الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
38- ومن كتاب الاختيارات. القواعد 508-524‏
تاريخ النشر: ١٨ / محرّم / ١٤٣٤
التحميل: 2171
مرات الإستماع: 2301

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"ومُخالطة الناس إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فما يتصل بالخُلطة والُعزلة ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في سياق كلامه عنهما، عن الخُلطة والعُزلة، أيهما أفضل؟ فذكر -رحمه الله- أن مُخالطة الناس إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فهذا ضابط عام في هذا الباب، وهناك تفاصيل أخرى تُذكر في الكلام على الفتن الواقعة، لاسيما ما يكون في آخر الزمان، فالأصل في هذا الباب هو ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- بهذا الأصل العام، ومن ثَم جاء في الحديث: المؤمن الذي يُخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم[1] ولو أردنا أن نجعل القسمة مُفصلة، فنقول: مؤمن يُخالط الناس ويصبر على أذاهم هذا في أعلى المراتب، مؤمن يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم هذا دونه، مؤمن لا يُخالطهم؛ إما أنه لا يصبر على أذاهم أو لمعنى آخر، لكن ذاك الذي يُخالطهم يحصل لهم انتفاع بمُخالطته، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعليم، وما إلى ذلك، إلا أنه لا يصبر على أذاهم، بمعنى أنه لربما يضجر من ذلك، ويحزن مما يرى من سوء الأدب أحيانًا، أو نحو ذلك من الأسباب، فمثل هذا لا يصبر على أذاهم، فإن كان لا يصل إليهم منه الشر والأذى؛ فخُلطته خير ما لم يحصل له ضرر مُعتبر، ما هو الضرر الُمعتبر؟

يُخالط من أجل أن ينفع الناس، وأن ينصح الناس، لكنه يكون في حال من الحُزن، والكآبة، والشدة، والضيق، وما إلى ذلك، فيتفرق عليه قلبه، فمثل هذا القلب الضعيف لا يصلح لمُخالطة الناس، وهو غير مؤاخذ في هذه الحال حينما يعتزل، وإن كان عنده شيء من العلم، أما إذا كان يصل منه إليهم الضرر، فمثل هذا لا شك أن العُزلة خير له.

وهناك من يُخالط الناس، وتكون مُخالطته ضررًا عليهم، يعني: لا نفع فيها أصلاً، فمثل هذا لا شك أن العُزلة خير له، ومثل هذا لا يحتاج إلى صبر على مُخالطتهم؛ لأنه صبر على معصية الله -تبارك وتعالى- وعلى كل حال فيما يتعلق بالنوع الرابع، وهو الذي يُخالطهم ولا يحصل منه نفع لهم، ولا يحصل عليه ضرر، فمثل هذا ينظر الأصلح لقلبه، وعمله، وحاله، القسم الخامس هو الذي يتضرر بمُخالطتهم، ولا ينتفعون بمُخالطته، إما لضعفه، يعني: عنده علم، لكنه ضعيف، فيجرئون عليه، ولا يُبالون به، أو لأنه ليس عنده من العلم ما يجعلهم ينتفعون، وهو لا يسلم من الأذى أو الضرر بهذه المُخالطة، فيقال: العزلة خير له.

وقد يكون ذلك مُنزلاً على أحوال خاصة، يعني: مُخالطة هؤلاء، مُخالطة فلان، ليست الخُلطة العامة، أما ما يتعلق بأوقات الفتن، فالأصل في الفتن أن يجتنبها المؤمن، فإذا كان مُخالطته للناس يكون سببًا لدفع الشر، أو تقليله، ولا يحصل عليه ضرر في دينه؛ بسبب هذه الخُلطة، فخُلطته قد تكون واجبة أو مُستحبة، في أوقات الفتن، لا بد لهم من يُعملهم، ويوجههم، ولا يترك هؤلاء في غِمار الفتن يتخبطون، فهذا النوع تكون خُلطته واجبة أو مُستحبة.

النوع الثاني: من لا ينتفعون بمُخالطته عالم، لكن لا يقبلون منه، لا يستمعون إليه، إما لغلبة الأهواء، أو لأمر آخر قد يتصل به، أو بأمور عارضة لا يقبلون منه، ولا ينتفعون به، فمثل هذا العُزلة في أوقات الفتن خير له، العُزلة خير له، عنده عالم، لكن لا ينتفعون به.

النوع الثالث: وهو الذي يُخالط الناس في الفتن، ثم بعد ذلك يكون مُكثرًا للسواد، سواد أهل الفتنة، ومُعينًا لهم، فمثل هذا تحرم عليه المُخالطة، وتجب عليه العُزلة.

أما الفتن المُدلهمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل بالجملة، يعني: على كل الناس، لا يتبين فيها الحق من الباطل، فتن آخر الزمان، فمثل هذه العُزلة فيها خير، وهي التي وردت فيها النصوص بالاعتزال وأنه يوشك أن يكون خير مال المؤمن غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن[2] هذه فتن آخر الزمان، فالعُزلة فيها خير من المُخالطة، وقد يكون ذلك أيضًا في بعض الفتن التي لم يتبين فيها الحق، ولو لم تكن تلك الفتن التي تلتبس على العموم ما تبين له الحق هو، أو لم يتبين الحق لهؤلاء الخائضين والمُختلفين، والذين وقع بينهم الشر والفتنة ما تبين الحق مع من، هؤلاء عندهم بعض الحق، وهؤلاء عندهم بعض الحق، فيعتزل في هذه الحال حيث لا يتبين الحق، حيث يكون مُلتبسًا، فهذا فيما يتصل بالخُلطة والعُزلة.

ونحن لم نصير إلى تلك الحال التي وصفها النبي ﷺ في آخر الزمان حيث يلتبس الحق بالباطل، ولا يُميز هذا من هذا، ومن ثَم فالأصل في مثل هذه الأوقات أن من يكون له نوع نفع دون أن يتلبس بشيء من هذه الشرور والفتن فإن مُخالطة الناس أفضل من العُزلة، يعني: لو جاء أحد الآن، ويقول: أنا أُريد أن أعتزل الناس، وأتخذ غنمًا في بعض هذه الأودية أو الجبال، أو نحو ذلك، فيقال: لا، إن بقاءك مع الناس خير، لكن قد يُفعل هذا في أحوال عارضة، كما فعله بعض أصحاب النبي ﷺ كأبي ذر -رضي الله تعالى عنه- وسلمة بن الأكوع، وأمثال هؤلاء، بعضهم ذهب إلى خارج المدينة، وبقي حتى تنجلي، وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عن الجميع- ومنهم من بقي، يعني: في المدينة، ولكنه لم يُخالط هؤلاء، ولم يدخل معهم في شيء من هذه الفتن، فصار الناس على هذه الأحوال، ومن ثَم لا يصح في مثل هذه الأوقات أن يُدفع الناس دفعًا في كل قضية واقعة؛ من أجل الحديث فيها، والمُشاركة بأي نوع من المُشاركة سواء كان هذا يُحسن أو لا يُحسن، يصلح لذلك أو لا يصلح، فنحن قد ندفع به إلى الفتنة ولو كان من طُلاب العلم، على كل حال هذا الكلام جاء في سياق الكلام عن العُزلة والخُلطة.

"ومن كان قادرًا على السبب، ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه؛ فهو مأمور به مع التوكل على الله، وهذا خير له من أن يأخذ من الناس، ولو جاءه بغير سؤال وسبب، مثل هذا عبادة، وهو مأمور أن يعبد الله، ويتوكل عليه".

هذا في مسألة التسبب والاكتساب، وطلب الرزق، فإن الاشتغال بذلك هو الجاري على سنن الله -تبارك وتعالى- وهو الذي يجري على سُنن المُرسلين -عليهم الصلاة والسلام- وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] فهم يتكسبون، ويبيعون، ويشترون، ولا يجلسون كما يفعل بعض المتصوفة، يعتزلون التسبب والاكتساب، وقد مضى الكلام على هذا مفصلاً في الأعمال القلبية في الكلام على التوكل، وأن منهم من ترك التسبب برُمته، يعني: حتى إنه لا يمد يده إلى الطعام إذا قُدم إليه، يعني: لا يذهب، ويكتسب، ويبيع، ويشتري، لا، حتى لو قُدم إليه الطعام فإنه لا يمد يده إلى هذا الطعام ظنًا منه أن هذا يُنافي التوكل، وقد ذكرت في بعض المُناسبات أن الإمام أحمد -رحمه الله- ذُكر له بعض هؤلاء، وأنه يوضع الطعام في فمه فلا يمضغ يظن أن هذا المضغ من قبيل أنه يُخالف التوكل، فصاروا يحركون فكه؛ من أجل أن يمضغ، أقول: مثل هذا أليس يمشي إذا أراد حاجة، أو نحو ذلك، فهذا من التسبب، فعلى كل حال لا شك أن مثل هذا مُخالف للفطرة، فضلاً عن مُخالفته لنصوص الشرع أو للمنقول، وكذلك أيضًا هو مُخالف لصريح المعقول، أهل العقول لا يمكن أن يُقروا بحال كهذه، هذه تُنافي العقل والنقل والفطرة.

فهنا شيخ الإسلام يتكلم على أن الاشتغال بالأسباب، ولو كان فيه قطع لبعض الأوقات بحيث يفوت الإنسان فيها لربما بعض التعبدات، ولربما ترك الصوم لمشقته عليه لطبيعة هذا الاكتساب، يعني: إنسان يحتطب مثلاً في الحر، أو يشتغل في الحفر، أو نحو ذلك في الأعمال التي تشُق، فلربما ترك الصوم بسبب ذلك، ولرُبما فاته بعض ألوان التعبد بسبب أنه مشغول بطلب الرزق في مثل هذا الوقت، فيكون ذلك أفضل من قعوده في المسجد؛ من أجل أن يتعبد، ويُصلي، ويركع، ويسجد، ثم ينتظر من الناس أن يعطوه، أو أن يُحسنوا إليه، ويتصدقوا عليه، فالأول أفضل، بخلاف العاجز، فهذا معذور، كما قال الله في الفقراء المُهاجرين لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273] أحصروا، بمعنى: حصر العدو كما قال جماعة من المفسرين كابن جرير -رحمه الله-[3] وغيره، حصرهم العدو، بمعنى أنهم لا يستطيعون ضربًا في الأرض، لا يستطيعون السفر للتجارة والتقلب؛ لأن الأعداء يطلبونهم، القبائل تطلبهم، يريدون قتلهم؛ لأنهم مجاهدون، فلا يستطيعون السفر والانتقال، وإنما أُحصروا في سبيل الله، فمثل هؤلاء يكون الواحد منهم معذورًا، والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، أو يكون هذا الإنسان ضعيفًا أو مريضًا لا يستطيع الحركة والكسب، ونحو ذلك، فهو معذور في قعوده هذا، أما القادر فإنه يتعين عليه أن يكتسب، ويطلب الرزق إن لم يكن له كفاية، كفاية كأن يكون هناك من يكفيه ممن يُنفق عليه من والد، أو عنده شيء من المال، أو الميراث، أو نحو ذلك، يكتفي به عن سؤال الناس، وعن إحسانهم إليه.

يقول: ومن كان قادرًا على السبب، يعني: في طلب الرزق، ولا يشغله عمّا هو أنفع له في دينه، فهو مأمور به مع التوكل على الله، وهذا خير له من أن يأخذ من الناس، ولو جاء بغير سؤال وسبب، ومثل هذا التكسب والتسبب قال: عبادة، وهو مأمور أن يعبد الله، ويتوكل عليه، يعني: هذا الذي يقول: أنا متوكل يقال: هذا العمل عبادة، ولذلك الرجل الذي مر يتصبب عرقًا، فقالوا: لو كان ذلك في سبيل الله، فبين لهم النبي ﷺ أنه إن كان يقوم على أبوين كبيرين، أو صبية، يعني: من أجل أن يكفيهم الحاجة والسؤال فإنه في سبيل الله[4].

فهذا الرجل يعمل، وهذا من شواهد المسألة السابقة، وهي مسألة النية، هل يُشترط في هذه الأعمال إحضار النية؛ حتى يؤجر الإنسان أو لا، فهذا الرجل لم يظهر ما يدل على أن له نية في طلب الآخرة، أو قصد هذه المعاني، أو نحو ذلك، هو العمل بحد ذاته، أما إذا كان تكثُرًا، فهذا شأن آخر.

على كل حال قال: ولا يشغله عما هو أنفع له، قد يكون هذا الإنسان عنده قدرة على الاكتساب، ولكن لم يجد إلا لونًا من الاكتساب يشغله عن طاعة ربه وعبادته، والقيام بما يجب، بالفرائض، وجد عمل لا يُمكن فيه من أداء الصلوات، مثلاً وجد عملاً يتفرق معه قلبه، يقول: قلبي ما عاد يصلح لشيء، مثل هذا تضرر، فلا يجب عليه أن يبقى في مكان يكون فيه بهذه المثابة، بل قد يجب عليه المُفارقة، يقول: أجمع الصلوات، أجمع الظهر والعصر، ولا أُصليها إلا عند المغرب إذا رجعت، نقول: هذا لا يجوز، طيب.

وهكذا بعض الناس الذين يسألون، أحيانًا يُطالب بتنازلات في دينه بأمور مُحرمة، أو بأن يوقع على عقود محرمة، ولا يستطيع الفكاك من هذا، أو يقال له: في العمل أحلق لحيتك، مثل هذا ليس له أن يبقى في الجملة في مكان كهذا، وأرض الله واسعة، ويكون معذورًا حال قعوده إلى أن يأتي الله بالفرج.

"لن يقوم الدين إلا بالكتاب، والميزان، والحديد؛ كتاب يهدي، وحديد ينصره، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25] فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين".

هذا الدين لا يقوم إلا بالكتاب، والميزان، والحديد، فالله -تبارك وتعالى- ذكر هذه الأمور في هذه الآية من سورة الحديد لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25] فالكتاب هو الهادي، فمن لم ينجع معه الكتاب -كما يقول: أهل العلم- فإن الكتائب هي التي تُقيمه على الصراط المستقيم، هي التي ترده إلى رُشده إلى الحق؛ ولهذا ورد أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فالسلطان يُمثل القوة، والكتاب يُمثل الهداية، والهداية ما لم يكن قوة تحميها، وتدفع عنها، وتقطع الأيدي التي تريد أن تعبث بها، وترد الشاردين عنها، وإلا فإن الناس قد لا يكون سيرهم على استقامة، واعتبر هذا فيمن حولك من البلاد التي لا يوجد من قوة السلطان ما يرد هؤلاء الشاردين من الفلول إلى الصواب، ويُقيمهم على الجادة، والصراط المستقيم، ويؤدب كل من تسول له نفسه أن يُحرض على البلد وأهلها، وأن يُمزق شملهم، وأن يُفرق جمعهم، وأن يجعل البلد في حال من الفوضى، فمثل هؤلاء يحتاجون إلى سلطان قوي، المُشار إليه هنا بالحديد، فهؤلاء لم ينجع معهم الكتاب والهداية؛ لأن الله لم يوفقهم للهدى، فصاروا بهذه المثابة مع أعداء الله -تبارك وتعالى- ويرون أن تحكيم شرع الله سوءة وسُبة، وعار يُعيرون به غيرهم، ويحرضون عليهم أن هؤلاء ينوون، يريدون، يُخططون لتحكيم الشريعة، يُخططون لأسلمة البلد، هذه تُهمة عندهم وجريمة، يحرضون الأعداء على المسلمين، فمثل هؤلاء لا يمكن أن ينكف شرهم إلا بقوة تردعهم، فلا بد من هذا وهذا.

وهذه الأمور الثلاث المذكورة هنا صارت بعد ذلك في القرون المتأخرة كما يقول: شيخ الإسلام -رحمه الله- الكتاب للعلماء، والميزان للوزراء والكُتاب وأهل الديوان، والحديد للأمراء والأجناد[5] الجيوش.

فالأمة إذا أرادت أن تكون أمة قوية مُمكنة؛ فلا بد أن يكون البناء بحال من الاعتدال، يُراعى فيه هذا وهذا، فتُقدم للناس الهداية، وأيضًا يكون هناك قوة تحمي هذا الهدى، يقول: فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين.

الآن لو كان هناك الكتاب، ولا يوجد سُلطة تُنفذ الحدود التي أرشد إليها هذا الكتاب مثلاً، ولا يوجد سلطة تحمل الظالم على الخروج عن مظلمته، فإنه لا معنى لهذه الأحكام المُجردة التي لا يحصل بعدها أثر في الواقع، يعني: لا تُنفذ، يُحكم على هذا بالرد، ويُحكم على هذا بالقطع، ويُحكم على هذا بالتعزير، وهذا بالقتل، أو القصاص، أو نحو ذلك، ثم لا يُنفذ من ذلك شيء؛ لأنه لا يوجد سُلطة، أو يوجد سلطة ضعيفة، لا يمكن أن تُنفذ ذلك.

"أوجب الله في المعاملات خاصة، وفي الدين عامة النصيحة والبيان، وحرم الخلابة والغش والكتمان".

هذا ذكر هذا الكلام -رحمه الله- في مقام بيان بطلان الحِيل، وتكلم على هذا طويلاً، كما تكلم عليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[6] وقد مضى ذلك، أو بعض ذلك في بعض المناسبات السابقة.

ففي المعاملات وفي الدين أوجب الله النصيحة والبيان، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه على النُصح لكل مسلم، كما جاء عن جرير -رضي الله تعالى عنه-[7] فلربما اشترى من الرجل الدابة أو الفرس بثمن دون ما تستحق، ثم بعد ذلك لم يزل يعرض عليه ثمنًا فوقه حتى بلغ به إلى ما تستحقه، بمعنى أنه ليس كحال كثيرين، اليوم يعتبرون أن هذا الذي لا دراية له بالسوق أن ذلك من الفُرص الثمينة، فيُستغل، وتُشترى منه بثمن بخس، ويعتقد هذا المشتري أنه قد فاز فوزًا عظيمًا، فهذا لا يجوز، ومثل هذا الذي حصل له هذا الغبن الفاحش من حقه أن يُطالب بالرد، فيُعطى إما الأرش، الفرق، فيُكمل له بحسب ما تستحق، وإما الرد بالكُلية، فالشريعة جاءت لحفظ الحقوق.

ومن أفسد ما نسمع اليوم من العبارات أن القانون لا يحمي المُغفلين، إذا كان القانون لا يحمي المُغفلين فسيحمي من إذًا؟ سيحمي الأقوياء! إنما وضع القانون والنظام من أجل حماية الضعفاء بالدرجة الأولى، فهذه من أبرد العبارات والقواعد الفاسدة التي يُرددها بعض الناس، والرجل الذي كان يُغلب في بيعه وشراءه أرشده النبي ﷺ أنه إذا تعامل مع أحد باع أو اشترى، يقول: لا خِلابة، يعني: لا خديعة، ولا غش، وإنما ينبغي أن تكون المعاملات على النصيحة في معاملات الناس، فيحرم الغش والكتمان.

وكما سبق أنه قد يتكلم بأنها تستحق كذا وهو غير صادق، أو أنها طُلبت منه بكذا وهو غير صادق، أو أنه اشتراها بكذا وهو غير صادق، وقد يذكر من أوصافها ما ليس فيها، وقد يكون ذلك بالكتمان يقول: هي أمامك انظر إليها، وهو يعرف ما فيها من العيوب، فهذا لا يجوز، يجب عليه أن يُبين، ولا يمكن أن يتنصل من المؤاخذة بأن يقول: تركت السلعة أمامه، وخيرته، ونظر فيها حتى استقر رأيه على شرائها، نقول: هذا ما يكفي، لا بد أن تُبين العلل التي تعرفها فيها، فإذا كان الأمر كذلك فما شأن الحيل التي يُقصد بها استحلال ما حرم الله ، والتوصل إلى ذلك بطرق ووسائل مُلتفة يُستحل فيها ما حرم الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا إبطال للتشريع، الله -تبارك وتعالى- وضع هذه الأحكام والحدود، وقال: فَلَا تَعْتَدُوهَا فَلَا تَقْرَبُوهَا فصاحب الحيل يقرب ذلك ويتعداه بهذه الطُرق والوسائل، فلم يعد لحدود الله -تبارك وتعالى- عند هؤلاء معنى، ولم يكن لهم حد يقفون دونه.

أما فيما يتصل بالنصيحة في الدين، فهذا أيضًا كذلك، والنبي ﷺ أخبر: أن النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، وللائمة المسلمين، وعامتهم[8] وهذا حقيقة الإخلاص أن يكون الإنسان ناصحًا لكتاب الله -تبارك وتعالى- ولسنة رسوله ﷺ بدفع ما يؤثر على ذلك بالنقص أو الفساد أو الخلل، وفعل ما يمكنه فيما يتصل بالدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ونشر ذلك في الناس، وبث العلم، العلم بالكتاب والسنة فيهم، فبهذا يقوم عمود الدين، وهكذا أيضًا النصيحة للمسلمين ليس المقصود بالنصيحة مُجرد أن يقول: الإنسان أنا أنصحك بكذا، أو يأمره وينهاه، أن يكون ناصحًا له بتعامله معه، أن يصدق معه، أن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، أن يُحب الخير للمسلمين، أن يضع نفسه مقام غيره، حينما يأمره، أو ينهاه، أو يُطالبه، أو يُخاصمه، أو يوجه إليه دعوى، أو نحو ذلك، يضع نفسه في مقامه، هذه حقيقة النصيحة، أن يكون صادقًا معه ظاهرًا وباطنًا.

 "فإن الله ورسوله سدا الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء".

سبق الكلام على الذرائع، وقلنا: إنها ما يتوصل به إلى الحرام، فهذه ذرائع المُحرم، وهناك نوع آخر من الذرائع، وهي ما يتوصل به إلى إقامة الواجب أو المستحب، وهناك ذرائع إلى المباح، فذريعة المباح إذا كانت في أصلها مُباحة، فهذا لا إشكال فيه، فلها حكمه، وذريعة الواجب يكون فتحها واجبًا، وذريعة المستحب يكون فتحها مُستحبًا، وذريعة المحرم يكون فتحها مُحرمًا، ولهذا قال في المراقي:

سد الذرائع إلى المحرم حتمٌ، يعني: واجب، كفتحها إلى المُنحتم[9] كفتحها إلى المُنحتم، يعني: كفتحها إلى الواجب.

فعندنا ذريعة المُحرم، وذريعة الواجب، ذريعة الواجب يجب فتحها، وذريعة المُحرم يجب سدها، فإذا نظرنا في ذرائع الواجبات، ما هي ذرائع الواجبات؟ فتح الذرائع إلى الواجب؟ الواجبات ما هي؟ شرائع الإسلام، شعائر التعبد، فذرائع ذلك بالحج مثلاً ما هي ذرائعه؟ تسهيل الوصول إليه بكل طريق مُستطاع، وهكذا في سائر الأعمال، فتح الذرائع إلى الواجب واجبة، وفتحها إلى المُحرم مُحرم، الزنا مُحرم، فمن ذرائعه الاختلاط، فيجب سد هذه الذريعة، الطريق الموصل إلى هذا، هذا واجب، وقل مثل ذلك: الشرك من المحرمات، بل هو أعظم المحرمات، من ذرائعه: البناء على القبور، والصلاة إلى المقابر، والصلاة إلى القبر، والصلاة في المقبرة، فكل هذا يُمنع؛ لأنه يؤدي إلى هذا الإثم، والمُحرم الكبير، فهذا فيما يتعلق بسد الذرائع.

من جهة قوة الذريعة وضعفها هي مُنقسمة أيضًا هناك ذرائع تُفضي غالبًا أو دائمًا إلى المُحرم؛ فهذه يجب سدها، ذرائع تُفضي إلى الواجب غالبًا أو دائمًا؛ فهذه يجب فتحها، هناك ذرائع تُفضي إلى المُحرم إفضاء ضعيفًا، يعني: احتمالاً ضعيفًا، فمثل هذه لا تُسد، والعلماء يُمثلون على هذا بأمثلة التي لا تُسد، يعني: الاحتمال الضعيف مع وجود مصالح كُبرى في الترك، يعني: ترك الناس من غير سد لهذه الذريعة الضئيلة، أو المُحتملة احتمالاً ضعيفًا.

يقولون: مثلاً: وجود الناس الرجال والنساء في البلد الواحد، سُكناهم في الدور المتجاورة، سُكناهم في شُقق متجاورة، هذا قد يؤدي احتمال ضعيف، قليل إلى وقوع محظورات، أليس كذلك؟ وجود الأسواق قد يؤدي إلى وجود محظورات، لكن هل معنى هذا أن يُقال: إنه يجب أن يوضع النساء في مدينة مُحصنة عليها حرس من كبار السن من أهل الصلاح والتُقى بعيدًا عن الرجال؟ هذا لم يأمر الله به، وليس من الدين في شيء، مع وجود في حال بقاء الناس في البلد الواحد احتمال أن يكون ذلك ذريعة إلى وجود بعض المنكرات، فهنا لا يُطلب سد هذه الذريعة.

زراعة الفواكه والأعناب، فقد يتخذ بعض الناس منها خمرًا، فهذه ذريعة مُحتملة، لكنها ضئيلة بالنسبة لمنافع هذه الفواكه والأعناب، فلا يُطلب سدها، كما لا يُطلب أيضًا عزل الرجال عن النساء في البلد الواحد؛ لأن وجودهم فيه منافع أعظم وأكبر، ولهذا قال في المراقي:

وانظر تدلي دوالي العنب، يعني: في كل مصر، وكل بلد، كل مشرق، وكل مغربِ[10] يعني: ما أحد منع من هذا العِنب مع أنه يُعصر منه الخمر.

فهذه هي من الذرائع التي لا يُلتفت إليها، إذًا: ما التي يُلتفت إليها؟ هي التي تُفضي غالبًا إلى المفسدة والمحرم.

"تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم".

يعني: عبادات يصلح بها دينهم هذا من حيث القصد الأول، وإلا فلا شك أن هذه العبادات تكون أيضًا صلاحًا لدنياهم، ما يحصل مما يستتبع ذلك من انشراح الصدور، والسعادة، وتيسير الخيرات، وتنزيل البركات وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] فإقامة الدين سبب لنزول الخيرات والبركات، وما امتناع نزول القطر، أو إذا نزل لا تُنبت الأرض إلا بسبب ذنوبنا، ومنع الزكاة، وما أشبه ذلك.

"عادات يحتاجون إليها في دنياهم، فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله، أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا من الشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيها عدم الحظر، فلا يُحظر منها إلا ما حظره الله ورسوله".

يعني: القاعدة أن الأصل في العبادات المنع، هذه قاعدة؛ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[11] الأصل في العبادات المنع، يعني: أنه متوقف على النقل، ما يتعبد الإنسان بشيء لم يُشرعه الله -تبارك وتعالى-، وأما في العادات والمعاملات فالأصل فيها الحل، فالأصل في المعاملات المُستجدة بأنواعها أنها حلال ما لم يكن في ذلك محظور: كالربا، والجهالة، والغرر، وما يرجع إليهما، فالأصل أنها مُباحة، عادات الناس الأصل أنها مُباحة ما لم يكن فيه محظور كالتشبه بالكافرين مثلاً، أو يكن هذا الشيء في مضامينه ضرر مُعتبر، فيُمنع، وإلا فالأصل أنه مُباح، فلا نحتاج لما وجد من العادات، أو ما يستجد منها أن ذلك مُباح مثلاً، لا نحتاج معه إلى دليل مُعين خاص؛ لأن ذلك لا يتناهى، عادات الناس في كل بلد، وفي كل ناحية، عبر القرون كثيرة جدًا، فلا يحتاج ذلك إلى نص يُبين أن هذا حلال، وهذا حرام، ونحو ذلك، وإنما الأصل فيها الحِل، فلا يُحرم إلا ما حرمه الله ورسوله.

يبقى أمران وراء ذلك: الذبائح فالأصل فيها المنع، وكذلك أيضًا الفروج، فإذا كان هناك شُبهة في النكاح، أو نحو ذلك؛ غُلب جانب الحظر، المرأة التي جاءت وأخبرت أنها أرضعت الرجل وامرأته، فجاء إلى النبي ﷺ وأخبره، فالنبي ﷺ أمره أن يُفارقها[12] مع أن هذه المرأة واحدة، ولا يُدرى عن قولها، فجاءت، وقالت مثل هذا، ومع ذلك اعتبره الرسول -عليه الصلاة والسلام- تغليبًا لجانب.

"حرم الله أكل الأموال بالباطل، وهذا يعم كل ما يُأكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضى المستحق والاستحقاق".

الله قال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] سواء كان ذلك من قبيل المعاوضات، المعاوضات مثل المعاملات الربوية، العقود المُحرمة المُشتملة على شيء من الغرر أو الجهالة المُعتبرة، أو كان ذلك بصور أخرى، هي في الواقع عائدة إلى المعاوضات، مثل: الهدية، والعطية، والهِبة التي يُنتظر المُكافأة عليها، يعني: المُعطي إنما ينتظر المُكافأة، فهذا في الواقع من قبيل المعاوضات، هو داخل فيه، بخلاف ما كان المقصود به التحبيب، كما قلنا في مناسبات سابقة: الهدية الأصل فيها تقريب القلوب، وما إلى ذلك، والصدقة يُراد بها ما عند الله فحسب، ولا يُلتفت إلى شيء آخر، والهبة يُقصد بها نفع المُعطىَ، وكذلك العطية، فهنا هذه المعاوضات يدخل فيها هذه المعاملات المحرمة: القمار، الميسر، الربا، العقود المحرمة بجميع صورها وأنواعها، هذه معاوضات.

وهناك التبرعات، عندنا تبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المُستحق والاستحقاق، الآن غير المعاملات، هذه الربا، والميسر، والقمار، والعقود المحرمة، هناك أشياء هي من قبيل التبرعات، هذه الأموال من الصدقات، أو نحو ذلك، أو هذه الأوقاف، قيل: إنما يأخذ هذا المال من كان مُحتاجًا، هذه ليست معاوضة، هذا من قبيل التبرعات، يأخذ هذه الأموال من كان مُحتاجًا، يأخذ هذا اللباس من كان مُحتاجًا، يركب في هذه الحافلات، يذهب بها ويرجع، إلى مدرسته إلى عمله، وكذا من كان محتاجًا، يعني: للفقراء فقط، فهذا من قبيل التبرعات، فلا يجوز له أن يأخذ من ذلك شيئًا إن كان ذلك لا ينطبق عليه، هذه الصدقة للفقراء؛ لا يجوز لغيرهم أن يأخذوا منها، هذا من قبيل التبرعات.

وكذلك الاستحقاق، هذا الإنسان، هذا الوقف، قيل: من درس في هذه المدرسة؛ يسكن في هذا الوقف، من درس في هذه الجامعة؛ يسكن في هذا الإسكان، فجاء إنسان ليس من الجامعة، وسكن فيه، وزميله استأجر شقة، أصلاً هو مُستأجر شقة من قبل، وساكن فيها، وحاجز هذه الغُرفة، فجلس فيها آخر ليس من الجامعة، هذه ليست معاوضة، هذا استحقاق لمن هو بهذه الصفة، يدرس بهذه الجهة مثلاً، فهذا لا يحل له، لا يجوز، يحرم عليه، نظام حافز، هذا النظام الذي يبحث عن عمل بشروط معينة، يستحق، جاء طالب، وطلاب من لا يبحثون عن عمل، ولا يفكرون بعمل أصلاً نساء في البيوت، يقولون: نحن لا نبحث عن عمل، ولا نطلب عملاً، ولا نسأل عن عمل، ولا نُفكر بعمل، ولو تهيأت لنا أنواع الأعمال ما ذهبنا نعمل فيها، وسجلوا في هذا النظام، وصار يأتيهم مال، هل يحق لهم؟ ما يحل لهم ذلك، استحقاق، هذا المُكافأة تُعطى للطالب المُسجل في الجامعة، هذا الطالب طوي قيده، فيسأل يقول: نزل في حسابي من هذه المكافأة، بعد طي القيد، بعد القرار، هل أستحق، أو ما أستحق؟ نقول: ما تستحق، تُعيد هذا إليهم.

وهكذا في صور، وأمثلة كثيرة، فهذه ليست معاوضات، فلا يحل لأحد أن يأخذ من هذه الأموال، وقل مثل ذلك في هذا التوظيف الوهمي، يأتي لشركة، أو هم يأتون إليه، ويقولون: تعال اعمل، ونحن نقول: اجلس في البيت؛ من أجل أنه فُرض عليهم أن يوظفوا نسبة معينة من هؤلاء الناس، فهو يجلس في البيت، فيأخذ منهم راتبًا، وجزء من هذا الراتب هو من مصدر آخر، من صندوق الموارد البشرية، نصف الراتب، ويأخذ، فهل هذا يجوز؟

الجواب: لا، ما يجوز، ما يحل له؛ لأن هذا للناس الذين يعملون، وهو لا يعمل، وهذا صاحب الشركة يقول: هو أعطاني، نقول: هو أعطاك، لكن من غير طيب نفس منه ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه[13] فهو مُجبر، ولو تُرك مع حاله ما أعطاك من هذا قليلاً، ولا كثيرًا، فهذا كله من أكل الأموال بالباطل، فهذه الأنواع التي ذكرها.

"الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أحل حرامًا، أو حرم حلالاً، أو كان غررًا، أو ربًا، أو ظُلما".

هو هذا كما سبق؛ لأن الأصل في المعاملات الحِل، فالأصل في العقود الصحة، وكذلك الشروط، سواء كانت هذه الشروط لمصلحة العقد، أو لمصلحة المُتعاقدين، أو لمصلحة أحد المُتعاقدين؛ ما لم يكن ذلك حرامًا كالربا، وكذلك أيضًا ما يكون مُتضمنًا لشيء من الغرر، ونحو هذا، فهذا لا يجوز، أو المقامرات، أو تحليل حرام أو تحريم حلال.

بعض الناس يضعون بندًا ربويًا، ويقول: هو قابل، هو راضي، نقول: وإن كان راضيًا لا يجوز هذا حرام؛ لأن الله حرمه، فلو حصل بتراضي الطرفين، وقال: أنا أقبل؛ لأنك أنت مُحسن إليّ، حتى مع هذه النسبة ربوية، نقول: ما يجوز، حرام، وحدث ولا حرج عن العقود الباطلة التي تتضمن الغرر، للأسف يقع في هذا حتى بعض أهل الصلاح، يأتي، ويقول: أنا أدخل معك في هذه الشركة، أنت عندك تجارة تشتري هذه السلع، ثم بعد ذلك تبيعها، وأنا أُساهم معك، سأعطيك مائة ألف تشتري الصفقة، ثم بعد ذلك تُرجع لي الأرباح بعد شهرين، أو نحو ذلك، بحسب ما يتفقون عليه، ويضمن له رأس المال تارة، أو رأس المال والربح، ولربما أعطاه شيكًا بهذا، يقول: لك من هذا الربح كذا، ويحسب له الربح على رأس المال، يُحدد، يعني: مائة ألف، يقول: لك من الربح، أُعطيك منها رأس المال خمسين بالمائة، يعني: كم يُعطيه من المائة؟

 يُعطيه خمسين ألف، ويكتب له شيك مائة وخمسين ألف، الذي هو رأس المال مائة، والربح، طيب قد لا يكون هناك ربح أصلاً، قد يكون الربح أقل من هذه النسبة، فهذا باطل، لا يجوز، ويقول: أنا قابل الذي كتب له هذا، وضمنه له، يقول: أنا راضي، أنا قابل، أنا عارف عملي، أنا أربح، نقول: ولو كنت قابلاً، ولو كنت راضيًا، فهذا لا يجوز، ولو قال: أضمن لك رأس المال، نقول: لا يجوز بحال من الأحوال، لا يضمن له رأس المال، فهذا يقع فيه كثيرون، ويظنون أنه إذا كان بالتراضي أنه لا إشكال في ذلك، وهذا خطأ، وربما كثير ممن يفعل هذا، يكون عمله مدخولاً، يعني: هذا الذي يضمن لهم الربح بهذه النسبة، ويُعطيهم بذلك شيئًا يُثبت به حقهم، فمثل هذا غالبًا هي تدوير أموال، أما التجارة الحقيقية فلا يستطيع أن يضمن، هي ربح وخسارة، لا يعرف الأمور العارضة.

"الشرط المُتقدم بمنزلة الشرط المُقارِن".

الشرط المُتقدم بمنزلة الشرط المُقارن، طبعًا هذا ليس محل اتفاق، ولكن هذا في ظاهر مذهب كثير من أهل الحديث، وكذلك الإمام أحمد -رحمه الله- تعالى، وطائفة من أهل العلم، وهو قول أيضًا لبعض الشافعية، وعندهم قول آخر بالمنع، بل هو المشهور القول بالمنع عند الشافعية، وعلى كل حال أقصد بالمنع أنه لا قيمة لهذا الشرط المُتقدم، وكذا الأحناف، لا قيمة له، يعني: لا يُعتبر، ما المراد بالشرط المُتقدم؟

الآن هذا رجل يريد أن يتزوج هذه المرأة، وحصل مفاوضة قبل ذلك، وقالوا: نحن نزوجك إياها بشرط أنك لا تمنع هذه البنت من الدراسة، مواصلة دراستها مثلاً، أو قالوا له: نحن نزوجك بشرط أنك تضع هذه البنت ببيت مُستقل مثلاً، ثم جاء بعد مدة، وأراد أن يعقد عليها، وافق على الشروط في المفاوضة حينما جاء ليخطب، أو نحو ذلك، فلما جاء في مجلس العقد فيما بعد كتبوا العقد، ولم يذكروا شيئًا من هذه الشروط، فهذا هو الشرط المتقدم، هل يلزم، أو لا يلزم؟ فيه خلاف بين أهل العلم، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى أن هذا الشرط يلزم، وإن لم يُسم في مجلس العقد، يعني: ليس من حقه أن يقول: ما كتبنا هذا الشرط، ما ذكرتموه في مجلس العقد، قالوا: والله بناء على الاتفاق، وما أردنا إحراجك أمام الحضور؛ لأنه يحضر أحيانًا بعض الأقارب، ونحو ذلك، أو هذا المأذون، قالوا: ما أردنا الإحراج بالإفصاح عن كل هذه الشروط، فذلك بيننا وبينك، فأردنا أن يكون هذا بحضرة هؤلاء من غير تسمية لهذه الشروط، لكن نحن على ما اتفقنا عليه، ما وافقنا على الزواج إلا بعد ما أخذنا منك الموافقة على هذه الشروط، فعلى قول شيخ الإسلام: هذا الشرط يكون مُعتبرًا، مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- وقول لبعض أهل العلم كما عرفتم.

وعند الآخرين أن هذا لا يُعتبر ما لم يُسم في مجلس العقد، ولذلك أقول: الأحسن، والأحوط أن الناس يُفصحون عن شروطهم في مجلس العقد، وتُكتب في العقد لاسيما في هذه الأوقات التي كثُر فيها التنصل من هذه الأمور، والجحد، وما إلى ذلك، وأيضًا يُفصح عن المهر الحقيقي، يعني: بعض الناس ما يذكر المهر الحقيقي لسبب، أو لآخر، إما أنه يرى أنها خصوصيات، أو لأن المهر كثير جدًا، يعني: مثلاً المهر مائة ألف، أو مائة وخمسين ألف، ولا يُريد أن يُكتب هذا، أو يُقال، أو أن يتحدث الناس أنه تزوج فلانة بمائة وخمسين ألف، طيب ما العمل؟

قال: اكتب عشرة آلاف، ثم يختلفون، يختلفون بعد ذلك، نحن عندنا بعض الإخوان قُضاة، يأتونهم الخصومة بعد ذلك حينما يكون مثلاً مُطالبة من الزوجة بالخُلع، الخُلع أن يكون الطلاق على عِوض، فيقول: لها القاضي: أرجعي المهر إليه، فتقول: بيننا وبينه عشرة آلاف، هذا العقد يا فضيلة الشيخ، فيقول: لا، أنا أعطيتها مائة وخمسين ألف -بناء على القواعد التي درسناها من قبل في هذا الكتاب- القول قول من في هذه الحال؟

نعم، الآن ومعها العقد، وفي تسمية المهر عشرة آلاف، وهذا يدعي أنه أعطاها مائة وخمسين ألفًا، ولا يوجد ما يشهد لذلك، ففي هذه الحال القول قول المرأة مع يمينها؛ لأنها أقوى الطرفين في هذه الخصومة المُعينة، كما سبق أن اليمين تكون مع الأقوى، فهذا يقع.

وبعضهم ماذا يصنع حتى يتجنب الكذب، عنده تورع، ماذا يفعلون؟ أنا أتحدث عن أمور واقعة، قبل ما يدخل على المكان الذي فيه هذا المأذون والحضور، وهو داخل ليُعقد له عند الباب يُعطي الولي ألفين أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، غير المهر الذي أعطاه من قبل، يعني: أعطاه من قبل خمسين ألفًا، ثم إذا أراد أن يدخل؛ وضع بيده خمسة آلاف، ما هذه؟ قال: هذه من أجل إذا أردنا الآن سأل عن المهر نقول له: خمسة آلاف، هذه التي أنا أعطيتك الآن، هو يظن أنه بهذا ما كذب، وأنه صادق، فيقال له: هل تقصد أن هذا فعلاً هو المهر، وتلك هبة، هدية؟

يقول: لا، ذاك المهر، لكن أرادت أن نُسمي هذا فقط، يقال له: ما يصح، ولا يُغني هذا عنك شيئًا، فيُكتب ما دفع، الشرط المُتقدم بمنزلة الشرط المُقارن، المُقارن، يعني: في مجلس العقد، وهذا كما يكون في النكاح يكون أيضًا في غيره من العقود.

"جميع الأيمان تُكفر من غير استثناء".

جميع الأيمان، الآن الأيمان عندنا على صور وأنواع، هناك أيمان واضحة، لا إشكال فيها، ولا شُبهة، وهي صحيحة، يقول: الإنسان: والله لأفعلن كذا، فهذا تُكفر، هناك يمين أخرى، أو ما يُنزل منزلة اليمين، يكون له حُكم اليمين، كأن يقول مثلاً: عليه الحرام، عليه الطلاق ليفعلن كذا، ويقصد أن يحمل نفسه على الفعل، أو الترك، لا تطليق امرأته، على القول بأن هذا يمين كما يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فهذا تجب فيه الكفارة.

عندنا نوع ثالث، وهو الحلف بغير الله فهذه هل تجب فيها الكفارة، أو لا؟ وهل يجب الوفاء بها، أو لا؟ العلماء مختلفون، طبعًا هم متفقون على أنها لا تجوز من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك[14] مختلفون فيها هل تجب فيه الكفارة، أو لا تجب؟ شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن هذه باطلة، ويمين لا عبرة بها، أنها يمين لا عبرة بها، وأنها لا تُكفر، ولا يجب الوفاء بها، لو أنه حلف قال: حلف بأبيه، حلف بالكعبة، حلف بالنبي، حلف بالبدوي، فمثل هذا لا يجب الوفاء به، وليس فيه أيضًا كفارة، فالحاصل أنه ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام في معرض الكلام على الحلف بالطلاق، هو يتكلم على الحلف بالطلاق، ما حكمه؟ فيقول: بأن ذلك بمنزلة اليمين إذا قصد بها الكف، يعني: أن يكف نفسه عن شيء أن يمنع نفسه من شيء، أو أن يحملها على فعل مُعين، ففي هذه الحال تجب عليه كفارة يمين، مع أنه ما حلف، ما حلف بالله -تبارك وتعالى- فأصل هذا الأصل، أن كل يمين يحلف بها المسلمون تجب فيها الكفارة، إلا إذا كان يقصد شيئًا آخر.

ولذلك تجد الكلام في التحريم مثلاً، لو قال: عليه الحرام هذه ذكر فيها بعض أهل العلم كالقُرطبي في التفسير ثمانية عشر قولاً، أعلاها أن هذه طلاق بالثلاث، وأدناها أدنى هذه الأقوال: أنه لغو لا شيء فيه[15] مع أنه يحرم عليه أن يقول: هذا لكنه لغو لا عبرة به، ولهذا يقول: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: بأن هذه المسألة أقوى الأقوال فيها ثلاثة متناقضة، أقوى الأقوال، أرجح الأقوال ثلاثة مُتناقضة، منها العدد الكبير: الأول: أنها بمنزلة أنه ظهار أنه فيه الكفارة المُغلظة إذا قال عليه الحرام[16].

القول الثاني أن فيه كفارة يمين؛ لأن الله قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] لما قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1].

القول الثالث: أنه لغو، لا شيء فيه، لا عبرة به مع أنه لا يجوز أن يقول: هذا الكلام، فهذه إلا إذا قصد، يعني: مثلاً إذا قال عليه الطلاق، وقصد تطليق امرأته؛ فإنها تُطلق، ولا يقال كفارة يمين، وهكذا لو قال: عليه الحرام، وقصد بذلك الظهار -عند من يقول بهذا- المسألة فيها خلاف كثير، أنه بحسب نيته، فيكون قصد الظهار، نزلها، ولذلك بعض أهل العلم يقول: إن كفارة التحريم هي كفارة الظهار، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد -رحمه الله- كفارة الظهار، وهو مذهب الحنابلة[17] كفارة الظهار، لماذا؟

لأن المُظاهر، وإن اختلفت عبارته؛ لأن أجلى صورة في الظِهار المعروفة، أن يقول: لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهو نزل امرأته منزلة الأم من جهة تحريم الاستمتاع، لو أنه قال بالتحريم، قال لامرأته: هي عليه حرام، قالوا: نزلها منزلة المُحرم من الأم، ونحوها، ولهذا الظِهار الراجح أنه لا يقتصر على الأم في التعليق لفظًا، يعني: حينما يقول: كظهر أمي، بل لو قال: أختي ممن تحرم عليهم تحريمًا مؤبدًا، أو قال على الأرجح: امرأة تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا، المرأة ليست تحل له أن ينكحها ليست زوجة، ولا ملك يمين، فقال: كظهر فلانة، بل حتى لو لم يذكر الظهر، قال كيد فلانة، ونحو هذا، فهو سواء، فالمقصود: أن هذا الذي يذكر التحريم، بعضهم يقول: عليه كفارة ظهار؛ لأنه حرمها، فهي بمنزلة المُظاهر منها لا فرق، وإن اختلفت العبارة، وبعض الناس إذا جاء يسأل عن هذه المسألة يأتون بعبارات يذكر فيها التحريم، والظهار، والطلاق بطريقة يصعب تفكيك الكلام فيها، حتى إنك تسأل هذا الإنسان، العبارة الفلانية، والعبارة الفلانية ماذا تُريد بهذا، وماذا تُريد بهذا يقول: ما أدري، ويسأل يقول: ما الحكم؟ ما اكتفى بالطلاق، ولا اكتفى بالظِهار، ولا اكتفى بالتحريم.

وذكر شيخ الإسلام أن التي تكون بغير الله -تبارك وتعالى-يعني: المحلوف به، أنها لا عبرة بها، ولا كفارة، ولا يلزم الوفاء.

مداخلة... [1: 1: 3]

لا لا، هذه مسألة ثانية، هذه التي تُكفر، اليمين على نوعين من هذه الحيثية، وقد مضى الكلام على هذا أظن قريبًا بعد صلاة العشاء أليس كذلك، أو في مكان آخر، قبل أيام، اليمين على نوعين: نوع يكون أن يذكر مُعظمًا عند الحالف؛ من أجل أن يحمل نفسه على الفعل أو الترك، فهذه في مُستقبل، هذه اليمين عند الفقهاء: تأكيد الكلام بمعظم عند الحالف حقيقة، يعني: هو مُعظم حقيقة، أو اعتقادًا هو في اعتقاده أنه مُعظم، بغض النظر عن كون الحلف بغير الله هل فيه كفارة، أو لا، فيه خلاف كما سبق، لكن أنا أقول معنى اليمين فقط، سواء كانت يجب الكفارة، أو لا يجب الكفارة، تأكيد القول، أو الكلام بمعظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادًا، حقيقة كأن يقول: والله، أو اعتقادًا هو في اعتقاده أنه مُعظم، لو حلف باللات أو العُزى هي ليست مُعظمة، لكن هو يعتقد أنها مُعظمة، ففي مثل هذه الحال هذا من أجل أن يحمل نفسه على الفعل أو الترك هذه في المُستقبل، هذه اليمين التي يتكلم عليها الفقهاء.

النوع الثاني: هو تأكيد الخبر بمُعظم عند الحالف، لو قال: إنه حصل كذا في المكان الفلاني، وحلف في أمر ماضي، أو حاصل الآن قال: والله إن زيدًا قد سافر، حلف، هذه ليس فيها كفارة يمين، هذه اليمين الغموس على الأرجح ليس فيها كفارة يمين؛ لأنها أعظم من الكفارة، وتحتاج إلى توبة عظيمة، وكثرة حسنات، واستغفار، وما أشبه ذلك، تكون على أمور خبرية، أما هذه لا، هو يُريد أن يفعل أو يترك، هذا الفرق بين الأمرين، ولذلك ممكن تُعرف اليمين عمومًا عند الفقهاء، وغيرهم، فيقال: هي تأكيد الكلام بذكر مُعظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادًا، فإن كان على أمر مُستقبل، فهذه هي الفعل أو الترك هي التي عند الفقهاء التي يناقشونها، لكن حينما نتحدث مثلاً عما هو أوسع من ذلك، القسم في القرآن مثلاً، نحن لا نتحدث عن هذه، هذه غير إلا في آية المائدة ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]

"الأموال التي لها أصل في كتاب الله التي يتولى قسمها ولاة الأمر ثلاثة: الأول: مال المغانم، وهذا لمن شهد الوقعة إلا الخُمس، فإن مصرفه ما ذكره الله بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] والمغانم ما أُخذ من الكفار بقتال، فهذه المغانم، وخُمسها".

إذًا النوع الأول الذي هو الغنائم، وهو ما أُخذ من أيدي الكفار بالقتال، فهذه تُقسم إلى قسمين كما ذكر الله هذه تُقسم إلى قسمين، أربعة الأخماس هذه للمُقاتلين الذين اشتركوا في المعركة، والخُمس يُقسم إلى خمسة أقسام، ما هذه الأقسام الخمسة؟ هي المذكورة هنا فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41] والراجح أن هذين شيء واحد، سهم الله وسهم الرسول ﷺ فكان النبي ﷺ يأخذ نفقته، ونفقة أهله سنة، ويجعل ما زاد في السلاح والكُراع، يعني: يُجعل في مصالح المسلمين العامة، الكُراع، يعني: شراء الدواب، ونحو ذلك للجيش، الخيول، فهذا لله وللرسول، ولذي القُربى قرابة النبي ﷺ واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إلى آخره، فخُمس يُقسم إلى خمسة أقسام، والأربعة الأخماس للمقاتلين، هذا بالنسبة للغنيمة.

النوع الثاني: الفيء، الفيء هذا هو فاء بمعنى رجع، يعني: ما صار للمسلمين من أموال الكفار من غير قتال، فهذا يُقسم بكامله على الأقسام الخمسة التي قُسم فيها الخُمس، انظروا كيف قسمنا الخُمس من الغنيمة إلى الأربعة الأخماس جعلناها في ماذا؟ جعلناها للمقاتلين، هنا لا يُجعل شيء للمُقاتلين؛ لأن الله -تبارك وتعالى- ماذا قال في آية الحشر: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [الحشر:6] هذه مقدمة لبيان القسمة التي ستأتي يقول لهم: لم يكن لكم فيه عمل، ما قطعتم فيه مسافة، ولا أغرتم فيه إغارة على العدو، فذكر فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [الحشر:6] الركاب الإبل تُستخدم للسفر المسافات البعيدة، والخيل للإغارة، يقول: ما فيه كد، ولا تعب، ولا جُهد منكم، لم تُغيروا فيه على العدو، ولم تُسافروا، ما نافية فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [الحشر:6] يقول: لا يد لكم فيه، فهي مُقدمة لبيان مصارف هذا الفيء بعد ذلك حيث لم يجعل للمُقاتلين شيئًا، فجعل كل الفيء مُقسم إلى خمسة أقسام، هي التي في الخُمس في الغنيمة، أن لله خُمسه وللرسول، ولذي القُربى، واليتامى، والمساكين إلى آخره، وبين أولى الناس بهذا على الأرجح في آيات سورة الحشر، فذكر أول شيء الفقراء المُهاجرين، ثم ذكر الذين تبوؤا الدار والإيمان، ثم ذكر وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] الذين جاءوا من بعدهم على طريقتهم، وهديهم، وسننهم لا يسبونهم، ولهذا قال الإمام مالك: لا يُعطى الرافضة من الفيء؛ لأنهم ليسوا من المُهاجرين ولا الأنصار، وليسوا ممن قال الله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10][18] هي ثلاثة أقسام، فمن لم يُدرك الأول، ولا الثاني، ولم يكن بالصفة التي ذكرها الله ثالثًا، فليس له في ذلك نصيب، فهذا الفيء.

"والثاني الفيء، وهو الذي ذكره الله في سورة الحشر: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الحشر:6] وهو ما صار للمسلمين بغير".

طبعًا هذا الفيء ما حصل قط، يعني: كل الآيات التي وردت في سورة الحشر، والتي أشار فيها إلى القُرى، ونحو ذلك هم اليهود، يعني: الغنائم كانت تؤخذ من أيدي الكفار بالقراع، والقتال، والحديد، يواجهون في أرض المعركة، آيات الفيء، ومواقع الفيء: قريظة، النضير، بني قينقاع، خيبر، كل المواقف مع اليهود كانت الأموال تأتي، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا انظر هذه الصواريخ التي أشبه بالألعاب النارية كما يقول خصوم هؤلاء المساكين المُستضعفين في فلسطين، ألعاب نارية، وانظروا إلى الهلع، والخوف، والرُعب الذي أصابهم، هؤلاء لو أُمطروا بما أُمطر به المسلمون في سوريا، أو في العراق، شحنات هائلة، وصواريخ ضخمة تخرج من البحار أحيانًا، من غواصات، وتجعل البلد قاعًا صفصفا، هذه لو أُرسلت إليهم ما حالهم؟ كيف سيكونون؟ أنا متأكد تمامًا ليس عندي شك، أنهم سيموتون، ولو لم يُصبهم من ذلك شيء، سيموتون في الأقبية، والمخابئ، هم وضعوا لهم مخابئ، وأقبية، لكنهم سيموتون فيها من غير إصابات، لو أُرسلت عليهم هذه الأسلحة الضخمة التي تُصب على رؤوس المسلمين في سوريا، أو في بلاد ذاقوا منها الويلات، هذه ألعاب نارية كما يقول: أعداءهم، وفعلت بهم الأفاعيل، رأيتموهم حال من الذُعر، والهلع، والجنود كيف؟ هم في حال من الذلة، والمهانة، والخوف، والرُعب، كيف لو وجد غير هذا سيموتون في الملاجئ، لن تُغني عنهم هذه الملاجئ، سيموتون فيها، ويجيفون، لن يجدوا من يُخرجهم إلا أهل الإسلام، يعني: لن يجدوا أحد يُنقذهم حتى إذا ماتوا، يذهب بهم إلى قبورهم، يموتون، الكل يموت من الخوف لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:13] فهذه أمور خفية ذكرها الله -تبارك وتعالى- عنهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

"وهو ما صار للمسلمين بغير إيجاف خيل ولا ركاب؛ لأن الله أفاءه على المسلمين، فإنه خلق الخلق لعبادته، وأحل لهم الطيبات؛ ليأكلوا طيبًا، ويعملوا صالحًا، والكفار عبدوا غيره؛ فصاروا غير مُستحقين للمال، فأباح للمؤمنين الذين عبدوه أن يسترقوا أنفسهم، وأن يسترجعوا الأموال منهم، فإذا أعادها الله للمؤمنين؛ فقد فاءت؛ أي: رجعت إلى مُستحقيها، وهذا الفيء يدخل".

طبعًا ليس معنى هذا الكلام من الذي بين أيديكم لشيخ الإسلام -رحمه الله- أنه يجوز الاعتداء على أموال الكفار المستأمنين أو المُعاهدين أو أهل الذمة، وهؤلاء كما لا يجوز الاعتداء على نفوسهم لا يجوز الاعتداء على أموالهم، نعم هم يتمتعون بنعم الله ويزداد عذابهم بسبب هذا التنعم أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20] لكن ليس معنى هذا الكلام الذي يذكره شيخ الإسلام، فصاروا غير مُستحقين للمال، فأباح الله للمؤمنين أن يسترقوا أنفسهم، وأن يسترجعوا الأموال منهم، فتكون فيئًا رجعت للمسلمين، لا يقصد بهذا العدوان على أهل الذمة أو المُعاهدين أو المُستأمنين، ومعروف كلام شيخ الإسلام في هذه القضية، وكلامه واضح، وصريح في مواضع كثيرة.

"وهذا الفيء يدخل فيه الجزية، والعشور، وأنصافها".

العشور الأرض العُشرية تُطلق عدة إطلاقات، يعني: من ذلك مثلاً إذا فتح المسلمون بلدًا، وقُسمت بين المُقاتلين كل واحد أُعطي إقطاعًا فيها، فيكون فيه خراج، فيُفرض فيها العُشر مثلاً، يؤدونه إلى بيت المال، هذه صورة، من الصور أن هؤلاء الكفار فُتحت بلادهم، فيُقال لهم: ابقوا فيها، واشتغلوا في هذه الأرض في المزارع، والحروث إلى آخره، كالأجير، لكنهم ما يدفعون أُجرة، فيؤخذ منها العشور، يؤخذ منها العُشر، بقوا في هذه الأرض، لكن ما يؤخذ منهم أُجرة، فيكون عوضًا عن الأُجرة، يقال: اعملوا، ونأخذ العُشر، هذه من الصور، بلد للكفار خرجوا منها، انتقلوا عنها، انزاحوا اجلوا هذه يمكن أن توزع على المسلمين حتى أهل الذمة لو انتقلوا إليها، أو نحو ذلك، أو سكن بعضهم فيها، فيؤدون العُشر.

"وهذا الفيء يدخل فيه الجزية، والعشور، وأنصافها".

يعني: نصف العُشر.

"وما يُصالح عليه الكفار من المال".

يُصالح عليه الكفار من المال، كأن يُحاصرهم المسلمون مثلاً، أو نحو ذلك، فيقولون: دعونا، ونحن سنبذل لكم كل سنة كذا وكذا من المال، كذا وكذا من الذهب، كذا وكذا من الدواب، كذا وكذا من الثياب، كذا وكذا من الثمار، فهذا صالحوا عليه المسلمين.

"وما تركوه خوفًا من المسلمين".

تركوه من أموالهم خوفًا من المسلمين، يعني: من غير قتال.

"وذكر الله مصارف الفيء في قوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [الحشر:7] إلى قوله: إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]".

القرى مثل خيبر، وفدك، والنضير، قُريظة كل هذه أراضي اليهود.

"فهؤلاء المهاجرون، والأنصار، ومن جاء من بعدهم إلى يوم القيامة، ومن الفيء الخراج، ويُصرف منه للمُجاهدين، ولجميع المصالح الإسلامية، ممن يحتاجون، أو يُحتاج إليهم، وما فضُل".

هذه يُصرف منه الخراج يعني، الخراج مثل ما قلنا في الأرض العُشرية، فهذا الذي يؤخذ من الأرض يقال له: خراج، ويقال: أرض خراجية، فما يُفرض فيها سواء كان الذين بقوا فيها من المسلمين، يعني: أخذوها مكان الكفار، أو وزعت، والكفار من أهل البلد لا زالوا فيها، لكن وزعت إقطاعات على المسلمين، هذه الأرض المفتوحة الجديدة، أو بقي أهلها فيها، ويعملون فيها، ويؤخذ منهم مقدار مُعين يُفرض عليهم، سواء كان العُشر، أو غير ذلك، فهذه تُسمى، يقال له: خراج، هو أصله في الخارج.

"وما فضُل منه قُسم بين المسلمين".

ويُصرف منه للمُجاهدين، ولجميع المصالح الإسلامية، وما فضُل منه قُسم بين المسلمين، يعني: الزائد يُعطى، كما كان الخلفاء يفعلون، وكما كان النبي ﷺ أيضًا يفعل، فما زاد في هذه المصارف، يصل إلى كل أحد بحسب بلائه، وغنائه، ونفعه، وسابقته، فيُعطى كل الناس بحسب غنائهم وبلاءهم في الإسلام، فهذا الذي يكون فيه دفع، ونفع أعظم يُعطى أكثر، ويُقدم على غيره، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه كما قال عمر -رضي الله تعالى عنه- بأنه لو بقي لوصل هذا المال إلى راعي الغنم في جبل في صنعاء من غير أن يمشي إليه[19] فيُعطى كل أحد من هذه الأموال الحاصلة في بيت مال المسلمين؛ لأنها أموال لهم، يعني: لمجموعهم، فلا يبقى ناس في حال من الحاجة والفقر والمسغبة، ولا يصل إليهم شيء من هذا المال الذي هو مالهم في الواقع، فيُعطى، ويصل إلى الرجال والنساء، والصغير والكبير؛ يُفرض لكل أحد بحسب ما يتوفر من هذا المال، بلا مِنة، ولا طلب، يعني: ما يحتاج أنه يكتب، يطلب أن يُعطى، وإنما يصل إليه هذا بطرق كريمة، لا يحتاج أن يمد يده، أو أن يسأل، أو يستشرف للعطاء، وإنما يصل إليه بطريقة تحفظ له ماء الوجه، يعني: إحصاءات، وإلى آخره، بدون ما يطلب، ثم ينزل ذلك في حسابه، كل بحسبه.

"وأما المال الثالث، فهو الصدقات التي هي زكاة أموال المسلمين، زكاة الحرث: وهي العشور وأنصاف العشور المأخوذة".

العشور هذه غير العشور التي هناك، هذه الأرض التي تُسقى بالمطر يُخرج منها بالزكاة العُشر، والأرض التي تُسقى بمؤونة، فمثل هذه يُخرج منها نصف العُشر، لكن تلك بالمطر، أو بالعيون، ونحو ذلك الأنهار، يعني: لا تعب للإنسان فيها، فإنها يُخرج منها العُشر، هذا في زكاة الحبوب والثمار.

"زكاة الحرث: وهي العشور وأنصاف العشور المأخوذة من الحبوب والثمار، وزكاة الماشية: وهي الإبل، والبقر، والغنم، وزكاة التجارة، وزكاة النقدين، فهذا المال مصرفه ما ذكره الله بقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء [التوبة:60] إلى آخرها".

التي في سورة التوبة، هذه غير قسمة الغنائم، والفيء.

"العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله، فكلما كان لله أطوع".

أي عطاء؟ يقصد العطاء الذي يكون من بيت المال للناس، للمسلمين، هل يُعطى مُحاباة لأحد، أو لمعرفة، أو لقرابة، أو نحو ذلك؟ لا، وإنما هو بحسب مصلحة دين الله، من غير مُحاباة، فكلما كان لله أطوع، ولدين الله أنفع؛ كان العطاء فيه أولى، ولاحظوا عمر حينما كان يُعطي إلى آخره، كان أعطى عبد الله بن عمر أقل مما فرض للمُهاجرين، ولما سئل عن هذا، وهو ابن الخليفة، قال: إنه هاجر مع أبيه، يعني: أن ذلك حصلت له الهجرة على سبيل التبع لأبيه، طيب هو هاجر يُعتبر مُهاجري، فأعطاه أقل مما يفرض للمُهاجرين، فهو ينظر إلى أن ذلك أنفع، ينظر إلى ما هو أنفع لدين الله -تبارك وتعالى-.

"العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله، فكلما كان لله أطوع، ولدين الله أنفع؛ كان العطاء فيه أولى، وعطاء محتاج إليه في دين الله".

وعطاء محتاج إليه في دين الله، يعني: رجل فيه نفع، فيه غناء، أولى من إعطاء من ليس كذلك.

"وعطاء مُحتاج إليه في دين الله، وقمع أعدائه، وإظهاره، وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك".

لا يكون هذا العطاء الذي يُعطى للجميع سببًا للبطالة كما يقال، فيركن الناس، ويتركون الأعمال، ويتركون السعي والكد في الحياة، وعمارة الأرض، لا، كل ما كان بلاء الإنسان، وغناء هذا الإنسان، ونفع هذا الإنسان أكثر؛ كان أولى بالعطاء، وكان عطاؤه أكثر من غيره، فنصل إلى أُناس في النهاية يُعطون قدر الكفاية الذي يحصل به استغناءهم عن المسألة فقط، بخلاف هذا الذي فيه نفع عظيم للإسلام.

"الأموال التي بأيدي الظلمة التي لا يمكن ردها إلى أهلها، ودار الأمر بين إقرارها بأيدي الظلمة، أو صرفها في المصالح، كان الثاني هو اللازم، وكان النهي عنه زيادة ظلم".

زيادة ظلم، الذي يقول: لا، لا تأخذوها منهم، الآن هذا وقع في بلاد في بعض بلاد المسلمين، الذي يؤخذ من هؤلاء المردة بعدما مكن الله منهم، هذه الأموال التي عندهم في البنوك في شرق الأرض، وغربها يمكن في أوروبا وغيرها الذي يقول: لا، ما يؤخذ هذا منهم، يقول: شيخ الإسلام: بأن هذا زيادة ظلم، هذه الأموال أخذوها ظُلمًا وعدوانًا من أموال الناس، من أموال المسلمين، فلا تُقر بأيديهم، فهذه الأموال تؤخذ منهم، وأخذها ليس بظلم، لكن الذي يأخذها لا يأخذها لنفسه، وإنما يأخذها من؟ تؤخذ تُصرف في مصالح المسلمين.

"فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله إذا وقع عند العجز عن إزالته بالكُلية، قال: الشُبهات ينبغي صرفها في الأبعد، فالأبعد عن المنفعة، فالأقرب ما دخل الجوف من الطعام، والشراب، ونحوه، ثم ما".

هذه مُهمة جدًا في المكاسب، والأموال التي فيها شُبهة، كيف يُتصرف معها؟ وكذلك الأموال المُحرمة التي يريد الإنسان أن يتخلص منها، كيف يصنع بها؟ كيف يكون التعامل معها؟ يقول: تُصرف في الأبعد عن المنفعة، فالأقرب، يعني: ما هو الترتيب؟ الأقرب ما دخل الجوف، إذًا لا نُعطي هذه في طعام ولا شراب، نُعطي هذه الأموال، إنسانًا يريد أن يتخلص من مال ربا، نعطيه الفقراء، نقول: تأكلون منه، وتشربون، لا، الأقرب ما دخل الجوف من الطعام والشراب، ونحوه، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ما ولي الظاهر من اللباس، يعني: الذي يلي الجسد، فنقول: لا تلبس من هذه الأموال المحرمة، ما نشتري بها ثيابًا لهؤلاء الفقراء إلا للضرورة، ناس في العراء في حرب مشردين، فليس عندنا إلا أموال محرمة، ماذا نصنع؟ فالضرورات تُباح لها المحظورات، ثم ما سُتر مع الانفصال من البناء، يعني: هذا أبعد، ما سُتر لاحظ مع الانفصال من البناء، نضعها في ماذا من البناء؟ حديد في السقف، غير ظاهر، ومُنفصل عن الناس هؤلاء، ليس بمُلابس لهم، فهذا بخلاف الفرش الذي يجلسون عليه، والفُرش التي ينامون عليها، ثم ما عُرض من الركوب، ونحوه، ما عُرض من الركوب.

يقول: فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون، يعني: مثلاً هذه الأموال يمكن نضعها في شحن، شحن مواد إغاثية، شحن كتب، ممكن نجعلها في فواتير كهرباء على الأقل للفقراء هؤلاء، ممكن نجعلها في أشياء من رصف الطرق، إقامة -أعزكم الله- دورة مياه، ونحو ذلك في الأماكن العامة، فالأبعد، ثم الأبعد، وهكذا، هذا الذي ذكره شيخ الإسلام.

مع أنك لو أردت -كما يقال- تُفلسف هذه القضية، فيمكن أن تقول: المال من هذه الجهة على نوعين: محرم لوصفه، ومحرم لكسبه، المحرم لوصفه، مثل: الكلب، والخنزير، والخمر هذه لا تجوز بحال من الأحوال، بأي يد وقعت، بأي سبب كان، النوع الثاني: المُحرم لكسبه، يعني: صفة الكسب، ربا، عقود محرمة، إلى آخره، قمار، معاوضات محرمة، فهذا لكسبه، يكون حرامٌ على من اكتسبه، ومن وصل إليه بطريق مُباح، كالنفقة على العيال، والزوجات، والصدقة... لا يُقبل كصدقة الإعطاء الفقراء، ونحو ذلك، يقول: هذا وصل إليهم بطريق مُباح، كالميراث، فكانوا يرون أن الميراث مثلاً من المكاسب الطيبة، ففي هذه الحال الآن يقول: هذا جائز أن الإنسان يبني منه، يأكل منه، يبني منه مسجدًا، يتصرف فيه كما يتصرف ببقية أمواله، هذا يعني: من جهة النظر الفقهي البحت، لكن إذا جئنا نتحدث عن الورع، فنقول: لا يكون في مطعمه، ومشربه، ولا يكون أيضًا في لباسه، ولا يكون في دوائه، إنما يكون الأبعد، وهكذا، هذا من جهة الورع.

"من خلص مال غيره من مهلكة إن نوى التبرع؛ فأجره على الله، وإلا فله أُجرة مثل عمله، لأنه وإن لم يؤذن فيه لفظًا فقد أُذن فيه شرعًا وعُرفًا".

هذا كما سبق ومضى الكلام على هذه المسألة في مواضع سابقة، وقلنا: هذا الإنسان لو أن له أحد الجيران في الدار أو في الصحراء، وذا عنده غنم، فذهب الحارس، وغاب هذا عنها غيبة طويلة، فقام هذا يشتري لها العلف، ونحو ذلك، واستأجر حارسًا، ووضعه لها، فهذه نفقات، ثم جاء صاحبها، فإن كان الأول نوى التبرع أن يفعل ذلك لوجه الله؛ فلا يُطالب بشيء، وإن كان قصد بذلك العوض، أراد أن يحفظها، ثم بعد ذلك يستعيض من صاحبها؛ فلا إشكال، يأخذ منه.

وهكذا تخليص الأموال، وغير ذلك، لو أنها جاءت بضاعة، وصاحبها ما حضر، وهذا يعرفه، فأرادوا أن يفرضوا عليه رسومًا بسبب الأرض في الميناء مثلاً إذا تأخر، هذا أراد أن يستدرك هذا الموقف، وراح، ودفع لهم ما يحتاجون إليه، وخلص الأوراق، وأخرجها لا تتضاعف، إن كان فعله لوجه الله؛ فلا يُطالب، وإن كان فعله يُريد العوض؛ فإنه من حقه أن يُطالب.

وكما سبق لو أنه جاء في مكان، وأردوا أن يأخذوا منه مكوسًا، أو أن يغتصبوا هذه الأموال، فأعطاهم شيئًا من ماله هو إن كان فعله لوجه الله؛ فلا إشكال، وإن كان فعله ليأخذ العوض؛ فإنه من حقه أن يُطالب به، جاء إلى بيت جاره، أو نحو ذلك، فوجد الماء قد انكسر الأنبوب، ونحو ذلك، ويسيل في الشارع، وجاره مسافر، أو أن بابه كُسر، فجاء، وأصلحه، أو أن جداره صُدم، وانهدم، فجاء، وأقامه، فإن كان فعله لوجه الله؛ فلا يُطالب، وإن كان فعله ليُريد العوض؛ فإنه من حقه أن يُطالب بالعوض، ما يقول له ذاك: أنت فضولي، ومن الذي أمرك بهذا، وأنا لم آمرك، إذًا أنت ما تستحق شيئًا، يقال: وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

"يجب العمل بالمُقتضِي أو بالدليل السالم عن المعارض المقاوم".

العمل بالمُقتضي، يعني: الطالب الدليل المُقتضي السالم عن المعارض والمقاوم، هنا يجب التسليم له الدليل قد توجد معارضات قوية، قد تمنع العمل به أحيانًا على الأقل لدى بعض المُجتهدين، أو بعض الناس، لكن الدليل السالم عن المعُارض يجب التسليم له، مثلاً النساء هل يرين الله في الآخرة أو لا؟ لو قال هذا أحد من الناس قال: هذا يحتاج دليل نصي يخص النساء في ذلك، نقول: عندنا أدلة الرؤية عامة إنكم سترون ربكم[20] فيدخل في ذلك الرجال والنساء، وهو دليل سالم عن المُعارض، ما يوجد ما يُعارضه مما يستثني النساء، فيجب التسليم له، الدليل السالم عن المُعارض، سواء كان في مثل هذه المسألة في الاعتقاد، أو كان ذلك في أمور العبادات، أو كان ذلك في أمور المعاملات، الدليل السالم عن المُعارض، يعني: لو جاء إنسان ليس بدليل نقلي، جاء ببينة، بحُجة، ولا يوجد ما يُعارضها، فإن ذلك يُقبل منه.

"الإنسان إذا كان سائلاً بلسانه، أو مستشرفًا في قلبه إلى ما يُعطاه، فلا ينبغي له أن يقبله إلا حيث تُباح له المسألة، والاستشراف، وأما إذا أتاه من غير مسألة ولا استشراف".

لاحظوا الآن انتبهوا، الحالة الأولى: أن يكون سائلاً بلسانه، أو مُستشرفًا في قلبه إلى ما يُعطاه، يعني: هو يتحرى، وينتظر، قد يتعرض للمُعطي بأي صورة كان، فهذا الاستشراف قد يأتي، قد يُصلي معه، قد يجلس أمامه، قد يُسلم عليه، ينتظر منه أن يُعطيه، وإن لم يسأل، فهنا لا يحل له أن يأخذ إذا أُعطي إلا إذا كانت تُباح له المسألة والاستشراف؛ لأنه إما سائل باللسان، لسان المقال، أو سائل بلسان الحال، فهنا لا يأخذ إلا إذا كانت تُباح له المسألة والاستشراف، وسيأتي الكلام، أو الدليل على هذا.

"وأما إذا أتاه من غير مسألة، ولا إشراف؛ فله أخذه إن كان الذي أعطاه حقه".

إذا كان الذي أعطاه حقه، ما أعطاه شيء ما يستحقه، فهذا الإنسان أُعطي من بيت المال، أو من غيره، يقول: النبي ﷺ لعمر : فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك[21] لاحظ هذا المنع في حال الاستشراف، لماذا؟ قال: وما لا فلا تُتبعه نفسك إذًا يحرم عليه أن يستشرف للعطاء، والمال إذا كان لا يستحق، وكذلك حديث حكيم بن حزام في الصحيح: أنه سأل النبي ﷺ فأعطه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال النبي ﷺ: يا حكيم ما أكثر مسألتك، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس؛ بُورك له فيه، ومن أخذه لاحظ هذا الشاهد: من أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، فكان كالذي يأكل، ولا يشبع[22] إذًا ما يكون بإشراف نفس لا يجوز، هذا إذا كان حقة، كما قلنا: يُعطى الناس من بيت المال، كان حكيم يُعطيه أبو بكر، ولا يأخذ يُعطيه عمر، ولا يأخذ، وبقي حتى مات.

"وإن كان أعطاه ما لا يستحقه عليه، فإن قبله، وكان من غير إشراف له عليه؛ فقد أحسن".

يعني: ليس من العطاء، وإنما أعطاه هكذا هبة من الهبات أعطاه إياه أحد التُجار، أعطاه إياه أحد الأمراء، فهذا إن لم يكن بسؤال، ولا استشراف؛ فلا إشكال، لكن يُراعى في ذلك أنه لا يكون على سبيل الرشوة في حقيقته مثل التاجر الذي يُعطي القاضي، يقول: هذه هدية، هذه السيارة الغالية، أو الرخيصة، هذه هدية لك، أنا أُحبك في الله، هذه السيارة هدية لك، فهي ليست لك، هذه للولد الذي في ثالث متوسط، هي ليست لك، ويكتبها باسم الولد، هذا لا يجوز، وهذه رشوة، أو الهدية التي يكون فيها مِنة، يُعطيه كأنه يكون له يد عليه يشعر أنه، يعني: فيها نوع منة، فهذا له أن يمتنع من ذلك.

"وأما الغني فينبغي له أن يُكافئ بالمال من أسداه إليه".

النبي ﷺ يقول: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه[23] فإذا عجز الإنسان عن مُكافئته فإنه يدعو له، يقول: جزاك الله خيرًا، أو يدعو له حتى يظن أنه قد كافأه، فهذا لا شك أنه من الكمالات، ومن المروءات أن يُكافأ الإنسان من أحسن إليه، لكن لا يكون المُعطي ينتظر أيضًا ذلك المُكافأة، والجزاء على هذه الهبة، أو هذه الهدية، أو هذه العطية، ذكر الشيخ عبد الكريم الخضير قبل يومين حينما جاء: أن الشيخ عبد الله الجبرين -رحمه الله- يقول: لا يمكن أن يُعطيه أحد شيئًا إلا ويقابل ذلك بعطاء، يقول: حتى على الطعام، إذا قدمت له مثلاً لبنًا أو عصيرًا، أو نحو ذلك، وقربته إليه، ووضعته عنده، أخذ... أي شيء يأخذ شيء آخر، ويضعه أمامك يُعطيك إياه من صنع إليكم معروفًا فكافئوه.

  1. أخرجه ابن المقرئ في معجمه، برقم (629)، وصححه الألباني في مختصر السلسلة الصحيحة، برقم (939).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، برقم (19).
  3. انظر: تفسير الطبري (5/592).
  4. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، كتاب باب، برقم (6835)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1427).
  5. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (35/36).
  6. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (3/91).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (56).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (55).
  9. انظر: نشر البنود على مراقي السعود، للشنقيطي (2/265).
  10. انظر: المصدر السابق (2/266).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
  12. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الرحلة في المسألة النازلة، وتعليم أهله، برقم (88).
  13. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الغصب، باب من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا، برقم (11545)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7656).
  14. أخرجه أبو داود في سننه، أبواب النذور والأيمان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم (1535)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (2561).
  15. انظر: تفسير القرطبي (3/134).
  16. انظر: أضواء البيان، للشنقيطي (6/196 - 199).
  17. انظر: المغني، لابن قدامة (7/413، 414).
  18. انظر: تفسير ابن كثير (8/73).
  19. انظر: الخراج، لأبي يوسف (34، 57).
  20. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، برقم (633).
  21. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب رزق الحكام والعاملين عليها، برقم (7163)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، برقم (1045).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، برقم (1472)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1035).
  23. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله، برقم (1672)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1943).

مواد ذات صلة