الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
37- ومن كتاب الاختيارات. القواعد 494-507‏
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٣٤
التحميل: 2632
مرات الإستماع: 2199

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"إذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، مُفكرًا في العلم؛ فقد وضع موضعه، وحينئذ يكون له، وجهان: وجه مُقبل على الحق، وهذه الصفة وجود وثبوت، ووجه مُعرض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له: زكي، وسليم، وطاهر؛ لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر والخبث والدغل، وهذه الصفة: عدم ونفي، وعكسه إذا انصرف إلى الباطل؛ فله وجهان: وجه الوجود أنه مُنصرف إلى الباطل مشغول به، ووجه العدم أنه مُعرض عن الحق، غير قابل له، ثم إن الباطل نوعان: أحدهما يَشغل عن الحق، ولا يُعانده، مثل الأفكار والهموم التي من علائق الدنيا وشهوات النفس، والثانية تُعاند الحق وتصد عنه، مثل: الآراء الباطلة، والأهواء المردية؛ من الكفر، والنفاق، والبدع، وشِبه ذلك".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام الذي سمعتم هو من نفائس هذا الإمام -رحمه الله-، وفيه من المعاني العظيمة ما لا يخفى، وهو يُقرر في هذا الكلام بأن القلب له عمل ووجِهة، فالقلب خُلق من أجل أن يكون مُقبلاً على الله متوجهًا إليه بكليته، معمورًا بطاعته، ورأس ذلك الإيمان والعمل الصالح؛ كالخوف، والرجاء، والمحبة، والإنابة، ونحو ذلك من الأوصاف، فيكون القلب معمورًا بالإيمان، وتكون هذه الأعمال القلبية قارة فيه، هذا العمل الوجودي الإيجابي، وأما الوجهة: فيكون متوجهًا إلى فاطره، وخالقه، وما يحتف بذلك، ويندرج تحته من إرادة ما عند الله والدار الآخرة، وهذا الأمر لا يتأتى إلا بترك أضداده، وقد مضى الكلام على هذا في مُناسبات شتى، ومضى الكلام على سبيل الاستقلال في مجلس عن تزكية النفس: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس:9] أليس كذلك؟

فهذه التزكية تكلم عليها شيخ الإسلام -رحمه الله- بمثل هذا الكلام في مواضع، وكذلك الحافظ ابن القيم، وحاصل ما يذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في مُجمل كلامه في هذه التزكية: أن هذه المادة في أصلها الزكاء تدل على شيئين: الأول الذي هو النماء، والثاني الطهارة، فهذا النماء تقول: زكى الزرع، يعني: نما، وذلك بعمارة القلب بالإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وهذا مقصود لذاته، القلب فُطر على هذا، ورُكب تركيبًا خاصًا، لا يصلح إلا لهذا، ولا يستقيم حاله وأمره إلا على هذا الأصل وهذه القاعدة، فهذا هو العمل الإيجابي الوجودي المقصود لذاته، وهذا لا يتحقق إلا بتطهير المحل حتى يصير قابلاً، وهو المعنى الثاني من التزكية الذي هو التطهير، مثل الأرض التي تُزرع لا بد فيها من هذا وهذا، لا بد من إزالة الشوائب، والطفيليات، النباتات الضارة؛ فيحصل لها الزكاء.

والأمر الثاني: وهو القيام على هذا الزرع بما يحصل به نماؤه؛ من السقي والتعاهد، وما إلى ذلك، فيحصل الزكاء بالأعمال الصالحة والإيمان، وأيضًا التخلي، لكنه يُقرر أن التخلي ليس بمقصود لذاته، وإنما هو مقصود لغيره؛ من أجل ألا يؤثر على زرع الإيمان، ولذلك يُقرر -رحمه الله- بأنه ليس من الطريق الصحيح في التعليم، والتربية، والأمر والنهي أن يقال للناس، يعني: أن نُركز على الجانب الآخر الذي هو النهي، فنقول: لا تفعل كذا، لا تفعل كذا، لا تفعل كذا، لا تقل كذا، هذا بدعة، هذا حرام، هذا مكروه، يقول: النفوس ما خُلقت للترك، وإنما الترك مقصود لغيره، لا بد مع هذا من عمارتها بالإيمان، لا بد أن نقول له: افعل كذا، وافعل كذا، وافعل كذا، هو خُلق من أجل هذا، تكون القلوب عامرة بالإيمان، فالتعامل مع الناس بالطريق الأول أن يُقال فقط: هذا بدعة، هذا حرام، هذا لا يجوز، هذا مكروه، هذ منهي، هذا كذا، دائمًا يكون ديدن الإنسان في كلامه ومجالسه ودعوته في جانب التحذير، ثم ماذا؟ تبقى القلوب مُقفرة خاوية، وإنما تعرف فقط.

طيب هذا مقصود لغيره، فأين المقصود لذاته؟ فهذا معنى كبير، يُقرره شيخ الإسلام في مواضع من كُتبه، هذا في العمل المقصود لذاته، طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ الإيمان، والوجِهة أن يتوجه إلى فاطره وربه وخالقه ومعبوده وحده دون ما سواه، فلا يلتفت هنا وهناك، هذا مُقتضى، أو هذا مضمون، أو هذا معنى هذا الكلام، ومن ثَم يُقال لهذا القلب: زكي، وسليم، وطاهر.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] الآيات التي سمعتم في الصلاة، أفلح معنى كبير، زكاها بماذا؟ بالمعنيين: التطهير والنماء، فنحتاج هذا الذي يسمونه في علم التربية التحلية والتخلية، هو هذه حقيقة التزكية، ولذلك فإن المُتقدمين يسمون التربية بالتزكية، تزكية النفوس، ويقال له: زكي، وسليم، وطاهر إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89] يدخل فيه كما يقول: الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وأيضًا شيخ الإسلام في مواضع القلب السليم هو الخالي من الشرك، والغِش، والحقد، والحسد[1] هو سالم من كل مُخالفة أو معارضة كما سيأتي في القسم الثاني في القلب المنصرف إلى الباطل، فمن أراد أن يُحقق هذه التزكية على الوجه المطلوب؛ فعليه أن يُراعي هذا، وهذا.

وأنا كثيرًا ما أتأمل هذه المعاني، وأتمعن بها طويلاً ليلاً ونهارًا، وأنظر في تقصيرنا في المقابل، وإهمالنا، وتضييعنا، وتفريطنا، أجد أشياء عجيبة، والبارحة واليوم كنت أتأمل لما فُجعنا بأحد الإخوان، توفي -رحمه الله- أخونا أبو أنس السواط، كنت أتأمل في حاله، أعرفه منذ ثلاثة وثلاثين سنة ما تغير، أحسبه كذلك، لم يُبدل، ولم يُغير، هذا هو، صاحب سُنة، ورجل منذ عرفته، وأظن الجميع يُجمعون على هذا من عرفوه يجمع أوصافًا يتفق عليها الجميع، سلامة الصدر تجاه المُسلمين، تواضع مع الجميع، الصغير والكبير، اللين والرفق، ما رأيته يومًا بغير هذه الأوصاف، مع الجميع لين الجانب لطيف، نحن نُقصر كثيرًا في هذه الأشياء، والإنسان يُجاهد نفسه دائمًا، ومع ذلك ما يُدرك، ولربما يُعلل الإنسان لنفسه كثرة الانشغال والانهماك، ولا يُدرك كثيرًا من الأعمال في اليوم والليلة، لو كان اليوم، يعني: ثمان وأربعين ساعة ما أدرك الأعمال التي يريد أن يقوم بها، ولكن هذا لا يُبرر، وهذا توفيق من الله ، فمن الناس من يكون ذلك فطرة وسجية فيه، فتأمل مثل حال هذا قل: سبحان الله، يعني لما سئل الإمام أحمد عن بشر، وقالوا له: هل هو من أهل العلم، من العلماء؟ قال: وهل يُراد العلم إلا لما عليه بشر، فكنت أقول في نفسي: وهل يُراد العلم إلا لما عليه، هذا الأخ -رحمه الله-، هل يُراد العلم إلا لهذا.

وأقل الأحوال كف الأذى عن الناس، أين هؤلاء الذين لهم مناقير من حديد، يقعون في أعراض الناس، ويكتبون عبر هذه الوسائط والوسائل، فلا يكون لأحد حُرمة، لا لعالم، ولا لطالب علم، ولا لفاضل، ولا لداعية، ولا لصاحب سابقة؛ لا يسلم أحد، فأقول: إن لم يستطع الإنسان الوصول إلى هذه المقامات العالية؛ فلا أقل من أن يكف الأذى، فهي له صدقة، فهذه على كل حال أحيانًا تكون مواهب من الله من قبيل الفطرة، وأحيانًا تكون هذه الأشياء بفضل الله بعد مزاولات ومُجاهدات تطول أو تقصر.

فعلى كل حال هذا القلب السليم، والزكي، والطاهر؛ لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر والخُبث والدغل، هذه صفة عدم ونفي.

وعكسه إذا انصرف إلى الباطل، فله وجهان: وجه وجودي، ينصرف إلى الباطل، ينشغل به، يعني: قلب متعلق بغير الله، متعلق بمعبود، بصنم، متعلق بمرأة، متعلق بمال تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة[2] هذا الاشتغال هو اشتغال بالباطل، ووجه العدم أنه مُعرض عن الحق غير قابل له، يعني: هو إذا انشغل بالباطل؛ كان مُعرضًا عن الحق بالضرورة، ولابد، فإن اشتغاله بالباطل يصرفه عن الحق، ولذلك فإن من المُفسرين، وهو اختيار أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] يقول: إن اشتغاله بالصلاة اشتغال عن الفحشاء والمنكر، يُفسرها بهذا المعنى، مع أن هذا المعنى فيه نظر، يقول: معنى الآية أنه حينما يكون مُقبلاً على الصلاة مشغولاً بها، فاشتغاله بها اشتغال عن الفحشاء والمنكر، وهو في أثناء الصلاة.

على كل حال، لا شك أن اشتغاله بالمعروف اشتغال يكون اشتغالاً عن الباطل، كما أن اشتغاله بالباطل يكون انصرافًا عن المعروف، وهذا أمر لا إشكال فيه؛ ولهذا قال السلف بمن وقع ببدعة، واُبتلي ببدعة، فإن ذلك يكون على حساب سُنة، من هذا الباب، إذا أقبل على الباطل؛ انصرف عن الحق.

قال: ووجه العدم أنه مُعرض عن الحق، ثم إن الباطل نوعان، يعني: كل ما يُطلق عليه باطل، ولو لم يكن من قبيل المُحرم، يعني: الباطل النوع الأول الذي لا يُضاد الحق مثل ماذا؟ الأحزان، والهموم، والقلق، هذا الحُزن، وهذا الهم، وهذا القلق، أو الاشتغال باللهو المُباح، وغلبة ذلك عليه، هذا ليس من اللهو المُحرم، لكنه يكون على حساب الاشتغال بالحق.

ولهذا يقول: شيخ الإسلام -رحمه الله- في الحُزن مثلاً في بعض المواضع يقول: الحُزن ليس مطلوبًا، ويقول: إلا إن كان ذلك من جراء الآخرة، الحُزن يُطلق أحيانًا على شيء مُستقبل، ويُطلق في الغالب المشهور على أمر فائت، فشيخ الإسلام يقول: إن كان ذلك للآخرة، فهذا لا إشكال فيه، وهذا صحيح، أما على الأمور الفائتة، فهذا لا يُجدي، ولا يرد سليبًا، ولا فقيدًا[3] ولهذا يقول: إن الحُزن إذا تتابع على القلب أضعفه، أضعف قواه، وأفسده فلم يعد محلاً صالحًا لعبادة الله، وطاعته، والنهوض بالمطالب الدينية والدنيوية.

إنسان حزين كئيب ما يعمل شيء، والنفس هذه قد تُحلق عاليًا؛ فينشط البدن، ولو كان ضعيفًا، فإذا ضعفت النفس؛ ضعُف البدن، وانحطت قواه، ولو كان من أقوى الناس في بناء هذا البدن وكماله وعافيته، فالمقصود أيها الأحبة: أن مثل هذا النوع من الباطل هو يشغل عن الحق، ولكنه لا يُضاده لا يُعانده، لماذا؟ لأن القلب وعاء، فإذا مُلء بهذه الأمور؛ فعندئذ يكون منصرفًا عن الحق.

الثانية: تعاند الحق، وتصد عنه، وهذه هي الأخطر، الأفكار المُنحرفة، إنسان يؤمن بالديمقراطية، ويُطالب بها، ويدعوا إليها، هذا على حساب ماذا؟ على حساب الشريعة، إنسان يؤمن بالأفكار الليبرالية كما يُقال، على حساب ماذا؟ على حساب أصل دين الإسلام، وقل مثل ذلك في أنواع الآراء الباطلة التي تصد عن الحق، وتُعارضه، وتُضاده، وباب ذلك هو الشُبهات، سواء كانت توُصل إلى البدع أو إلى الكفر أو إلى النفاق.

"السنة في أسباب الخير والشر أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة من الأعمال الصالحة ما يجلب الله له به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر".

السنة في أسباب الخير والشر، هذا ذكره في سياق الرد على من يدعي أن ذلك مثلاً مثل الكسوف والخسوف أن ذلك يحصل لموت أحد أو لحياته، أو كما يزعم بعض أهل الكلام من أن هذه القضايا تتأثر وتنتج عن أمور أخرى ليس لها حقيقة، أو أنها مؤثرة في أشياء أيضًا دون النظر إلى ما قرره الشارع في ذلك، فعندنا مثلاً السنة في أسباب الخير والشر أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة من الأعمال الصالحة ما يجلب الله به له الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر.

فنحن إذا صار الخسوف، أو ما يسميه بعض أهل العلم من الفقهاء بالآيات: كالزلازل، والفيضانات، والأعاصير، فبعض أهل العلم يرى أن صلاة الخسوف هذه أو الكسوف أنها تُصلى عند الآيات، يعني: الآيات التي يخوف الله بها عباده، ولهذا بعض الصحابة وبعض السلف صلوا -لما وقعت زلزلة- صلوا صلاة الكسوف أو الخسوف، فكانوا يرون أنها لا تنحصر في الآيات الفلكية من خسوف أو كسوف، وإنما يرون أن ذلك يكون فيها وفي غيرها مما يخوف الله به عباده، ففي الخسوف مثلاً أو الكسوف يُشرع الصدقة، العتق، الدعاء، والتضرع إلى الله ، إذا هبت الريح ماذا كان يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-.

وهكذا إذا رأى الرعد أو البرق، فإذا رأى الأشياء التي يتخوف من وقوع الشر بإذن الله بسببها فإنه يُشرع له من الأعمال الصالحة ما يُدفع به الشر بمثل هذا المقام، لا أن هذا تؤثر في نفسها -كما يزعم بعض الناس- أن لها تأثيرات أرضية، يجعلون ذلك ليس مُرتبطًا بأمر الله -تبارك وتعالى- وقضائه وقدره، وبعض أهل الكلام يقولون مثل هذا، الذين عندهم انحرافات في باب القدر، فهذا في أسباب الخير والشر، هذا هو المشروع، أما أهل الجاهلية يقولون: هذا حصل لموت فلان، أو لولادة عظيم من العظماء، أو نحو ذلك، والجواب: ليس كذلك، وإنما يكون العبد يعمل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به.

"كل ما أمر الله به راجع إلى العدل، وما نهى عنه راجع إلى الظُلم".

شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر أن قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القُدسي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا[4] يقول: هذه العبارة، وجعلتكم بينكم محرمًا، أنها تجمع الدين كله، كل الدين يرجع إلى هذه الجملة، فهو يقول: إن كل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، فهو راجع إلى الظلم، وهذا صحيح، إذا عرفت أن الظلم يكون بين العبد وربه، وبين العبد ونفسه، وبين العبد والناس، فإن كل أنواع كل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه فإنه يكون من الظلم، ولهذا قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فهذا في الصلة بين العبد وربه -تبارك وتعالى-، وهكذا مع النفس، وهكذا مع الناس، وأن كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فهو راجع إلى العدل، وأول ذلك التوحيد، فهو أكمل العدل، فإن الشكر على النِعم إنما يتوجه به إلى المُنعم، وصرف ذلك إلى غيره هو غاية النُكران، والجحد، والظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

فالتوحيد هو غاية العدل، وهو أكمل العدل، وكذلك أيضًا الطاعات ومحاب الرب -تبارك وتعالى-، وهكذا أيضًا العدل والإنصاف أن يُنصف الإنسان من نفسه، وأن يعدل مع إخوانه، وما أشبه ذلك، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنه أرسل الرُسل وأنزل الكُتب بالميزان، وأن الله أنزل الكتاب بالحق والميزان، وأنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فكل هذ من أجل إقامة العدل، وما شرّعه الله من العبادات والمعاملات كل ذلك راجع إلى تحقيق هذا العدل، وما لا يتأتى بالكتاب والميزان من تحقيق العدل فإنه يُحقق بما ذكره الله بعده وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25] في البداية قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] فالذي كما يقول: أهل العلم لا تُقيمه الكتب؛ تقيمه الكتائب، الذي لا ينجع معه الكتاب؛ فإنه لا بد له من الحديد؛ حتى يستقيم كما ينبغي وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25] فذكر هذا وهذا.

"الذي يُعين على حضور القلب في الصلاة شيئان: قوة المُقتضي، وضعف الشاغل، أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القرآن والذكر، والدعاء، ويستحضر أنه مُناجٍ لله كأنه يراه، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة".

هذا الكلام هو في غاية الأهمية، نحن نحتاج إليها جميعًا أيها الأحبة!؛ لأننا نُعاني من انصراف القلب في الصلاة، والانشغال عنها، وكثرة الوساوس، فشيخ الإسلام -رحمه الله- سئل عن هذه القضية، عن الوسوسة في الصلاة، والانشغال عنها، وعدم حضور القلب، وكيف تُدفع هذه الوساوس، فذكر هذا الذي سمعتم، وغيره، وهو قوة المُقتضي، وضعف الشاغل، هذ الذي يعين على حضور القلب، قوة المقتضي، المقتضي، يعني: الطالب، الدافع، الذي نسميه الدوافع الآن، يعني: التي تقتضي حضور القلب، الأمور المُقتضية لحضور القلب ما هي؟ أن يستحضر أنه قائم بين يدي الله ، أنه يُناجيه، أنه واقف على الصراط، أنه واقف بين الجنة والنار، أن يتدبر معاني هذه الألفاظ، الله أكبر، أكبر من كل شيء تشتغل به وتفكر فيه، أكبر من تفكير الإنسان في أولاده أو في سيارته أو في ماله أو في أعماله وأشغاله، الله أكبر هو من البداية ينخلع من كل ذلك، الله أكبر.

ثم يبدأ بدعاء الاستفتاح، ويبدأ بقراءة الفاتحة، ويُناجي ربه، يُثني عليه، ثم يتوجه بالخطاب إليه، يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا [الفاتحة:5-6] كيف يكون شارد القلب؟! ثم يستحضر هذه الهيئات، وهو راكع، هذه الهيئة في الركوع، كيف يكون هذا الخضوع لله ثم أعظم من ذلك السجود، وفي كل مرة يقول: الله أكبر، فكيف يخطر في باله تلك العلائق والصوارف والشواغل، فإذا سجد نحن ألفنا هذا، لكن لو لم نرَ هذا السجود أصلاً، أو رأينا أحد يسجد لغير الله لاستعظمنا ذلك، أعظم صورة من صور الخضوع أن يوضع أجل الأشياء، وأشرف الأشياء على الأرض، وهو الوجه، الجبهة، يضعها على الأرض، التي هي أعلى شيء في الإنسان، وأشرف شيء في الإنسان هو وجهه، يضعه على الأرض، ثم هو أيضًا يقول: سبحان ربي الأعلى، فمثل هذه الكلمات، مثل هذه المعاني، مثل هذه الهيئات إذا استحضرها الإنسان؛ كان ذلك دافعًا له لحضور القلب، وضعف الشواغل والصوارف، ولهذا يقال للإنسان إذا أراد أن يأتي للصلاة، ينبغي أنه لا صلاة لمن هو بحضرة طعام، ولا من يدافعه الأخبثان، فيأتيها وهو في حال من التهيؤ، والتنزه، والتطهر، وما إلى ذلك.

شيخ الإسلام -رحمه الله- له كلام كثير في هذه القضية، لكن أنا سأنتقي بعض العبارات المفيدة في هذا الجانب؛ لشدة الحاجة إليه، في نفس الموضع، نفس الفتوى، يقول: فيمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة، ويحصل له الوسواس تارة، فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة؟ وهل تكون تلك الوساوس مُبطلة أو مُنقصة لها أم لا؟ وفي قول عمر: إني لأُجهز جيشي، وأنا في الصلاة[5].

هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أم لا، جمعية القلب يعني كيف عمر وبهذه المنزلة يجهز الجيش وهو في الصلاة، هل هذا يشغله عنها؟ هل هذ تفكير وانصراف عن أمور أخرى خارج الصلاة؟ كيف يجتمع هذا مع الخشوع المطلوب؟ وهذا أمير المؤمنين الفاروق المُحدث يقع له مثل ذلك، فكان في مضامين كلامه الطويل هذه مُقتطفات فقط، وراجعوا أنتم الكلام بتفاصيله، يقول: هذا باب واسع فإنما في القلب من معرفة الله، ومحبته، وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه، ورجاءه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيمًا، ويقوى ذلك كلما ازداد العبد تدبرًا للقرآن، وفهمًا ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته، واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومُستغاثه، أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله -تبارك وتعالى-.

إذا كانت هذه المعاني حية في القلب لم ينصرف إلى شيء آخر، ولا يشتغل به، لكن القلوب الفارغة هي التي تنتاشها الخواطر والوساوس من هنا وهناك، فيذهب الإنسان، وينصرف من صلاته ولم يدرِ ما صلى، ولا ما ركع وقام، ولا ما قرأ، ولذلك أحيانًا الإنسان المسبوق أحيانًا لا يدري هو مسبوق بثلاث أو باثنتين أو بواحدة، ينظر إلى من بجانبه، ويُقلده، ويُحاكيه، ولو سئل، قيل له: كم فاتنا من الركعات؟ قال: ما أعرف، ما يدري، هو يقوم ويجلس، ويتبع صوت الإمام، فإذا جلس في التشهد إن كان الإمام مما يمد صوته في الجلوس للتشهد؛ جلس، وإن صلى خلف إمام آخر لا يمد صوته؛ قام مُباشرة؛ لأنه قد رُكب هذا التركيب، وجرى على هذا اللحن.

يقول: وهذا في كل عبد بحسبه -يتكلم عن المُعارض- فإن كثرة الوساوس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها.

يقول: والوساوس إما من قبيل الحُب، من أن يخطر بالقلب ما قد كان، أو من قبيل الطلب؛ وهو أن يخطر في القلب ما يُريد أن يفعله، ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق، فيتألم لها قلب المؤمن تألمًا شديدًا، كما قال الصحابة : ((يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء))[6] الحديث، فلاحظ أن هذا الآن، هذه الخواطر، تزعجه وتقلقه، وهي من الشيطان، يقول: وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه، لاحظوا هذا المعنى المُهم، بعض الناس يقول: أنا ما كنت كذلك، ويقول له بعض الناس: ما كنت كذلك قبل أن تتحول إلى هذه الحال، يعني: قبل أن تكون مُتدينًا صالحًا، ما كانت هذه الوساوس عندك، فلما أقبلت على الله؛ اجتمعت عليك هذه الوساوس، وهاجت من كل ناحية.

فيقال: ليس هذا هو الدين، وليس هذا هو الإيمان، ولكن هذا هو الشيطان الذي حصل له القلق والانزعاج، مثل الذي يكمن فيه شيطان، فإذا قُرئ عليه؛ صار مثل مخاض الولادة، صار له من الأحوال والانفعال والصرع، وما إلى ذلك ما لم يكن قبل هذا، فهل يُترك؟

الجواب: لا، فالشاهد هنا يقول: كلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه؛ جاء من الوساوس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب، يقول: وما يروى عن عمر بن الخطاب من قوله: إني لأُجهز جيشي، وأنا في الصلاة، يقول: فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين، فهو أمير الجهاد، فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المُصلي الذي يُصلي صلاة الخوف حال مُعاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد، فعليه يؤدي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

يقول: ومعلوم أن طُمأنينة القلب حال الجهاد، لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قُدر أنه نقص الصلاة شيء لأجل الجهاد؛ لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته، ولهذا تُخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن، يقول: ومع هذا فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد؛ كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد ضرب الله حق على لسانه وقلبه، وهو المُحدث المُكلم المُلهم، فلا يُنكر لمثله أن يكون له مع تدبره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة النبي ﷺ حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف، وفي الأفعال الظاهرة، يعني: تُقصر صلاة الخوف، فإذا كان الله قد عفى حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة.

يقول: وبالجُملة فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته؛ لتفكره فيما ليس بواجب -هذه العبارة فيها شيء- الظاهر: ليس كتفكره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يتضيق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبر الجيش إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة، والواردات عليه كثيرة، ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في صلاته ما لا يذكره خارج الصلاة، إلى آخر ما قال، كلام في غاية الأهمية.

مداخلة: ما يُضاف إليه يا شيخ مثل هؤلاء الأئمة عوارض عليهم أكثر ...؟

هو ذكر هذا، قال: الواردات والعوارض على هؤلاء كل بحسب مرتبته.

"وأما زوال المعارض، فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، والوسواس يعرض".

طبعًا كل هذا الكلام تابع للذي قلبه، زوال المُعارض، كيف يُزيل بالأمور كما سبق لا يأتي الصلاة وهو في حال يُدافع أمورًا مشوشة، ويكون أيضًا بالاستعاذة، يتفل على يساره، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا دفع المُعارض بمثل هذه الأمور.

على كل حال هي عقبة، هؤلاء الذين يبتلون بهذه الوساوس القوية إذا استقاموا، وأقبلوا على الله هي عقبة، فإذا صبر، وجاوزها، وجاهد نفسه، ولم يلتفت إلى خواطر الشيطان وصوارفه؛ فإنه يُفضي به بعد ذلك بإذن الله إلى روح واسترواح، ثم بعد ذلك إذا استمر في المُجاهدة؛ تتحول الصلاة إلى لذة لا تُعادلها لذة، ولهذا قال النبي ﷺ: وجُعلت قُرة عيني في الصلاة[7] وكان إذا حزبه أمر قال: يا بلال! أقم الصلاة أرحنا بها[8] وكذلك أيضًا كما يقول: بعض السلف، كمحمد بن المُنكدر: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتلذذت بها عشرين سنة[9] فيحتاج إلى دوام المُجاهدة.

لكن الذي يغلب علينا هو الغفلة، يعني: نحن لا نكون في غالب أحوالنا في مُجاهدة، في مثل هذا المقام -الصلاة يعني- فتجد الحال الآن، مثل الحال العام الماضي، قبل العام، قبل عشر سنوات، نفس التقصير، ونفس برود الهمة، لكن إذا كان العبد يزاول أمرًا فإن كثرة المزاولات تورث الملكات -كما قيل- فيحتاج إلى صبر، ودوام المُجاهدة، فيحصل له مطلوبه بإذن الله -تبارك وتعالى- ويصل إلى مُبتغاه، لكنه لا ينقطع، ولا ييأس، ولعلي ذكرت في بعض المُناسبات: أن من الناس كان يُخبر عن نفسه أنه ترك الصلاة شهرًا كاملاً؛ بسبب الوساوس، وبعضهم تركها يُصلي سنة كاملة لا يغتسل للجنابة من كثرة الاغتسال، يغتسل كل لحظة، وبعض الناس، يعني: كل ما مر بجانبه إنسان، امرأة كل ما مر بجانبها إنسان تظن أنها قد وقع منها ما يوجب الغُسل، هذا غير معقول في مجاري العادات، ولو كان موجودًا؛ لكان هذا الأمر خارجًا عن المعهود والمُعتاد، وفيه مشقة وعُسر لا يمكن أن الشارع يأتي بمثل هذا في تكرار الغُسل بهذه الطريقة، ومن ثَم يقال: فهذا عفو، حتى لو حصل، كل ما مر الإنسان في الحرم حصلت جنابة تشعر هكذا أنها تُنزل، هذا لا يُمكن -نسأل الله العافية-.

"والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله بذكر، أو غيره، لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت، ويصبر، ويُلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بمُلازمة ذلك ينصرف عنه الشيطان".

وهذا شيء مُشاهد، أولئك الذين يُقال لهم: اثبت، واستمر، ولا تنقطع، جميع هؤلاء ممن فعلاً صبر وثبت؛ انتهى الأمر إلى حال من الراحة من هذه الأمور المُقلقة بهذه الصورة غير المعهودة، لكن من الناس من تكون إرادته ضعيفة، واستجابته لهذه الخواطر والوساوس قوية، وقد يكون مسلوب الإرادة أصلاً، مثل هذا تُلقنه المرة بعد المرة، ثم يعود إلى حاله الأولى، فيحتاج العبد إلى استعانة بالله وفقه في مثل هذا الباب، ويحتاج معه إلى أمر ثالث، وهو قوة الإرادة، وباب الفقه، وما يُقال لمثل هؤلاء الناس في مثل هذا المقام في مسائل الطاهرة مثلاً هي الأشياء المعروفة إذا كثُرت الشكوك، الشكوك إذا كثُرت طُرحت، هذه قاعدة، فلا يُلتفت إليها.

كذلك أيضًا لا يزول اليقين بالشك، فكون أنه عنده نسبة احتمال قوي، أو نحو ذلك، مثل هذا يقال له: اليقين لا يزول بالشك، اليقين أقوى من الشك، فكيف تقطع الصلاة، وتخرج، والنبي ﷺ قال: فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا[10].

من القواعد أيضًا: أن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر، فهذا يقول: أنا صليت، ويُسلم، ثم بعد ذلك يقول: لا أدري أنا سجدت في الركعة الثانية، أو ما سجدت، سجدت واحدة، أو سجدت اثنتين، نقول له: الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر، وهكذا رجع من الحج قال: أنا الآن بدأت أشك، أنا طفت سبعة أشواط، أو ستة أشواط، رميت الجمار بسبع، أو بست، نقول: الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر، هذه قواعد، وهناك أشياء تندرج تحتها أيضًا، تُقال لهؤلاء في باب الفقه في الدين، يعني: ما يحتاجون إليه من التفقه، وهناك أمر يتصل بالإرادة، وهناك أمر آخر يتعلق بالاستعانة بالله فإنه لا يكون شيء إلا بإعانة الله -تبارك وتعالى-.

"التحريم يدور مع المضار وجودًا وعدمًا".

التحريم يدور مع المضار وجودًا وعدمًا، هو ذكر قبل هذا أصلاً، وهو أن جميع الأعيان الموجودة الأصل أنها حلال مُطلقًا للآدميين، أنها حلال، وذكر لهذا أدلة كثيرة، ذكر نحو عشرة أدلة، الأعيان الموجودة، مثلاً تجد الأصوليين يقولون: حكم الأعيان المُنتفع بها قبل ورود الشرع، الأصل أنها حلال، ودل على ذلك القرآن، وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] فالأصل في هذه الأشياء أن الله أباحها، وأحلها إلا ما ورد الدليل بتحريمه، وهناك أشياء ما ورد الدليل بتحريمها، ما حكمها؟ ما حكم هذه الأشياء؟ يقال: الأصل فيها أنها حلال؛ لأن الله أباح لنا ما في الأرض جميعًا؛ لكن لو ثبت الضرر هو لا يخلو هذه الأشياء عمومًا من نسبة من الضرر، ولهذا كما يقول: الشاطبي لا توجد في الدنيا لذة خالصة، ومصلحة كاملة، هذا في الجنة، ولذلك مثلاً حينما تنظر إلى اللحوم فيها نسبة من الضرر، لكن النفع أكبر، الفواكه فيها نسبة، الأسماك فيها نسبة من الضرر، ولكن النفع أكبر، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء كما نُشاهد، لكن ما هو المُعتبر؟

المُعتبر هو الغالب، هل الضرر هو الغالب، أو النفع هو الغالب؟ فإذا وجد ضرر غالب في بعض الأعيان، فإنه يكون حرامًا، ولو لم يرد الدليل بتحريمه، بأي اعتبار؟ لا ضرر ولا ضرار، هذه قاعدة كبيرة من القواعد الخمس الكُبرى، ولها أدلة، فالله -تبارك وتعالى- يُحل الطيبات ويُحرم علينا الخبائث، فهذه الأشياء التي يغلب عليها الضرر مُحرمة، ولو لم يرد فيها النص، سواء كانت نباتات، أو كانت من قبيل اللحوم، أو نحو ذلك، لم يرد فيها دليل، فيقال: هذا حلال وهذا حرام بهذا الاعتبار.

وهناك قسم ثالث ذكره أهل العلم على خلاف بينهم، وهي مسألة المُستخبثات، يعني: أشياء لا يُعلم هل الضرر فيها غالب، أو ليس بغالب، لكنها مُستخبثة، مُستخبثة عند من؟ عند العرب، قالوا: العرب هم أسلم الناس ذوقًا، فما كان مُستخبثًا عندهم، والمقصود في جُملتهم، وليس عند بعض الأفراد، وإلا فإن الأفراد يتفاوتون، الأعرابي الذي يقول الأصمعي لما سئل قال: في الصحراء ماذا تأكلون؟ قال: نأكل كل ما هب، ودب، ودرج إلا أُم حُبين -أُم حُبين مثل الوزغ- إلا أُم حبين، فقال: لتهني أُم حُبين العافية[11] يعني: أنها سلمت منكم، يأكلون كل شيء، وكما يقول بعض الناس: كل شيء أصغر منك كله، غير صحيح، هذه قواعد فاسدة، فالمقصود أن بعض الأشياء قد لا يتبين هل الضرر فيها أكثر أو لا، فبعض أهل العلم يعتبر هذا المعنى ما استخبثته العرب، ولهذا تكلموا في أكل الحشرات، وأطالوا فيها، وإذا أردت كتابًا من أقرب الكتب في هذا انظر ما ذكره الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان، ذكر أنواعًا من هذه الأشياء مُفصلة، وكلام أهل العلم فيها، فالمقصود أن الأشياء التي يثبت أنها تضر من الأدوية، يعني: الضرر أغلب.

ولهذا العلماء يقيدون بهذا ما حكم استعمال الدواء الفلاني؟ وليس بمُحرم في ذاته، يعني: ليس هو من مادة محُرمة كالخمر أو الخنزير، أو نحو ذلك، مُركبات كيميائية ونحو هذا، فيقال: إن كان ذلك لا يتسبب عن ضرر، يعني: غالب؛ فإنه يجوز، وإلا كل الأدوية فيها أضرار في الأصل، فهذه الأدوية المُركبة عند الأطباء لا تخلو، لذلك إذا قرأت الورقة تجد يذكرون الآثار الجانبية، الأطباء يُقررون هذا المعنى، أن هذه الأدوية في الأصل هي سموم تدخل البدن، بخلاف مثل العسل، وهذه الأشياء التي هي من قبيل المطعومات، الطيبات، ونحو هذا، وإلا فالمُعتبر حتى في الأدوية المُركبة من الأعشاب، ونحو ذلك، بعض الناس يظن أنها ما فيها ضرر، يقول: هذا أعشاب، وهذا غير صحيح من هذه الأعشاب ما تكون مُضرة غاية الضرر، فالشيء الذي يغلب فيه الضرر يُقال: يحرم، والذي يغلب فيه النفع الأصل أنه مُباح، ولكل حالة لبوس، يعني: قد يغلب النفع بكل عام، لكن بالنسبة للمُعين هذا يغلب الضرر؛ فيكون حرامًا عليه.

"جميع الأقوال، والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه اعتبار في الشرع أصلاً".

هو ذكر هذا الكلام في سياق بيان أن تصرفات السكران لا تصح، وهذا الوجه الثالث من الوجوه التي يُقرر فيها هذا المعنى، ومسألة السكران، وتصرفات السكران العلماء مختلفون فيها اختلافًا كثيرًا، هل يقع طلاق السكران، أو لا؟ هذا غير الجنايات، إذا جنى جناية، قتل إنسانًا، يقال هذا سكران غير مؤاخذ؟! إذا باع أو اشترى، وهو سكران هل يصح هذا العقد؟ وهب هبة أعطى سيارته لواحد، وقال: تفضل هذه هدية لك، وأعطى الثاني بيته، وقال: هذا البيت هدية لك، ونحو ذلك، فلما أفاق قيل له ذلك، فأنكره، هل هذه التصرفات تُعتبر نافذة، غير الجنايات، الجنايات يؤخذ بها، لكن مثل هذه التصرفات التي هي من قبيل العقود، جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، ومن ثَم إذا طلق، يعني: الأقوال والعقود، لكن الجنايات، قتل إنسان يؤاخذ.

فهنا يقول: من لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه اعتبار في الشرع، ومن ثَم فإن بيعه، وشراءه، وإجارته، وهبته كل ذلك غير مُعتبر، وليس ذلك محل اتفاق بين أهل العلم، لكن هذه على كل حال اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

يعني الآن هذا هو لا شك أنه لا عقل له ولا تمييز، لكن المأخذ عند الذين يقولون: نُحمله كل ما صدر منه، فإن طلق وقع الطلاق إلى آخره، قالوا: إنه تعاطى سببًا مُحرمًا، فهذا غير المجنون، فهذا السبب يحرم تعاطيه، وهو السُكر فيتحمل مغبته، ونتائجه، وعواقبه، بهذا الاعتبار، قالوا: الآن هذا السبب محرم، تعاطاه باختياره؛ فيتحمل النتائج المُترتبة عليه، مهما كانت، والله المستعان.

ذكر الشنقيطي -رحمه الله- يعني: هذا يصور البلاء -نسأل الله العافية- كيف يُعقل إنسان باختياره يُلغي علقه، يكون كالمجنون، ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في بعض المواضع من أن رجلاً سكر -نسأل الله العافية- فجعل -أعزكم الله- يتبول، ويتمضمض، ويستنشق من بوله، ويغسل وجهه، ثم قال: الحمد لله الذي جعل الماء طهورًا، والصلاة نورًا[12] تصور إلى هذا الحد.

وآخر وجد نفسه ساقطًا، يعني: بعد ما أفاق وجد نفسه على الأرض، فسأل ما الذي حصل؟ قالوا: أنت طول الليل، وأنت تقفز، تريد أن تُمسك القمر حتى تعبت، فسقطت ووقعت في هذا المكان، وغلبك النوم، فأفاق، وهو مُلقى في مكان ليس محلاً للنوم، ويقفز، يمسك القمر.

"الأموال المجهول أهلها تُصرف لأولى الناس بها إن لم يمكن ردها إلى مُستحقيها، فتُصرف في مصالح المسلمين".

الأموال المجهول أهلها، الآن هذه الأموال المجهول أهلها مثل ماذا؟ مثل الأموال التي قُبضت من أهلها بغير حق، أو بتأويل لا يصح، أُخذت منهم هذه الأموال فهنا يجب ردها، إذا كان أهلها يُعرفون، فيجب الرد إليهم، إذا كان هؤلاء لا يُعرفون، مثل ماذا؟

الآن لو أن أحدًا فرض على الناس إتاوات أو جبايات أو رسومًا على طرق، أو نحو ذلك، يعني: من قبيل المكوس، فصار الناس كل من جاء، وضع في هذا الصندوق، ويُخرج له بطاقة، ويمر من هذا الطريق مثلاً، طيب فقيل: إن هذا لا يجوز، هذا الكلام لا يجوز، أو مُضاعفة مثلاً المُخالفة لا يجوز، طيب هذه الأموال وجدت ماذا يُفعل بها؟ هذه الأموال التي أُخذت بغير حق ماذا يُفعل بها؟ ما حكمها شرعًا؟ الأصل أن تُرد إلى أهلها إذا عُرفوا، إذا أمكن، إذا ما عُرفوا؛ صُودرت أموال، بعض الناس قد تُصادر أموال باعة في الطُرق، فقراء، مساكين، ويأتي، ويُصادر منهم هذه الخضروات، ونحو ذلك التي يبيعونها، ويطعمون عيالهم منها، طيب عرف أن هذا قد يكون لا يجوز، وأنه من الظلم، طيب أراد أن يرد عليهم هم غير موجودين، لا يوجد مكان، لا يوجد عنوان، لا يوجد، ماذا يفعل بها؟ فمثل هذا، ماذا يكون؟ هذه ما عرفنا أصحابها، ففي هذه الحال يقول شيخ الإسلام: تُصرف لأولى الناس بها[13].

مثل هدايا العُمال غلول، هذه معلمة، هذا مُعلم، هذا موظف، تقول: الطالبات آخر السنة يأتوني بهدايا، ويعطوني أشياء، وأنا لا أذكرهم، ولا أحُصيهم عبر سنين، وعندي من هذه الموجودات، ماذا أفعل بها، أنا لا أعرفهم، ولا أعرف من أعطاني، ولا أتذكر ماذا يُفعل بها، هذه أموال مجهول أهلها، لو أنه أُخذت أيضًا أموال من هؤلاء الناس الذين أخذوها بغير حق.

يعني: الآن تسمعون مثلاً في بعض البلاد في مصر، في تونس في ليبيا يُصادرون أموال من بعض الناس الذين أخذوها بغير حق، كيف تُصرف هذه الأموال؟ ما يُعرف الناس الذين أُخذت منهم بغير حق، إذا عُرفوا؛ وجب إرجاعها إليهم، لكن هذه الأموال مجهولة، من أصحاب هذه الأموال؟ ما نعرف، فماذا يُفعل بها؟ صُدرت من حساباتهم، من تركاتهم، وأحيانًا نفس الأولاد، يريدون أن يتخلصوا منها، ويقولون: نعلم أن هذه الأموال مأخوذة بغير حق، ونريد أن نتخلص منها، ماذا نفعل بها؟ كيف نصرفها؟

إنسان غصب أشياء من الناس، وآخر سرق أشياء من الناس، ويقول: أنا ما أعرف أصحابها، كان يأخذ من جيوب الناس، كان يأخذ من بسطات، كان يأخذ، ويقول: أنا ما أعرف هؤلاء الناس، كيف يُفعل بها؟ فهذه تُصرف في المصارف أو مصالح المسلمين، من هذه المصالح مصارف الزكاة، فإن الله قدر الزكاة لهؤلاء؛ لأنهم أحوج وأكثر استحقاقًا، والفقراء مثلاً الله قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ [الحشر:8] يعني: هم من أحق الناس بالفيء، لما ذكر مصارف الفيء، فتُعطى لهذه المصالح والمصارف.

لكن إذا كان هؤلاء أخذوها من بيت مال المسلمين، أو ما يتصل به فيجب عليهم أن يُرجعوها إلى بيت مال المسلمين في الأصل، يعني: هذا الإنسان يقول: أنا أخذت من أشياء ما تحق لي، أخذت راتبًا، أخذت مكافأة من الكلية بعد ما طويت قيدي، نزلت في حسابي بالخطأ، أخذت من حافز، وأنا لا ينطبق عليّ الشروط، ماذا أفعل بها؟ نقول: تردها إلى بيت المال إذا أمكن، كيف تردها؟

يوجد حساب اسمه: إبراء ذمة، تضعها فيه، إذا ما أمكن كما في كثير من البلاد، ما يمكن، ويعطيهم إياها، يقولون: نحن لا نقبل ذلك، فإنه يصرفها في المصالح العامة، وأولى ذلك في تلك الجهة التي أخذ منها -والله أعلم- يعني: أخذها من مدرسة يصرفها في مصالح هذه المدرسة، هذه في الأموال المجهولة، هذه الأموال المجهولة كما قلت في مثل هذه المصادر.

لو وجد عقارات، وأموال كما يوجد في البنوك، كما هو معروف، توجد أموال طائلة في بعض البنوك، لا يُعرف لها صاحب، فماذا يُفعل بهذه الأموال؟ يقولون: عندنا مئات الملايين لا يوجد لهم أثر لأصحابها، مات ولم يُخبر أحدًا، مات وليس له ورثة، فهذه في الأصل ترجع إلى أين؟ إلى بيت المال، وتُصرف في هذه المصارف العامة، في مصالح المسلمين، هذه الأموال المجهولة.

لكن لو كان يعرف؛ فإنه يُعيده إليه، ولا يُشترط أن يقول: أخذته منك بغير حق، يُعطيه يقول: هذه لك، من أين؟ ما يقول: مني، لا يُشترط هذا، وأن يذهب، ويعترف إليه أنه أخذها منه بغير حق، وإذا كان يعرف حسابه؛ أدخلها في حسابه، أو يعطيها وسيطًا، ويقول: أعطيه لها، فتبرأ ذمته بذلك.

"الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جَنَبة أقوى المُتداعيين سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية".

الآن عندنا قول النبي ﷺ: بأن البينة على المُدعي، واليمين على من أنكر[14] هذا أصل، لكن لماذا النبي ﷺ قال ذلك؟ هو باعتبار أنه لا يوجد مع أن يكون الغالب، باعتبار أن الغالب أن القوة في جانب من؟ في جانب المُدعى عليه، لكن لو كان الأمر خلاف ذلك؛ فإن اليمين تكون مع الأقوى، يعني: ليس دائمًا اليمين على المُدعى عليه، وإنما تكون على الأقوى، وقد مضى كلام حول هذه المسألة.

والأصل المستقر في الشرعية أن اليمين مشروعة في جنبة أقوى المُتداعيين، سواء ترجح ذلك البراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية، يعني: هو ذكر هذا في جواب سؤال عما لو تحاكم رجل مع امرأته عند القاضي، تحاكموا، وادعوا في أشياء، النفقة والكُسوة مثلاً، فبين شيخ الإسلام أن القول هنا لمن يشهد له العُرف والعادة، العُرف والعادة بأي اعتبار؟

الآن هذه المرأة عندها طعام، وعندها لباس، وكسوة للصيف، وكسوة للشتاء، ولا ينقصها شيء من ذلك، ففي مثل هذه الحال قالت: لا يُنفق عليّ، ولا يكسوني، وقال هو: إنه يفعل كل ذلك في حقها، فهنا العادة تشهد لمن؟ للزوج، هي عايشةٌ معها كسوة، ومعها، كيف تقول: إنه ما يُنفق عليها؟ فالعادة تشهد له، من أين هذا الطعام، ومن أين هذا اللباس، ومن أين، فهنا من الذي يحلف؟ الزوج؛ لأنه الجانب الأقوى، الآن هي المُدعية، فصار اليمين في جانب المُدعى عليه، فيصير القول قول الزوج مع يمينه.

إذا ترجح جانب المُدعي، كانت اليمين معه، لاحظوا في مسألة القسامة، لو اتُهم أهل قرية أو ناحية، أو كذا بقتل إنسان وجد في ناحيتهم، وقالوا: نحن ما قتلناه، فهنا تكون القسامة، فيحلف، من الذي يحلف الآن؟ المُدعي، أو المُدعى عليه؟ الآن هؤلاء عندهم لوث، الذي هو المُدعي، وجد القتيل في ناحية هؤلاء، في قريتهم، فقالوا: هؤلاء هم الذين قتلوه، بهذا الاعتبار يكون جانبهم أقوى، فيُقسمون أيمان القسامة، يقسمون خمسين يمينًا، لو تنازع الزوجان في أغراض البيت، حصل بينهم مشكلة وطلاق، وإلى آخره، وتنازعوا، قال: هذا كل الأغراض التي في البيت لي، أنا الذي اشتريتها، وقالت هي: لا، كل الأغراض لي، فكيف نحكم؟

أو افترض صورة أوضح من هذا، أخذ ثياب المرأة وأحذيتها -أعزكم الله- ومكياجها، وقال: هذه الأغراض لي، فالعُرف هنا، والعادة تشهد لمن؟ للمرأة، فتكون هي التي تحلف، لو أنها هي التي ادعت أن هذه لها، الآن هي المُدعية، وهو المُدعى عليه، أليس كذلك، فهنا من الذي يحلف؟ المرأة هي التي تحلف، إذا كان الرجل هو الذي ادعى، فالتي تحلف هي المرأة، إذا كانت هي التي ادعت هي التي تحلف، فاليمين تكون مع الأقوى، من كان جانبه أقوى، ولهذا قال النبي ﷺ: البينة على المُدعي، واليمين على من أنكر لماذا؟

لأن الأصل براءة الذمة، وإذا كان تحت يده شيء، فالأصل أنه له، ولهذا قال: أن اليمين مشروعة في جنبة أقوى المُتداعين سواء ترجح ذلك، يعني: ما الذي يجعله الأقوى؟ بالبراءة الأصلية، وهذا يكون في صور كثيرة، يعني: الآن مثلاً لو أنهم اختصموا في شيء، قال مثلاً: هذا الطعام الذي أعطاني مُحرم أو نجس، أو من مادة مُحرمة، أو نحو ذلك، والآخر قال: لا، طاهر مُباح، فمن الأقوى؟

من قال: بأنه مُباح، فهذا هو الذي يحلف، وهكذا لو أنه، طبعًا البراءة الأصلية في الأصل هي تُقال لما كان مُباحًا قبل الشرع، فتُستصحب فيه البراءة الأصلية لم يتعرض له الشارع، غير الإباحة الشرعية التي ورد فيها دليل على الجواز، يعني: عندنا إباحة أصلية، وإباحة شرعية، هذا عند الأصوليين.

لكن الكلام هنا فيما هو أوسع من ذلك، اتهمه بتُهمة، وليس عنده عليها دليل، فالبراءة الأصلية مع ذاك، التي يسمونها براءة الذمة، هي لا تُسمى البراءة الأصلية، براءة الذمة، فالأصل أن هذا معه البراءة، الأصل أنه بريء حتى يثبت خلاف ذلك، فلو ادعى عليه دعوى، قال: هذا عنده لي ألف، أخذ مني ألفًا، من الذي يحلف؟ المُدعى عليه؛ لأن الأصل براءة الذمة، فهو أقوى.

أو اليد الحسية، إنسان عنده هذه مثلاً الساعة، وجاء واحد وقال: هذه الساعة لي، اليد الحسية هذه أنها عنده، إنسان لابس ساعة، إنسان بحوزته سيارة، بحوزته آلة، أو نحو ذلك، وجاء إنسان، وادعاها، فتكون اليمين مع من؟ مع المُدعى عليه؛ لأنها تحت يده، أو اليد الحسية.

أو العادة العملية، العادة العملية ذكرت لكم في مسألة النفقة، ونحو ذلك، العادة العملية، اثنان تنازعوا لباسًا هذا يلبس لباس أفرنجي، والثاني يلبس لباسًا، وبين يديهم لباس تنازعوه، من الأقوى؟ من كان اللباس من عادته، وزيه، هذا هو الأقوى هذا هو الذي يحلف.

"جميع الدين داخل في الشهادتين، إذ مضمونهما ألا نعبد إلا الله، وأن نُطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا، في عبادة الله بطاعة الله وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يُستحب داخل في طاعة الله ورسوله".

هو هذا، كل الدين داخل في الشهادتين، حينما تقول: لا إله هذا نفي لكل ما يُعبد من دون الله، وما يتفرع عن ذلك من جميع أنواع الباطل والمعاصي؛ لأنها مُتفرعة من شجرة الشرك، وهكذا في الذوات، في باب الولاء والبراء، فهو داخل موضوع البراء من المشركين في هذا الجزء، لا إله، وأما إلا الله، فهذا في جانب الإثبات يدخل فيه التوحيد والإيمان، والطاعات جميعًا بجميع أنواعها، ومن يكون مُلتزمًا بهذه الأمور، أعني: أهل الإيمان، بموالاتهم، ونحو ذلك، ولهذا كان الولاء والبراء مُرتبط بالشهادتين، فكل الدين مُندرج في هذا.

وحينما يقال: محمد رسول الله، فإن هذا يكون في طاعته، يقتضي طاعته ﷺ في كل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه -عليه الصلاة والسلام-، فالواجبات والمُستحبات داخلات في الطاعة، والمُحرمات داخلة في الجانب الآخر، لا إله المُحرمات، تبقى المكروهات خلاف الأولى وما شابه ذلك، هذه قد لا تدخل في ذلك الجانب، لكن تركها أولى من فعلها؛ لأنها ليست من قبيل الممنوع الذي يجب اجتنابه، إنما ذلك يُقال في المعاصي أنها متفرعة من شجرة الشرك، وهكذا البدع، والضلالات، ولهذا بعضهم يُعبر عن الجائز كلمة جائز، يعني: ما للمُكلف أن يفعله بصرف النظر، فبهذا الإطلاق الواسع يدخل في الجائز: الواجب، والمُستحب، والمُباح، والمكروه، ويخرج منه المحرم هو الذي لا يجوز، يقول: يجوز، ولا يجوز، جائز، يعني: السائغ، هذا إطلاق واسع لكلمة الجائز.

مداخلة: هل يكون يا شيخ باعتبار أن حق التشريع لله، فيكون على هذا كل الدين داخل ... العبودية؟

هذه كونه لا إله إلا الله مما يدخل فيها أنه لا مُشرع إلا الله، يدخل فيها، مما يدخل فيها.

مداخلة: هل هذا الوجه الذي قصده شيخ الإسلام؟

لا لا، إنما كل الطاعات مُتفرعة من شجرة التوحيد، يدخل فيها ... إلا الله الإثبات، ويُضاد ذلك يدخل فيها كل ما يُضاد هذه الأمور، فكل الدين داخل بهذا الاعتبار، أما مسألة التشريع، وحق التشريع، فيقال من أيضًا الأشياء الداخلة تحتها: أنه لا مُشرع إلا الله، لا حاكم إلا الله، مسألة الحاكمية، يعني: لا يُقال: الشعب هو مصدر الحكم والسُلطات، هذه للأسف تُردد كثيرًا، ولهذا بعض المردة من هؤلاء الضالين المُضلين، الليبراليين مثلاً، لما هُزموا هزيمة ساحقة في تلك البلاد التي أراح الله فيها العباد من هؤلاء المجرمين، ما الذي قاله أولئك لما كان أهل الخير وكذا هم الأرجح كفة، وهم الذين، قال بعض المردة: إن هذه الانتصار هو انتصار للبرالية؛ لأن هؤلاء انحازوا إلى الخيار الذي ندعوا إليه، وهو الديمقراطية.

يقول: نحن الذين استطعنا أن ننتصر؛ لأننا حولنا هؤلاء إلى اختيار هذه النُظم الديمقراطية، يقولون: حولنا الوجهة، نحن الذين سحبناهم، نحن الذين انتصرنا، ليس بالضرورة أن نفوز في الانتخابات، لكننا نقلناهم من حال إلى حال، فأفكارنا هي التي انتصرت، وهذا كلام يحتاج إلى وقوف، ونظر، وتأمل، وما انجر إليه كثير من هؤلاء من المُنتسبين إلى الدين والدعوة، أو بعض طلاب العلم حينما يرتضون مثل هذه الديمقراطية، ويدعون إليها، ويقولون: الحكم للشعب، والشعب مصدر السُلطات، هذا فعلاً هو انحراف، هذا انحراف.

وأنا أقول: أقل شيء، على الأقل، أضعف الإيمان ألا نضيق ذرعًا بمن يكون له توقف، أو إنكار، أو تحفظ على مثل هذه الممارسات، على الأقل، يعني: يبقى بعض الناس، يحافظون على الوجهة التي كان الناس عليها قبل، أقصد من الصالحين المُصلحين الذين يقصدون الخير، ما أقصد الناس الذين يريدون أن يُخالف للمُخالفة، ويُضاد الأخيار أصلاً بأي شيء، هذا لا عبرة به، نحن نتحدث عن ناس لا يُتهمون في قصدهم الإصلاح والصلاح، والرغبة في الخير، وتكثيره، وتنميته، ومحبة أهله فهؤلاء إذا كان لبعضهم، أو لهم موقف من هذه الممُارسات؛ فعلى الأقل يُحترم، لكن للأسف نحن أحيانًا ننسى أشياء نُقررها سنين طويلة، عقودًا متطاولة، فإذا انحزنا إلى شيء آخر في حال ذهول أو غير ذهول للأسف فإننا لا نقبل من أحد غير ما نرتضيه، وما تحولت إليه قناعاتنا، وهذا غير صحيح، والله المستعان.

الخلاف يفري ويفتك، والله يقول: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] الخلاف والتراشق ليس من المصلحة، هؤلاء إذا كانوا استفتوا عالمًا تبرأ به الذمة، أو كانوا أهلاً للاجتهاد فالله يتولى عباده، ويحصل على أيديهم من النفع والخير وما إلى ذلك أشياء، لكن أنا لا أفعل ذلك؛ لأني لا أعتقد أنه يحل، وهم لا يجوز لهم بحال من الأحوال أن يرموا من توقف أو أنكر مثل هذه الأشياء بضيق الأُفق والجهل، أو التحجر، أو نحو ذلك، هذا لا يصح.

"والإشراك في الحب والعبادة والدعاء غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار".

الإشراك في الحب والعبادة والدعاء هذا هو الإشراك في الإلهية، والنوع الثاني الإشراك في الاعتقاد والإقرار هذا هو الإشراك في الربوبية، يعني: حينما يعتقد أن للعالم مثلاً خالقين مثلاً، ولو غير مُتكافئين: النور والظلمة، أو يعتقد أن هذه الأصنام لها نوع تدبير، أو نفع، أو ضُر، أو أن هؤلاء الأموات في القبور لهم نوع نفع، أو دفع، أو ضُر مثل هذا الكلام هو شرك في الاعتقاد، شرك في الربوبية، لكن حينما يتوجه إليها فيدعوها، أو يكون في قلبه من المحبة لها ما يُزاحم محبة الله في القلب، أو يخافها خوفًا كخوف السر أنها تتطلع على بواطنه، ويمكن أن توصل إليه الضر، فهذا شرك في الإلهية، يعني: اعتقاده بها هذا شرك في الربوبية أنها لها تصرف، وأن لها تدبير مع الله، هذا شرك في الاعتقاد، حينما يتوجه إليها بالرغبة والرهبة، ونحو ذلك الخوف عبادة، والحب عبادة، والدعاء عبادة، والذبح عبادة، فهذا شرك في الإلهية.

وإذا أردت أن تضبط هذا المعنى فما يصدر من المُكلف يتصل بالإلهية، من الأفعال الباطنة والظاهرة، فهذا يتصل بالإلهية، وما يكون من فعل الرب -تبارك وتعالى- هذا يكون متصل بالربوبية، فالذين قالوا: مُطرنا بنوء كذا، هذا من أي أنواع الشرك؟ الربوبية، المعتزلة لما يقولون: إن الإنسان يخلق فعله، والله لم يخلق أفعال العباد هذا شرك في ماذا؟ في الربوبية، لما يقولون: الأصنام تنفع وتضر هذا شرك في الربوبية، وليس في الإلهية، لما يقول: الشعب مصدر السُلطات هذا من أي نوع، يعني: هذه الأفعال المُختصة بالله لكن الفعل الذي يصدر من العبد الذي يتقرب به، يتعبد به إلى آخره هذا يتصل بالإلهية، ولهذا قال الله في التشريع: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] سماهم شركاء في مسألة التشريع، شرعوا لهم من الدين، وقال الله في مسألة الميتة لما جادل فيها المشركون، قالوا: ما ذبحتم بأيدكم تقولون: حلال، وما ذبحه الله بيده، بسكين من ذهب تقولون: حرام، إذًا أنتم أحسن من الله، قال الله : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ماذا قال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] هذه في قضية تحليل وتحريم، تشريع، سماه شرك، سماه شركًا، فهذه أمور مُقررة في القرآن، يعني: ليست هي قضايا استنباط أو اجتهادات، أو نحو ذلك.

فلا يجوز لأحد أن يُنصب نفسه مُشرعًا مع الله -تبارك وتعالى- فضلاً عن أن يُسلب ذلك بالكلية، ويقول: التشريع هو للشعب فقط، يعني: نحن نحتاج أن نُنبه على هذه القضايا؛ لأنها في زحمة هذه الأحداث المُتتابعة، المُتلاحقة أحيانًا ننسى بعض الأصول التي كنا نُقررها، وندعوا إليها، ونُربي الناس عليها، ننساها، ونُردد بعض العبارات، وبعض الكلمات التي لا تبرأ الذمة باقتفاء أثر الذين لا يعلمون فيها، وهو لا ينقصهم جدال كما قال الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] فيكون عند هؤلاء من الجدال، وما ظاهره أنه حُجج ما قد يلتبس على كثير من الناس، قال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].

"والسبب في أن فرج الله يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق هو تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، ومن كمال نعمة الله على عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك؛ حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد".

هذا هو المفصل، المحز في الجواب عن هذه المسألة لماذا يُستجاب دعاء المُضطر وهو مُشرك، لماذا؟ باختصار؛ لأنه ينقطع، وينحل من جميع العلائق التي كان يعتقد، أو يرجو، أو يتوجه إليها في رغبته ورهبته، ينقطع رجاءه من كل ما سوى الله -تبارك وتعالى- فهنا دعوا الله مُخلصين له الدين، يعني: يكون عندهم من الإخلاص في هذا المقام في توجههم لا يلتفتون إلى أحد سوى الله -تبارك وتعالى- فتنقطع جميع العلائق، ففي هذه الحال تحصل الاستجابة، هذا جواب مُختصر لهذه المسألة، مُشرك ويُستجاب دعاؤه في حال الاضطرار، تتقطع علائقه، كما جاء في حديث عكرمة، لما فر إلى اليمن لما فتح النبي ﷺ مكة، فركب سفينة، يُريد الحبشة، فأوشكت على الغرق، وهبت الريح، وتعاظمت الأمواج، فقال لهم رُبان السفينة: إنه لا ينفعكم شيء مما تدعون اليوم، لا ينفعكم إلا أن تتضرعوا إلى الله فقال: إذا كان لا يُنجي من كربات البحر إلا هو فإنه لا يُنجي من كربات البر إلا هو، والله، أو لله عليّ إن نجاني لأضعن يدي بيد محمد ﷺ [15] هذا مذكور في سيرته -رضي الله تعالى عنه- فرجع، وكانت زوجته قد قدمت إلى أرض اليمن، أو ما يُحاذي ذلك الموضع الذي يعبرون منه إلى الحبشة، فرجع معها إلى مكة، كانت رجعت تدعوه تقول: فلان رجع، وجاء، وعفى عنه، يعني: النبي ﷺ ارجع ليعفو عنك، فوجدته في هذه الحال لما نجاه الله [16].

بل ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في بعض كتبه أن ذلك قد يقع لبعض الناس، يعني: من الإخلاص التام عند قبر، ويُستجاب دعاؤه لا لوجود القبر، ولا لمعنى يتعلق بالقبر، لكن؛ لأنه حضر في قلبه من الإخلاص لله تلك الساعة ما كان سببًا لاستجابة الدعاء، فظن أن ذلك لوجود هذه المُلابسة أنه قريب من قبر فلان، وأن هذه من بركة فلان، أنه يُستجاب الدعاء عند هذا المقبور[17] .

"وأما هديه ﷺ في الأكل؛ فإنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، وكذلك في اللباس".

هذا طبعًا هدي النبي ﷺ، وهو الهدي الكامل، يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ما كان النبي ﷺ يعيب طعامًا قط، إذا اشتهاه أكل، وإذا لم يشته ترك، يدخل بيته عندكم طعام؟ لا، يقول: إني صائم[18] لا يتكلف مفقودًا، لا يقول: اذهبوا، واطلبوا لي طعامًا، ابحثوا عن طعام آكله، لا يتكلف مفقودًا، ولا يرد موجودًا، ويُدعى النبي ﷺ على إهالة، ونحو ذلك من الطعام الذي ليس هو بالأجود، ويأكل -عليه الصلاة والسلام-[19] فهو لا يرد موجودًا، ولا يعيب طعامًا، لما قُدم على مائدته الضب لم يأكل -عليه الصلاة والسلام- لكنه ما عابه، وأكلوه بين يديه ﷺ وما نهاهم[20].

فهذا هو الهدي الكامل الذي يحتاج الإنسان أن يتحلى به، يأكل مما وجد، ولا يتكلف من المفقود، ولا يعيب طعامًا، فهذه ثلاثة أمور هي من أنفع ما يكون للعبد في هذا الباب، الموجود يؤكل المفقود لا يُطلب، بعض الناس يذهب يتجول في المطاعم هنا، وهناك يبحث عن أشياء، فهو خريت ومُجرب في جميع مطاعم البلد، يعرف هذا يتميز بكذا، وهذا يتميز بكذا، ودائمًا يتكلف هذه الأشياء، وعلى بابه أنواع المُلصقات من المطاعم؛ لأنه صاحب تعامل واسع طويل لها، فيتصل بهذا وبذاك، نريد كذا اليوم، وغدًا نريد كذا، ونحو هذا، يعني: ليس ذلك بالكمال المطلوب الذي ينبغي أن يتحلى به العبد، وكذلك عيب الطعام، كثير من الناس يذم هذا؛ لأنه كذا؛ لأنه فيه كذا، أو إذا أعجبه أكل، وإذا ما أعجبه ترك، وبهذا يستريح ويُريح، وإلا فلربما كان أهله في شقاء وعناء معه؛ لأنه لا يُعجبه شيء، ولا يُشبع نهمته شيء، والله المستعان.

وهكذا في اللباس ما كان يتكلف -عليه الصلاة والسلام- ألبسة مُعينة، كان يلبس ما يلبسه الناس في ذلك الوقت: كالقميص، والعمامة، والإزار، وما كان -عليه الصلاة والسلام- يلبس لباسًا يتميز به عن هؤلاء الناس، ولهذا قال النبي ﷺ: البذاذة من الإيمان[21] وهي ترك رفيع اللباس؛ البذاذة من الإيمان وقال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه؛ دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها[22] فهذا هو اللائق بالمؤمن أن يكون غير مُتكلف في لباسه، ويُلحق باللباس ما يتصل بالأثاث، الشيء الذي يحصل به المقصود دون التأنق الكثير، والتكلف، وبذل الأموال الطائلة في ألبسة قد لا تفترق كثيرًا عن غيرها -والله أعلم-.

  1. انظر: أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية (72) والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء، لابن القيم (121).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، برقم (2886).
  3. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (16/221).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  5. أخرجه البخاري، أبواب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة (2/67).
  6. أخرجه ابن الجزري في جامع الأصول في أحاديث الرسول، برقم (34)، وصححه الألباني في الإيمان، لابن يتيمة (ص: 102).
  7. أخرجه النسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3940)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5261).
  8. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7890).
  9. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني (2/320).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر، برقم (177)، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة، ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم (361).
  11. انظر: البخلاء، للجاحظ (285).
  12. انظر: العذب النمير، للشنقيطي (2/181).
  13. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمة (28/592).
  14. أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار، كتاب الشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد، برقم (20026)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3758).
  15. انظر: العذب النمير، للشنقيطي (1/236).
  16. انظر: المغازي، للواقدي (2/852).
  17. انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/217).
  18. أخرجه أبود داود في سننه، كتاب الصوم، باب في الرخصة في ذلك، برقم (2455)، وصححه الألباني في الجامع الصغير، برقم (8850).
  19. أخرجه البخاري، كتاب الرهن، باب الرهن في الحضر، برقم (2508).
  20. أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية، برقم (2575)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، برقم (1947).
  21. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الترجل، برقم (4161)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2877).
  22. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (2481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6141).

مواد ذات صلة