاءوا له بمصحف فيريد أن يقرأ من سورة الأعراف: المص [الأعراف:1]، فقال: أَلْمَص، لا يعرف أن يقرأ؛ لأنهم لا عناية لهم بالقرآن أصلاً، ولا بحديث الرسول ﷺ ولما تكلم شيخ الإسلام على بعضهم كالجويني ذكر أنه في كتابة الذي تكلم عليه لم يجد فيه إلا ثلاثة أحاديث، وأن هذه الأحاديث أصلاً لا تصح، ويأتي بها ليرد عليها أيضاً أحياناً، فهؤلاء لهم بصر في المعقول ولا معرفة لهم بالمنقول، فلما جاء يناظر كان نظره وعلمه ناقصاً فوقع في إشكالات وإلزامات ألزموه بها، ومنهم من يكون بين بين، له علم قاصر بالمعقول، وله علم قاصر بالمنقول، ومنهم من يكون له علم بالمنقول، وعلمه بالمعقول قليل، فأراد أن يناظر وأن يرد ويدخل في العلوم الكلامية لكن لا بصر له بها فوقع في إشكالات، وفي بعض التأويلات مثل البيهقي، رحم الله الجميع من علماء المسلمين الذين اجتهدوا في طلب الحق، وكانوا صادقين في طلبه، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.

فهؤلاء حينما وقعوا في مثل هذه الإشكالات والإلزامات، فجحدوا بعض الحق، وألزمهم أولئك ببعض باطلهم فالتزموه، وصار منهم بغي على إخوانهم المسلمين مثلما امتحنوا شيخ الإسلام بهذه القضايا الكلامية التي جعلوها ديناً، وطالبوه أن يترك ذكر ما جاء في الكتاب والسنة من نصوص الصفات وتبيينها، وما إلى ذلك، وانظر في كلام هؤلاء مثل كلام المتأخر الجهمي المعاصر الكوثري في كلامه على أئمة السنة، ما تركوهم، بالذات حينما يتكلم على ابن أبي حاتم، وعلى عبد الله ابن الإمام أحمد، والدارمي هؤلاء الثلاثة بالذات يتكلم عليهم بكلام لا يمكن لإنسان تلقى شيئاً يسيراً من التربية أن يتفوه به -نسأل الله العافية- كلام في غاية الإقذاع، ملأ به بعض حواشي بعض الكتب التي حققها، ويسمى الدارمي، حامل راية التجسيم. وقبلهم عمرو بن عبيد لما قال عن ابن عمر : إنه حشوي، فحصل منهم استطالة على أهل الإسلام.

وانظر ما فعل المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وكيف أنهم ما كانوا يفكون الأسير من الكفار ويفدونه في دولتهم -المعتزلة- إلا بعد ما يمتحن في القرآن، وألزموا بذلك المعلمين في الكتاتيب أن يلقنوا الصغار مسألة القول بخلق القرآن، وحملوا العلماء إلى السجون، وضربوا الإمام أحمد مرة بعد مرة، وحصل له ما حصل من الامتحان والابتلاء بسبب هذا البغي الذي كان بسبب هذه الالتزامات الباطلة.

ولما جاء الجهم بن صفوان ببدعته وضلالته كان -كما قال شيخ الإسلام والإمام أحمد قبله وغير هؤلاء- ناظر قوماً من السُّمَنية من أهل المشرق في إثبات وجود الله ، وهؤلاء ينكرونه -ملاحدة- ولا يؤمنون إلا بالحس، فقالوا: ربك هذا هل وجدت له مَجَسًّا، أو وجدت له حسًّا، أو وجدت له طعماً، أو رائحة، إلى آخره، يعني هل لمسته، أو وجدت رائحة، أو رأيته؟ فقال: لا، فقالوا: فكيف تؤمن به؟ يقول: فجلس أربعين يوماً متحيراً لا يصلي، ثم جاءهم وقال: إنه ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا يوصف بصفات، ولا فوق، ولا تحت، وجاء بأوصاف العدم، فوصف الله بها؛ ولهذا فإن الجهمية المحضة ينكرون الأسماء والصفات لله  يقولون: ليس له سمع، ولا بصر، ولا كلام، كل هذه الأشياء نفوها، يعني: لو طلب منهم أن يصفوا العدم لما أحسنوا غير هذا، والسبب المناظرة مع هؤلاء من الملاحدة.

فهذا الذي يشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهذا ما أعقبه الجدل لاسيما حينما تكون علوم الإنسان قاصرة، فإن مثل هذا الجدل يتطلب علماً بالمنقول، وتبحراً، ويتطلب علماً بالمعقول، ويتطلب قدرة على الجدل؛ لأن الجدل صنعة وحِرفة ما كل أحد يُحسنها، فبعض الناس أوتي جدلاً، ويستطيع أن يقنع الآخرين أن هذه السارية من ذهب، ويعلمون أنه مبطل، ولكن قد لا يستطيعون الجواب عما يقول.

فهذا يتطلب معرفة هذه الأمور، وأن يكون الإنسان متمكناً منها، وأما اليوم بما فُتح على الناس عبر هذه الوسائل فاليوم كل أحد يرد، وكل أحد يجادل، ويأتينا في هذا المسجد أناس أحياناً ليس عليهم سيما تدين أصلاً، ويأتون بشبه تستغرب من أين سمعوها، فإذا سألته تبين أنه يناظر الرافضة، أو يناظر النصارى العرب، أو غير العرب، يجيد الإنجليزية، ويقيم مناظرات فيلزمونه بأشياء، أو يأتون ببعض الآيات المنسوخة، ويقولون: هذا في قرآنكم، هذه بعض القراءات التي هي غير متواترة، ويقولون: انظروا عندكم هذه فلان أنكرها، وفلان أثبتها فيقع عنده شك أين هذا؟ يقول: في الكتاب الفلاني، فينظر فيجد ذلك، وبعض هذا في صحيح البخاري، فيتحير، وهؤلاء الواجب أنهم ينزهون أسماعهم عن هذا كله، ولا يشتغلون بهذه المناظرات، لا من جهة كونهم يقومون بها، ولا من جهة أن يكون الواحد متابعاً ومشاهداً أو مستمعاً لذلك، فالقلب ضعيف، كما قال السلف.

وأنا إلى يومي هذا ما سمعت مناظرة قط لا في المستقلة، ولا في غير المستقلة، وجاء بعض الإخوان ببعض السيديهات وقالوا: اسمعها، قلت: لا أريدها، فلما أصر بعضهم أخذتها ولم أسمع منها شيئاً واحداً إلى يومي هذا، ولست بحاجة إليه، والحمد لله، عافاني الله من هذا كله، ولا أقرأ في هذه الردود، هؤلاء الناس الذين يتناحرون في الإنترنت، ويردون على بعض، أو يكتبون الكتب لا أقرأ شيئاً من هذا إطلاقاً، وإنما العمر قصير، كما قال بعض السلف: "أمّا أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاك، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه"[10]، والله المستعان.

قال -رحمه الله-: مِن أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنو آدم: وجوب قيام الأوصاف بالموصوف، وامتناع قيامها بغيره.

هذا في الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، وأنه متكلم بكلام يقوم بغيره، يقولون: صفة الكلام مخلوقة، وأنه كلم موسى من الشجرة، الكلام قام بالشجرة، فهو يقول: إن الصفة ملازمة للموصوف، وإن من أظهر العلوم الفطرية الضرورية يعرفها بني آدم لا تحتاج إلى نصوص من الكتاب أو من السنة أنه يجب أن تكون الأوصاف بالموصوف، مثل إذا قال مثلاً: اسم الفاعل، واسم المفعول، تقول: فلان سارق، فلان قاطع طريق، فلان كذا، هذه الأوصاف تقوم به ولا تقوم بغيره، فلان متكلم، فالكلام يقوم به، فهو صفة من صفاته، لكن أولئك لما فصلوا بين الذات والصفات وجعلوها منفكة عنها، وحصل لهم ما حصل في المناظرة في مسألة حلول الحوادث التي أشرت إليها آنفاً اضطروا إلى مثل هذه الجهالات التي لا يقبلها العقلاء، وهم يدعون أنهم عقلاء.

فالمعتزلة يقولون: تكلم بكلام يقوم بغيره، هذا لا يمكن، والأشاعرة يقولون: كلامه قديم، معنى واحد، فهذا أيضاً لا يعقل، ويقولون: الكلام معنى قائم في النفس، لا حروف له، لا يكون بحرف وصوت، ولا يُعرف شيء يقال له في لغة العرب كلام نفسي، لا يمكن، إنما الكلام ما كان بحرف وصوت، وإنما ما كان من حديث النفس فإنه يقال له بهذا القيد: حديث نفس، أما إذا أطلق الكلام؛ فإنه كالإنسان، الإنسان لا يمكن أن يقول: إنسان إلا لمجموع الروح والجسد، روح بلا جسد لا يقال: إنسان، جسد بلا روح يقال: جثة.

والكلام لا يمكن أن يكون للمعنى فقط، ولا يمكن أن نتصور قوالب لفظية من غير معانٍ إلا إذا كان من كلام المخلطين، كلام النائم الذي لا يفهم، أو كلام المريض الذي يهذي لا يُفهم ما يقول، فهذا ممكن، ولا يقال له كلام في اللغة؛ لأن الكلام هو ما كان مفيداً.

قال -رحمه الله-: الذي يجب على الإنسان اعتقاده في كلام الله أن القرآن الذي أنزله على رسوله كلام الله، وأنه منزل غير مخلوق،منه بدأ وإليه يعود.

هذا ملخص من كلام شيخ الإسلام، وهو جواب لسؤال في الفتيا المصرية عن الاعتقاد الذي تبرأ به الذمة، الاعتقاد الصحيح في القرآن بأقرب عبارة وأوضحها، يعني قالوا له: ما الذي تبرأ به ذمتنا؟ سائل يسأله في مسألة القرآن ماذا نقول فيه؟ ما هي العبارة الصحيحة؟ هؤلاء يقولون: كلام واحد قائم في النفس، وذاك يقول: مخلوق إلى آخره.

فشيخ الإسلام يقول: الذي تبرأ به الذمة هو أن يقال هذا في القرآن: كلام الله أنزله على رسوله ﷺ، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق لم يخلقه الله في مكان آخر كما يقول المعتزلة، الشجرة مثلاً، وليس كما يقول الأشاعرة: المعنى قديم، واللفظ يختلفون فيه، فبعضهم يقولون: جبريل هو الذي عبر به فهو مخلوق، وبعضهم يقول: ألقى المعنى إلى النبي ﷺ والنبي ﷺ هو الذي عبر به فهو من كلامه، فهو مخلوق إلى غير ذلك، ويؤولون ما جاء من نزول القرآن إلى آخره بتأويلات بعيدة لا حاجة لذكرها، فهؤلاء ضلوا في هذا الباب، فشيخ الإسلام يقول: منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، منه بدأ يعني أنه تكلم به أولاً، وإليه يعود يعني في آخر الزمان فيرفع القرآن، فلا يبقى منه شيء، يُسرَى عليه في ليلة كما ثبت عن النبي ﷺ[11].

قال: وهو كلام الله حروفه ومعانيه.

هذا مضى الكلام فيه، أنه لا بد من مجموع هذا وهذا، الحرف والمعنى، وإلا فلا يكون كلاماً، كالإنسان كما سبق.

قال: ولم يقل أحد من السلف أن القرآن قديم، وأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته، بل هو صفة لله يتعلق بمشيئته وقدرته.

"قدرته" الأخيرة هذه ليست في النسخة الخطية، ولا يؤثر ذكرها وعدمه.

فهنا يقول: إن السلف ما قالوا: إنه قديم؛ لأن التعبير بهذه اللفظة أصلاً: كلام الله قديم لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وهم يقصدون بها هذا المعنى الباطل الذي أشرت إليه آنفاً، ولكن كلامه يتعلق بمشيئته وإرادته، يتكلم متى شاء وكيف شاء؛ولهذا نقول كما أشرت إليه في بعض المناسبات بأن تنزلات القرآن الثلاثة إلى اللوح المحفوظ، وإلى سماء الدنيا، وبأيدي الملائكة، هذه التنزلات كلها في السماء، ثم بعد ذلك التنزل إلى النبي ﷺ فإن جبريل لا يأخذه من اللوح المحفوظ، ولا من سماء الدنيا بيت العزة، ولا من أيدي الملائكة، وإنما يتلقاه مباشرة من الله كما في حديث: إذا تكلم الله بالوحي[12]، فالله يتكلم متى شاء.

وكذلك أيضاً ما جاء عن الزهري: "أحدث آية بالعرش"[13]، و جاء عن غيره جماعة من السلف كانوا يؤمنون بهذا: أن القرآن يأخذه جبريل من الله، لا كما يزعم أهل الكلام أنه أخذه من بيت العزة، أو غير ذلك.

فهذا كلامه، وهو متعلق بمشيئته وإرادته، بمعنى أنه يتكلم متى شاء، يعني: الصفات منها ما يتعلق بالمشيئة والإرادة، ومنها ما لا يتعلق بالمشيئة والإرادة، ما لا يتعلق بالمشيئة والإرادة مثل: صفة العظمة، وصفة العزة، وما أشبه ذلك.

وهناك صفات تتعلق بالمشيئة والإرادة، مثل: الكلام، يتكلم متى شاء، مثل: النزول ينزل في ثلث الليل الآخر، المجيء، وما إلى ذلك، فهذا يتعلق بمشيئته وإرادته، هذا الذي يسميه المتكلمون: مسألة حلول الحوادث.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء، برقم (247)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2710).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب صفة الأذان، برقم (379).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، برقم (3585)، ولفظه: وخير ما قلت أنا والنبيون...، ومالك في الموطأ واللفظ له، برقم (32)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1102)، وبرقم (3274).
  4. انظر: مجموع الفتاوى (26/ 132).
  5. انظر: المجموع شرح المهذب (2/ 166).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، برقم (3658)، والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم (2649)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم (264)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6284).
  7. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 346)، وتاريخ الإسلام (3/ 508).
  8. انظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 297)، ومجموع الفتاوى (17/ 444).
  9. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 250).
  10. الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 173).
  11. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (8698)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (30193).
  12. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، برقم (4738)، والبخاري معلقاً في صحيح البخاري (9/ 141)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (436).
  13. الانتصار للقرآن للباقلاني (1/ 245).

مواد ذات صلة