الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
39- ومن كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ومن الرد على البكري. القواعد 525-535‏
تاريخ النشر: ٢٥ / محرّم / ١٤٣٤
التحميل: 2412
مرات الإستماع: 2481

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 قال -رحمه الله-:

"ومن كتاب اقتضاء الصراط المستقيم".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكتاب هو كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم مُخالفة أصحاب الجحيم" معنى هذا العنوان: أن الصراط المستقيم يقتضي مُخالفة أصحاب الجحيم، وأصحاب الجحيم هم: سائر طوائف الشرك والضلال والكفر من اليهود والنصارى والمشركين، وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا الكتاب الفذ في هذا الموضوع الذي هو غاية في الأهمية، مخالفة الكفار فيما هو من خصائصهم الدينية، وما هو من خصائصهم العادية، يعني: في أمور العادات، وما لم يكن من خصائصهم إذا قُصد به التشبه، فهذه ثلاثة أشياء، وإنما أذكر هذا لأهمية هذا الكتاب؛ لأن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- لم يذكر هذه القضية، وهذا الضابط الذي هو في غاية الأهمية، وقد ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله-.

وفي الكتاب ضوابط مُهمة يُفرق بها بين السُنن والمبتدعات والمصالح المُرسلة، إذا ضُم كلامه مع كلام الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام فإنه يُمثل قواعد هي في غاية الأهمية لطالب العلم، يُميز فيها بين ثلاثة أشياء: السنن، والبدع، والمصالح المُرسلة.

فهذا الكتاب يتحدث عن مُشابهتهم، وهذه القضية التي لم يتعرض لها الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- ما انتقاها، أذكرها مختصرة لأهميتها.

فما كان من خصائصهم الدينية فلا يجوز التشبه بهم فيه، سواء كان ذلك بقصد من فاعله أو لم يكن بقصد، يعني: قصد التشبه أو لم يقصد التشبه، لا يُنظر إلى قصده، مثل ماذا؟ لبس الصليب، لبس نجمة داود، الماركات التي عليها نجمة داود، هذا شعار اليهود، ما يقول إنسان: أنا ما أقصد، ويتزين بهذه العلامة، وبهذه النجمة، وهذا تجده يقع كثيرًا لكثير من الناس بغير قصد، فهذا لا يجوز، خصائصهم الدينية؛ لبس الزُنار الذي يلبسه النصارى في أوساطهم، وما إلى ذلك مما يفعلونه في أعيادهم كعيد الميلاد، عيد المسيح، ونحو ذلك، فهذا كله من خصائصهم الدينية، لا يجوز مُشاركتهم فيه، قصد أو لم يقصد الفاعل، ويدخل في هذا أيضًا مثل هذه الأشياء التي أبتلي بها كثير من المسلمين اليوم، لبس الدُبلة، الدُبلة التي يلبسها الخاطب، فهذه من خصائص النصارى الدينية، لا يجوز لأحد أن يلبسها قصد أو لم يقصد، فهذا يتعلق بعقيدة عند النصارى، يضعون هذه الدُبلة هنا في الإبهام، ويقولون: باسم الأب، يقصدون: الله ثم يضعونها في هذه المُسبحة، ويقولون: باسم الابن، ويقصدون: عيسى يقولون: هو ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرا، ثم يضعونها في الوسطى، ويقولون باسم روح القُدس جبريل ثالث ثلاثة، يعني: هم يعتقدون عقيدة التثليث، ثم يضعونها هنا في هذا الأُصبع البنصر، ويقولون: باسم الزوج، إذا وضعوها في أصبع الزوج، أو الزوجة، فيقولون: باسم الزوجة، ويعتقدون أن في هذا الأصبع عِرقًا يوصل إلى القلب، فإذا وضعت فيه؛ صار هناك اتصال قلبي بين الزوجين، عقيدة من أفسد العقائد، وما يوجد في الدنيا فيما أعلم أكثر خُرافة في الأديان والمِلل من النصارى، عندهم أعياد لا يحصيها إلا الله، وعندهم طقوس فيها وفي غيرها؛ من صبغ البيض، وصبغ الأبواب، وأفعال مُضحكة يضحك منهم العقلاء؛ لأنهم أضل الأُمم، الله قال: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] فإذا ذُكر الضلال فالنصارى، فهذه الأشياء التي من الخصائص الدينية لا يجوز لأحد أن يتشبه بهم قصد أو لم يقصد.

النوع الثاني: وهو ما كان من قبيل الخصائص العادية، يعني: في أمور العادات، فهذه أمور العادات إن كان ذلك مما يختص بهم؛ فلا يجوز مُحاكاتهم فيه قصد أو لم يقصد، ما هي عاداتهم؟ الخاصة بهم، أما إذا فشا ذلك في الأمم، وانتشر، وصار عند المسلمين؛ فإنه لا يسلم من التبعة أولئك الطلائع الذين تشبهوا بهم أولاً حتى فشا ذلك، وصار عادة ذائعة لا تختص بهؤلاء الكفار، الآن نحن بعض الأشياء نفعلها، وأصلها قد تكون عند الكفار في يوم من الأيام من خصائصهم في العادات مثلاً، لكن انتشر هذا، فلا يُطلب فيه المُخالفة، هذا النوع الثاني.

النوع الثالث: ما لم يكن من خصائصهم الدينية ولا العادية، يعني: أمور العادات، وإنما هو شيء ذائع مشترك بين الناس، فإن فعله بقصد التشبه فحرام، مثل ماذا؟

الآن لو أنه لبس زيًّا رياضيًّا برقم معين، برقم تسعة، أو عشرة، أو أحد عشر، أو غير ذلك؛ جائز لا إشكال في هذا، لكن لو قصد مُحاكاة اللاعب الكافر الفلاني، فهذا ما حكمه؟

نقول: لا يجوز، هذا من التشبه، في أمور العادات إن قصد ذلك، كما لو أنه فعل بعض الناس في أمر مُباح فعلاً يُحاكي به الحرام، لو جلس يشرب الماء بطريقة الخمر، جلس مع آخر، ويضربون الكؤوس، ويشربون بطريقة مُعينة، فمثل هذا يُقال: يجوز فعلهم هذا؟ لا يجوز مع أنهم يشربون الماء، فالمقصود أن هذه ثلاثة أنواع، وهذا ضابط هذه المسألة، مسألة التشبه.

والكتاب فيه تفاصيل كثيرة جدًا في غاية الأهمية، وأوصي طلاب العلم بقراءته، الكتاب طُبع طبعًا محققًا، ويحتاج إلى عناية أكثر، وكذلك أيضًا له مختصرات، وما رأيت في شيء من هذه المُختصرات ما يحصل به المقصود، ويفي بالمطلوب من الكتاب، مختصرات لا تُغني عن الكتاب، هناك مُختصرات قد يقال فيها المُحصلة، وحُذفت الأشياء التي لا داعي لها، المُختصرات لاقتضاء الصراط المُستقيم لا تفي بالغرض، يعني: من قرأ هذه المُختصرات؛ فاته علم كثير في أصل الكتاب.

"اليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالون فيه، فأما وسم اليهود بالغضب، والنصارى بالضلال، فله أسباب متعددة ليس هذا موضعها".

الآن الذي عنده نُسخة فيها تحريف يُصلح نُسخته، هنا فأما وسم اليهود، بعض النُسخ فأما اليهود، وسم اليهود بالغضب، والنصارى، في بعض النُسخ، وأما النصارى.

"فأما وسم اليهود بالغضب، والنصارى بالضلال، فله أسباب متعددة ليس هذا موضعها، وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق، ولا يتبعونه قولاً أو عملاً، أو لا قولاً ولا عملاً، وكفر النصارى".

الآن هو يقول: اليهود مقصرون عن الحق، ما وجه هذا التقصير؟ أنهم لا يعملون بما علموا، ولذلك تجد أشد مثلين في القرآن، سواء كان المثل الذي يصور حال أمة، أو المثل الذي يصور حال فرد من الأفراد هما في اليهود، ومن وقع في فعلهم؛ فإنه يصدق عليه ذلك، المثل الأول لليهود: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5] يعني: أنهما حُملوا الكتاب، عندهم علم، نزل عليهم كتاب لكنهم لم يعملوا بمُقتضاه، وكانوا يتحايلون ويتفلتون على الشريعة كما هو معلوم بألوان الحيل، كما قص الله في خبر أصحاب السبت، وكذلك أيضًا ألوان الحيل التي ذكرها النبي ﷺ عنهم لما حُرمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم جملوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها، فهم مقصرون عن الحق، يعني: لا يعملون بمُقتضاه.

والمثل الثاني لهم: هو في ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته قال: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176] هذان المثلان، الأول: مثلهم بالحمار، وهو أبلد الحيوان، وأقدر هذه المراكب على الحمل، وأصبره عليه، فمثلهم به.

والثاني -نسأل الله العافية-: هو مثل ذلك العالم الذي لم يعمل بمُقتضى العلم، فمثله كمثل الكلب في أسوء حالاته، حينما يُخرج لسانه، يُحركه، يلهث، فهذا معنى أن اليهود مقصرون عن الحق، ولذلك كانوا مُستحقين للغضب.

وأما النصارى: فهم أهل ضلال، ما عرفوا الحق أصلاً، وتلاعب بهم اليهود، وغير اليهود، وأفسد دينهم قسطنطين -كما هو معلوم- ثم بعد ذلك حصل في المجمع المشهور، المعروف "مجمع نيقيا" إقرار عقيدة التثليث، وكما قيل عن قسطنطين هذا: بأنه أدخل المسيحية في وثنيته، ولم يدخل هو في النصرانية، هذا ملك الرومان، فأُفسد دينهم، وصاروا في حال من الجهل والعماية، فكانوا ضُلالاً بهذا الاعتبار.

ولكن من عرف أحقية ما جاء به النبي ﷺ ثم كابر بعد ذلك وعاند من النصارى فهم أهل غضب وضلال، يجمعون بين الغضب والضلال.

"وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون".

يعني: كما قال الله : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] فهم أهل عبادة، ورهبنة بخلاف اليهود، فالأحبار عند اليهود، يعني: العلماء، والرُهبان عند النصارى، لكن كانت عبادة بلا علم، فكانوا يعبدون الله على ضلالة، اليهود عندهم بدع، ولكن بدع النصارى أضعاف مُضاعفة بالنظر إلى ما عند اليهود من البدع.

"وكان السلف كسفيان بن عُيينة، وغيره يقولون: من فسد من علماءنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه من النصارى".

هو هذا، ومن هنا قال: والنصارى غالون فيه، يعني: اليهود لم يؤمنوا بالمسيح مثلاً، ورموه بالعظائم، والنصارى غلوا فيه؛ فألهوه، وهكذا.

"يجب على كل مسلم ألا يتشبه بأهل الكتاب والمشركين والمُلحدين، والتشبه الظاهر يدعو إلى الموافقة في الباطن".

هذه عِلة لتحريم التشبه، التشبه في الظاهر يحمل على التشبه في الباطن، وذلك كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: الناس كأسراب القطا جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض[1] فهذه النفوس لا شك أنها تتأثر بما حولها، وهذه طبيعة في الإنسان، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- لذلك أمثلة، يقول: الإنسان حينما يلبس زي العلماء؛ يجد في نفسه ميلاً إلى السكنية والوقار، وحينما يلبس لباس الجُند المقاتلة؛ يجد في نفسه توثبًا وقوة، أقول: كذلك أيضًا لو أنه لبس لبس النساء؛ يجد في نفسه من الرخاوة والضعف والخنوع، لو أنه لبس لباسًا رياضيًّا يجد في نفسه من الخفة والنشاط والحركة، ما لا يجده إذا لبس زي العلماء، وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أشياء وأشياء، إذا كان رجل في بلد غُربة، ثم بعد ذلك دخل آخر يلبس زيه، من بين الناس؛ فإن قلبه يميل إليه، ولو لم يطلب ذلك أو يقصده، ينجذب قلبه إلى هذا من بين هذه المئات أو الآلاف، لماذا؟

لأنه يوجد قدر من المُشابهة، فالشارع قصد المُباعدة عن أعداء الله -تبارك وتعالى- وأن لا يتشبه بهم المؤمن بحال من الأحوال؛ لأن هؤلاء يدورون بين الغضب والضلال، وميز الله أهل الإيمان ظاهرًا وباطنًا: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]، ومن ثَم فإنه لا يجوز له أن يُحاكيهم، ولهذا النبي ﷺ كان ينهى حينما يرى أحدًا عليه زي الكفار، أنكر على من لبس المُعصفر، وقال: أأمك أمرتك بهذا؟[2] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا المُعصفر من لباس المُشركين.

وهكذا في أمور ومواقف معروفة كان النبي ﷺ ينهى عن مثل هذا: من تشبه بقوم، فهو منهم[3]، وضابط المسألة ما ذكرت سابقًا، وعلتها هو الانجذاب ولا بد، الذي يُحاكيهم ويتشبه بهم سيجد في نفسه ميلاً إليهم، ولذلك تجدون أن هؤلاء هم في الواقع يبعثون بثقافتهم مع لغتهم، ومع حتى الطعام الذي لربما كان منشأه أو طريقة صنعه مُبتدئة منهم، يبعثون معه ثقافة، الآن تصور في الصين الشيوعية لما كان احتفال قبل سنوات بالثورة الشيوعية، كانت الصحف الغربية تنقل صورة طفل معه علبة من البيبسي، ويقولون: الصين تحتفل بالثورة الشيوعية، والجيل الجديد يُقبل على المشروبات الأمريكية، حتى هذا هم يلتفتون إليه، ويصورونه، وينشرونه في الإعلام، وأول فرع فُتح لبعض الوجبات السريعة المشهورة التي منشأها من هناك فُتح هناك في المُعسكر الشرقي، أُقيمت احتفالات ضخمة، من أجل ماذا؟

أنهم، وصلوا عُقر دار المُعسكر الشرقي الذي كان يُنافسهم، وقل مثل ذلك في أمثلة كثيرة، كانوا يرون أن مثل هذه الأشياء، ويمكن نحن نُمثل لهذا، نقول: لو أن بلدًا من البلاد الأعجمية أو الغربية أو بلاد الكفار صار شبابهم يقبلون على لباسنا هذا، ويأكلون الأكلات الشعبية عندنا، وانتشرت المطاعم التي تُقدم لهم الأكلات الشعبية، ولا يطيب لأولادهم، ولكثير من كبارهم الطعام إلا إذا كان من هذه المطاعم الشعبية، أكلاتنا نحن، والواحد منهم يُجمل كلامه بكلمات عربية حينما يتحدث، أُناس بهذه الطريقة لا شك أنهم أقرب إلينا، وإلى ديننا، يعني: الدخول في ديننا أن هؤلاء الطريق مُمهد، موطأ؛ لأنهم يحاكوننا في مثل هذه الأمور، وينجذبون إليها، فهذه الأشياء لها معنى، وليست مجرد طعام يأكله الإنسان، أو لباس يلبسه، ويقول: ما شأن اللباس والطعام، نقول: لا، وهم يعرفون هذا للأسف أكثر منا.

"جميع أعمال الكافر، وأموره لابد فيها من خلل يمنعه أن تتم له منفعة، ولو فُرض صلاح شيء من أموره على التمام؛ لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة، وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحُب ربنا، ويرضى، فنفس مُخالفة الكفار أمر مقصود للشارع في الجُملة".

هو أمر مقصود، ولذلك المسائل التي يُخالف؛ يُطلب فيها مُخالفة الكفار، ذكر شيخ الإسلام منها أنواعًا، يعني: هناك مثلاً أشياء هي مقصودة للشارع؛ لأنها من سنن الفطرة أصلاً، بصرف النظر عن مُخالفة الكفار، إضافة إلى موضوع المُخالفة، فإذا انتفت المُشابهة، فإن ذلك يُطلب شرعًا، مثل ماذا؟

إعفاء اللحية، فإن إعفاء اللحية هو من سُنن الفطرة، ولكن أيضًا النبي ﷺ قال: خالفوا المشركين[4] فأمر بإعفاء اللحى، وحف الشوارب، إذا صاروا يعفون لحاهم، هل نقول الآن: نحن لا نتشبه بهم، نحلق لحانا؟ نقول: لا، هذا من سُنن الفطرة، هذا مطلوب مع موضوع المُخالفة، فهذا نوع.

نوع آخر، وهو ما كان الفعل فيه مطلوبًا مع المُخالفة، وهو من التعبدات المحضة، يعني: ليس من سُنن الفطرة لكنها عبادة محضة، مثل ماذا؟ صوم يوم عاشوراء مثلاً، هم يصومون عاشوراء اليهود، فنحن نصومه تعبدًا لله لأن النبي ﷺ أمرنا بذلك، من هذا المُنطلق نصومه، صاموه أو تركوا صومه، هذا الصوم قُصد فيه المُخالفة أيضًا بأن يوجه المُكلف إلى أن يصوم يومًا معه: لأصومن التاسع[5] من أجل المُخالفة، فهذا نوع هي عبادة ليست من سُنن الفطرة، ولكن طُلب فيها المُخالفة.

وهناك أشياء هي ليست من العبادات، ولا من سُنن الفطرة إنما قُصد بها المُخالفة فقط، فإذا زالت المُشابهة بحيث الكفار صاروا ما يصنعون هذا أصلاً، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فهنا يقال: لا يُطالب المُكلف به، ولذلك تجدون في كلام الفقهاء، مثلاً في عهد شيخ الإسلام، أو عهد تلامذته يتكلمون عن حكم لبس العمامة الزرقاء، يقولون: لا يجوز لماذا؟ لأنها عمائم أهل الذمة، لكن الآن أهل الذمة لا يلبسون العمائم، فلو لبس زرقاء؛ فلا إشكال، تجدون أن عبارة العلماء كالإمام أحمد كره العمامة غير المُحنكة[6] العمائم غير المُحنكة مثل عمائم إخواننا السودانيين، تطوى على الرأس، والمُحنكة تكون من تحت الحنك، فهذه عمائم العرب التي تكون من تحت الحنك، فمثل هذه العمائم هي عمائم العرب التي كان النبي ﷺ وأصحابه يلبسونها، أهل الكتاب كانوا يلبسون هذه العمائم التي تُدار على الرأس فقط، فكرهها من كرهها من أهل العلم، لكن الآن هم لا يلبسون لا المُحنكة ولا غير المُحنكة، فإذا لبس الإنسان عمامة مكورة غير مُحنكة، فليس هناك حرج، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وفي الجُملة فإن مُخالفة المُشركين مقصودة لذاتها، مقصودة لذاتها من أجل أن يتميز المؤمن من جهة، ومن جهة أخرى فإن أعمالهم كما قال شيخ الإسلام: فهي إما باطلة أو ناقصة، فإذا كانت باطلة أو ناقصة فما حاجة المسلم لمُحاكاتهم ومُشابهتهم؟

وهذا من أعجب الأشياء: أن الأمة الكاملة خير أمة أُخرجت للناس الذين قال الله فيهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] يتشبهون بمن؟ بأهل الغضب والضلال، هذا لا يتصور، لولا أنه واقع نُشاهده للأسف، وإلا كيف يتشبه أهل الدين الحق الصحيح الكامل الذي لم يُحرف ولم يُبدل بقوم يدورن بين الغضب والضلال، هذه انتكاسة.

"وكما أمر الشارع بمُخالفة الكفار، فقد أمر بمُخالفة الشياطين في عدة أشياء".

يقول: كما أمر الشارع بمُخالفة الكفار، فقد أمر بمُخالفة الشياطين في عدة أشياء، الآن عندنا الكفار بجميع أصنافهم، كذلك ممن يُطلب مُخالفتهم الشياطين لا يجوز التشبه بالشياطين، لا حقيقة ولا تمثيلاً، وكذلك الكفار حقيقة نتشبه بهم، وأجلى صور التشبه بالشياطين -نسأل الله العافية- ما يسمى اليوم بعبدة الشياطين، والإيمو، فهذا غاية الانحطاط أن يتشبه الإنسان بهؤلاء، ومن الأعمال التي هي من قبيل التشبه بهم، وقد جاء النص في النهي عنها، ويدخل في ذلك كل لون من ألوان التشبه بهم، ما جاء عن النبي ﷺ في صحيح مسلم من النهي عن الأكل بالشمال، والشُرب بالشمال، لماذا؟

قال: فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله[7] جاء هذا عن جماعة من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كابن عمر وغيره، الأكل بالشمال، والشُرب بالشمال، فهذا لا يجوز قصد أو لم يقصد، إلا إذا كان فيه علة فهو معذور، كأن تكون يده شلاء أو كسير، أو نحو ذلك، والرجل الذي قال له الرسول ﷺ: كل بيمينك قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه[8].

فعندنا إذًا مما ذكره شيخ الإسلام في المنع من التشبه التشبه بالكُفار بأنواعهم، التشبه بالشياطين، لو كان يُمثل هذا، يعني: يُحاكيهم من قبيل التمثيل، نقول: لا يجوز التشبه بالكفار، أو يُمثل دور الكافر، أو دور الشيطان.

وهناك أشياء ذكرها شيخ الإسلام أيضًا كالتشبه بالأعاجم، أما الأعاجم الكفار فإنه لا يجوز التشبه بهم، والكلام فيهم كما قيل في الكفار إضافة إلى العُجمة، يعني: العُجمة نقص، والكفر ظُلمة، فإذا تشبه بالأعاجم الكُفار، فهذه ظُلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرها، أما إذا كان هؤلاء الأعاجم من المسلمين فإنه يُكره التشبه بهم، يُكره أعاجم من المسلمين، مثل ماذا؟ مثل ما اُبتلينا به اليوم؛ كثير من النساء يسألن، هذه التي تسأل ما حكم لبس البنجابي، للأسف، يعني: كأن هؤلاء يعيشون في فراغ، ما عندهم شيء، الآن موضة التشبه بالكوريين لدى الفتيات، ما وجدوا غير الكوريين؟! هؤلاء الذين يأكلون ما هب، ودب، ودرج، حتى أُم حُبين، في كوريا تُأكل الكلاب الله يعزكم، والحمير، والحشرات، والحيات، والعقارب، ويتفننون في صُنع الطعام فيها، ويقف عندهم السواح الغربيون بالطوابير، حتى يُحصل كل واحد منهم حلقة من هذه الحية، الأفعى، يأكلها بعود، والحية لم تمت بعد، يعني: تُقطع من آخرها، ويقفون طوابير كل واحد يشتري حلقة، ويقفون طوابير، ويؤتى بالقرد، ويوضع رأسه على طاولة كهذه مثقوبة، ثم يوضع ما يُمسك هذا الرأس، ويضغط عليه بآلة مُعينة، ثم يُشدخ هذا الرأس بساطور، أو سكين حاد؛ فيظهر الدماغ، والقرد حي، ثم يأخذون من هذا الدماغ، ويأكلون، والغربيون بالطوابير، ويتلذذون، ويتضاحكون، ويشعرون بالنشوة، فهؤلاء للأسف هذه حالهم.

ولما أقيمت دورة عالمية في الرياضة قبل حوالي ست سنوات في كوريا، أُجريت مُقابلات مع بعض القائمين على البرنامج، ماذا كان بعضهم يقول: ونُشر هذا في وسائل الإعلام؟ قال: هي فرصة؛ من أجل أن نُعرف العالم بثقافتنا من الطعام، والعادات، وغيرها، يعرفون العالم، يفتخرون بثقافتهم، وأكلهم لهذه الحشرات، والكلاب -أعزكم الله-.

فالمقصود التشبه بالأعاجم المسلمين يُكره، وبالأعاجم الكفار يحرم، فيكون فيه علتان: الكفر والعُجمة، ومما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- التشبه بالفُساق، وأهل البدع، فإن هذا أيضًا لا يُحاكي الإنسان المؤمن، التقي، لا يُحاكي الفجار والفُساق، وكذلك ذكر التشبه بالأعراب الذين هم سُكان البادية يقصد الذين يقطنون في نفس البادية، لماذا؟ قال: لأن من طبعهم من عادتهم الجفاء، ولهذا قال النبي ﷺ: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل[9] لأنهم يعتمون بالإبل، فهذا ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، لماذا؟ لأن كون الإنسان يتشبه بهذه الأشياء التي هي من الجفاء أو الجهل، هذا أمر لا يُحمد، وإن كان هؤلاء ليسوا سواء، والمقصود الصفات الناقصة حيث وجدت، وقد يوجد عند أهل القرى والأمصار من النقائص ما لا يوجد عند البادية، كما يوجد عند البادية أشياء مرجعها غالبًا إلى الجهل أو الجفاء تقل عند أهل الأمصار، وإن وجدت في بعضهم، المقصود عدم التشبه بما كان من قبيل النقص، واليوم الناس يخلطون في مثل هذه القضايا، الأعراب إذا قيل الأعراب يظنون أن ذلك يصدق على من كان أصله قبل نحو مائة سنة، أو مائتين سنة، أو ثلاثمائة سنة، أصله من البداية، لا، المقصود الذي يسكن في البادية، فهو لا يحضر الجُمع ولا الجماعات، ولا مجالس الذكر، ولا مجالس العلم، ولا هذه الأشياء، فهو مظنة، أما الصفات الحميدة التي فيهم لا شك أن هذا مما يُطلب، وتُكمل به النفوس.

سؤال: الشيخ يسأل، يقول: علة المنع في مسألة التشبه بالأعاجم باعتبار أن العُجمة نقص؟ العرب هم أشرف الأجناس من حيث الجنس، أشرف الأجناس، بدليل أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، وقريشًا من كنانة، وبني هاشم من قريش، واصطفى النبي ﷺ من بني هاشم، فلا شك أن جنس العرب أفضل وأشرف من سائر الأجناس، وهم أوفى عقولاً، وأحسن فهمًا، وأقدر على القيام بوظائف الدين في قيادة الأمم، وأسلم فطرًا، إلى غير ذلك من الأوصاف المعروفة، لكنهم لا يعرفوا قدرهم، وضيعوا كثيرًا مما أمرهم الله به؛ فصاروا يمثلون العالم الثالث.

فالمقصود أن جنس العرب أشرف، لكن إذا دخل أولئك الأعاجم في الإسلام، فهنا يقال: طف الصاع، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، لكن الكلام على الجنس، كجنس، ليس الأفراد، جنس العرب أشرف من جنس الأعاجم، بدليل أن الله اختار الرسالة الخاتمة فيهم، ولغة القرآن الذي هو خاتم الكتب، وأشرف الكتب هو باللغة العربية، بلسان عربي مُبين، فكان لهم هذا الشرف الذي حصل باختيار الله -تبارك وتعالى- عن علم، وحكمة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] يمتن عليهم بهذا.

وكذلك أيضًا ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه مما يؤخذ منه هذا المعنى، فصار جنسهم أفضل من سائر الأجناس، أما الأفراد، ولهذا قال الله في هذه السورة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3] فإن من الأقوال المشهورة فيها: لما يحلقوا بهم في ماذا؟ بعض السلف قال: لما يحلقوا بهم في المرتبة والشرف[10] يعني: لم يكن يحصل لهم هذا الشرف، يلتحق الأعاجم بالعرب؛ فيساوونهم في المرتبة والشرف لولا الإسلام، ولهذا قال: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4]، قال بعض السلف: لحوق الأعاجم بالعرب في المرتبة والشرف[11].

مداخلة... [34: 28].

لا لا، هذه بالنسبة للعادات والصفات واحدة، والعلماء تكلموا على المُفاضلة، هل العرب أكفاء لبعضهم، أو لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، ولا تتعلق بالتشبه؛ لأن هؤلاء لا يتميزون بشيء من العمل، أو العادات عن غيرهم من الناس، وما فعله بعض الناس في القرون المتأخرة من لبس عمامة بلون مُعين لبعض الناس كالهاشمي، أو نحو ذلك، فهذا لا أصله له، ولا يُبنى عليه حكم، لكن عادات الأعاجم تختلف، قد يتشبه بهم باللغة، وقد يتشبه بهم في أمور العادات، وقد يتشبه بهم أيضًا في أمور الدين إذا كانوا غير مُسلمين.

مداخلة: شيخ إذا اجتمع، مثل اللباس هو موجود عند الأعاجم المسلمين، وموجود عند الأعاجم الكفار؟

إن لم يكن من خصائص الكفار، فهذا يقال فيه: بإطلاق الكراهة، بالنسبة للأعاجم إذا كان من زي الأعاجم.

"اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخُلق والدين تأثيرًا قويًّا بينًا بحسب تلك اللغُة".

هذه فائدة شريفة؛ اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخُلق والدين، كما أنه يؤثر أيضًا في مُشابهة صدر هذه الأمة وخيارها من أصحاب القرون المفضلة، فشيخ الإسلام يقول: فإن مُشابهة هؤلاء، يعني: القرون المفضلة يزيد العقل والدين والخُلق، وكون اللغة تحمل ثقافة، وتؤثر في عقل الإنسان، وفي خُلقه، وفي دينه هذا أمر يتفق عليه العقلاء، فالباحثون والدارسون في العصر الحديث من مُختلف الأُمم يتكلمون على أن اللغة ليست مجرد لغة مُفرغة من الثقافة، إنما هي تحمل ثقافة، فهذا الذي يدرس اللغات الأعجمية سيكون لهذه اللغات أثر على نفسه، لكن متى يظهر هذا الأثر، ويقوى؟ إذا اعتادها، يعني: صار يستعمل هذه اللغة، ويتفاهم بها، ويتعامل بها، وصار كالأعاجم من كثرة ما يتحدث بها، فهذا يؤثر فيه ولا بد، ومن هنا كانت خطورة تعليم الصغار الناشئة للغات الأعجمية منذ نعومة أظفارهم، مع ما فيه من المفاسد من جهة مُزاحمة اللغة الأم، وهذا كُتب فيه بحوث كثيرة، لو نظرتم في النت ستجدون أبحاثًا جيدة وناضجة فيما يتعلق بأثر تعلم اللغات الأعجمية على الناشئة منذ نعومة أظفارهم، على الصغار.

"علينا أن نعرف المنكر معرفة تُميز بينه وبين المُباح والمكروه والمُستحب والواجب؛ حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه".

يعني: الآن المُنكر يقصد أننا نعرفه هذه المعرفة الجُملية التي يحصل بها التمييز بين المُنكر والمُباح والواجب والمُستحب، هذا القدر هو المطلوب، دون الدخول في معرفة تفاصيل في المنكر؛ لأن المُنكرات لا تُحد، إنما يُعرف معرفة إجمالية يحصل بها التمييز؛ لأنه إن لم يعرف المنكر لم يُميز بين الحق والضلال، والطاعة والمعصية، أو السنة والبدعة، ولذلك قد تجد من يُنكر بعض السُنن، أو قد يفعل بعض البدع والمُحدثات والمنكرات على أنها من قبيل الطاعات والقُربات، وقد يفعل أشياء من هذا القبيل على أنها من قبيل المُباح، لا يُميز بين المعروف والمُنكر، وهذا يكون عادة إذا تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن أيضًا هناك إشاعة للعلم الشرعي، فالعلم يجب أن يُشاع، ويُبذل، ويكون في المساجد من أراده يصل إليه، ويُبذل بالوسائل المُتاحة التي تصل إلى الناس، فإذا ضُعف ذلك، وانحسر صار الناس لا يُميزون، ولذلك تذهب في كثير من البلاد المرأة مُتبرجة في غاية التبرج، ولا تعلم أن هذا لا يجوز، تجد الرجل يُدخن، ولا يعلم أن هذا التدخين لا يجوز، أما المعازف وأصوات المعازف في جوّالاتهم وفي أسواقهم وفي كل مكان فهذه لا تكاد تجد من ينكرها؛ لأن هذه عندهم ليست من المُنكر أصلاً، ما سمعوا أحدًا يقول: إن هذا من المُنكر، وهذا يسري في الناس شيئًا فشيئًا حتى يعُم.

يعني: انظر إلى التصوير مثلاً عندنا، قبل عشرين أو ثلاثين سنة، أو نحو ذلك ما كان أحد يجرؤا يصور بجميع أنواع الصور، وانظر الآن الذي ينكر، ويقول: لا تصور هذا يُعتبر غُربة، غريب، مُتشدد، كيف يقول: التصوير حرام؟ يُستغرب منه مثل هذا، التصوير حرام؟! هذا كيف وقع؟ لما سكت الناس عن الإنكار، فنشأ جيل وجد أهل الصلاح والخير ونحو ذلك يتعاطونه بلا نكير، فأولئك الذين وقع لهم مثل هذا في سائر الأمور إنما كان بهذه الطريقة، فيفشوا المنكر، ثم بعد ذلك ينشأ جيل على هذا المنكر أو البدعة يعتقدون أنه من الدين، أو لا غضاضة فيه، أنه من المُباح، وهكذا.

"حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه، كما نعرف سائر المحرمات، إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المُنكر لا جملة ولا تفصيلاً لم يتمكن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجُملية كافية بخلاف الواجبات، فإن الغرض لما كان فعلها والفعل لا يتأتى إلا مُفصلاً وجبت معرفتها على سبيل التفصيل".

هو هذا، فهنا حينما نقول: نتعلم العلوم الشرعية نتعلم أحكام العبادات، والمعاملات، والعقائد، فإن ذلك يُحتاج معه إلى معرفة تفصيلية، لاسيما ما يتعلق بالمُكلف، كل بحسبه، أما البدع والمنكرات ونحو ذلك تكفي المعرفة الإجمالية، ولا يُحتاج إلى معرفة التفاصيل، فنعرف مثلاً إذا قلنا -على سبيل المثال-: أن صلاة التسابيح مثلاً لا يصح فيها حديث، وأنها من قبيل البدعة، إذا قلنا هذا؛ فيكون ذلك يدخل فيه سائر الصيغ، والصور التي جاءت، أو رويت لهذه الصلاة، فما يحتاج الإنسان يحفظها، وهذه الصيغة من الحديث الفلاني، وهذه من الحديث الفلاني، وهذه كم ركعة، وهذه ماذا يقرأ في الأولى والثانية، ما يحتاج هذا، يكفي أن يعرف أن هذه الصلاة غير مشروعة مثلاً، وقل مثل ذلك في بِدع رجب، كثيرة جدًا، ولو قرأتم في بعض الكتب التي تذكر البدع في المواسم، مثل كتاب ابن الحاج: "المدخل"، اقرأ فقط الفهارس، لا تقرأ في الكتاب إن شئت، فقط الفهارس، ستجد أن هذه البدع من الكثرة بحيث يمكن ألا يفي بها الزمان.

يعني: لو أراد إنسان أن ينقطع لفعلها ليلاً ونهارًا، في كل يوم ماذا يوجد فيه؟ وفي كل مناسبة، وفي كل شهر، وفي كل جمعة إلى آخره؛ فإنه يحتاج إلى أيام مُضاعفة، يعني: بدلاً من أربعة وعشرين ساعة حتى يستطيع القيام بهذه الوظائف البدعية، اقرءوا فقط في الفهارس، فيكفي الإنسان أنه يعرف معرفة إجمالية.

"لو أقام العلماء كتاب الله، وفقهوا ما فيه من البينات، التي هي حُجج الله، وما فيه من الهُدى، الذي هو العلم النافع والعمل الصالح، وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله محمدًا ﷺ وهي سنته لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يُحيط بعلم عامة الناس، ولميزوا حينئذ بين المحق والمُبطل من جميع الخلق بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة، حيث يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ البقرة:143] ولاستغنوا بذلك عما ابتدعه المُبتدعون من الحُجج الفاسدة، التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين، ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يُتمون به فروع الدين، وما كان من الحُجج صحيحًا، ومن الرأي سديدًا، فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله، فهمه من فهمه، وحُرمه من حُرمه".

يقصد أن نصوص الكتاب، والسنة وافية بكل ما يحتاج إليه الناس لإقامة العبودية لله -تبارك وتعالى- وسلوك الصراط المستقيم، والوصول إلى دار كرامته، لا يحتاجون معها إلى تكميل، ولكنه قد تقصر بعض الأفهام، ومن ثَم يحصل هذا الترقيع؛ تارة بالبدع والمُحدثات، وتارة يكون ذلك بالتشبه بأعداء الله ، وتارة يكون ذلك بأمور أخرى من أقيسة وقواعد وأصول كلامية، أو الإيغال في الرأي في الكلام في المسائل الفقهية، فكل ذلك لا حاجة إليه، إنما وقع فيه من وقع لقصور فهمه، فهؤلاء الذين ابتلوا بالعلوم الكلامية ظنوا أن النصوص نصوص الوحيين لا تفي بهذا المطلوب، فطلبوا ذلك في كلام الفلاسفة، الذين ظنوا أن نصوص الكتاب والسنة لا تفي بتهذيب السلوك استمدوا ذلك من الأُمم الأخرى، التصوف البدعي، من الرهبنة والجوع والتشديد على النفس، وما إلى ذلك إذا تتعبته تجد أصوله تارة عند الرومان ونحوهم، وتارة عند بعض الأمم الشرقية من الهند والفُرس، بنفس الأفعال، وأحيانًا بنفس الأسماء.

وهكذا أولئك الذين يُرقعون في أبواب السياسة مثلاً، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- كما مضى، السياسات الجائرة، يعني: السياسات المُخالفة للشرع، لماذا يجعلون لها هذه الطرائق التي يسيرون عليها، وهي مُخالفة للشرع أحيانًا؛ لأنهم يعتقدون أن الشرع لا يفي بذلك، فتأتي السياسات الجائرة.

الذين يأتون بقوانين، كما بدأ ذلك منذ عهد بعيد، قبل سليمان المُشرع، سليمان القانوني، لكن هو الذي اُشتهر بهذا، وإلا وجد ذلك في الدولة العثمانية قبله، فمثل هذه الأمور لماذا جاءت؟ لأنهم أقفلوا باب الاجتهاد، فبقيت المسائل المُستجدة لا حكم لها، فاحتاجوا إلى الترقيع بقوانين وضعية مُخالفة للشريعة.

وقل مثل ذلك في صور كثيرة في عصرنا هذا مثلاً، هذه الاقتباسات من الفلسفات الغربية المُعاصرة في قضايا السلوك والتربية، وما يُسمى مهارات، وغير ذلك، يعني: تُربى فيها النفوس، ويقوم ما فيها من الاعوجاج، والنظريات الغربية في علم الاجتماع، وعلم النفس، والتربية، هذه كثير منها فاسدة أو ناقصة، لماذا تهافت هؤلاء عليها، واشتغلوا بها، ودرَسوها، ودرَّسوها، وألفوا فيها الكتب، وفرعوا فيها المسائل؛ لأنهم ما عرفوا أصلاً حقيقة ما جاء في الوحيين.

ولذلك إذا جلس معهم أحد يُبين لهم بطريقة صحيحة واضحة ما جاء في الشرع مما يفي بهذه الأشياء التي جلبوها، ويزيد عليها بأوجز عبارة كما يقول: شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: فهذا الذي يأتون به هذا الكلام الكثير إن كان حقًا؛ فتجده في نصوص الوحي بأوجز عبارة، لكن هؤلاء ما وقفوا عليه، وما عرفوه أصلاً، فيظنون أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالقرآن أو بالسنة، أو أن السنة لم تأتِ بها، أو أن القرآن لم يأتي بذلك، فيبحثون هنا وهناك، فما يوجد في الكتاب والسنة يحصل به المطلوب للنجاة والهداية.

وأما قوله -تبارك وتعالى-: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] فالراجح أنه اللوح المحفوظ، ولكن الله حكم لهذا الكتاب بأنه هُدى للناس، وقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فإذا نُزلت جميع أنواع الاستنباط والدلالة المعروفة: من مُطابقة، ومن منطوق ومفهوم، والمنطوق بأنواعه: مطابقة، وتضمن، والتزام، وإيماء وتنبيه، إشارة، وكذلك أيضًا المفهوم: الموافقة والمُخالفة، الموافقة الأعلى والمساوي، والمُخالفة بأنواعه، فإذا نُزلت هذه على النصوص؛ تفجرت أنواع العلوم والهدايات، وظهر من ذلك من بحور العلم ما لا يُقادر قدره، وإنما تستخرج الأذهان منه على حسب القرائح والفهوم.

فالعلماء يغوصون فمنهم من يصل إلى الأعماق، ويستخرج من ألوان الدُر، وبعضهم يقصر دون ذلك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا زال القرآن يستنبط منه العلماء، ويستخرجون من الهدايات، ولا يقف ذلك في عصر دون عصر.

"ولا ريب أن من فعل البدع متأولاً مُجتهدًا أو مُقلدًا؛ كان له أجر على حُسن قصده، وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المُبتدع مغفورًا له إذا كان في اجتهاده وتقليده من المعذورين، لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها، والتحذير منها، والاعتياض عنها بالمشروع".

هذا الكلام هو في غاية الأهمية، شيخ الإسلام يُقرر أن هذا الإنسان الذي لربما وقع في بدعة متأولاً؛ مُجتهدًا أو مُقلدًا أنه قد يؤجر، يؤجر بأي اعتبار؟ يؤجر أنه قصد طاعة الله، قصد الخير، ولكنه ما أصابه، إذا كان متأولاً، وكان ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- شيئًا من هذا الكلام على بعض المواسم البدعية، كالمولد النبوي، ونحو ذلك أن هؤلاء قد يؤجر الواحد منهم إذا كان متأولاً، يعني: لم يُبين له الحق، ويوضح، وتُقطع شُبهته، فهذا قد يؤجر على حُسن قصده، وهذا هو العدل، يعني: هذا العمل باطل، والله لا يقبل إلا ما كان خالصًا صوابًا، ولكن هذا الإنسان قد يؤجر على قصده، على نيته، ما هي نيته؟

ليست نيته البدعة، وإنما نيته طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، فظن أن هذا من طاعة الله وطاعة رسوله، فيؤجر على هذا القصد، هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-، وهذا هو الاعتدال في هذه المسألة، ولذلك نقول: ليس كل من وقع في بدعة يُقال: إنه مُبتدع، كما أنه ليس كل من وقع في كفر يُقال: إنه قد كفر، ولكن العمل يكون مردودًا: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد[12] ولا يلزم بالضرورة أن يكون هذا المُجتهد أو المتأول تأويلاً سائغًا، يعني: أحيانًا يكون بناء على تصحيح حديث وتضعيفه، فإن ذلك لا يكون حطًا من مرتبته، إذا كان بهذه المثابة، بخلاف من لم يكن بهذه المثابة، فإن ذلك يكون حطًا من مرتبته ولا بد.

لكن هنا هذه الجملة، يقول: لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها، والتحذير منها، والاعتياض عنها بالمشروع، ولذلك قد يصدر بعض الأشياء من بعض خيار الأمة، ويرى بعض أهل العلم أن هذا الفعل لا يصح فيه الحديث، وأنه بهذا الاعتبار يكون من التعبد لله بما لم يشرع، فهل يقال: إن هذا مُبتدع؟

الجواب: لا، ولكن يُقال: لا يُتابع على هذا الفعل، ويُبين أن هذا العمل غير مشروع، وإن صدر من بعض خيار الأمة، قد يختلف الصحابة في أشياء، بعضهم يرى أن هذا العمل ليس له أصل، فهل يقال لهؤلاء الذين اجتهدوا، وظنوا أن ذلك من الدين: بأن هؤلاء وقعوا في البدعة، وأنهم يُنسبون إليها؟ الجواب: لا، فهم معذورون.

"وفي البدع مفاسد كثيرة، وإثمها أكبر من نفعها".

مفاسد البدع كثيرة جدًا، وإثمها أكبر من نفعها، يعني: ما يتوهم إن فيها منافع، الذي يقيم المولد النبوي مثلاً، ويقول: نُذكر الناس بالسيرة، وفُرصة لجذب الناس، وإحياء الاقتداء بالنبي ﷺ في نفوسهم، فنجذبهم بهذه المُناسبات، نجذبهم في مُناسبات في شعبان، أو في رجب، أو نحو ذلك، مناسبة الإسراء والمعراج، الهجرة النبوية، فيقيمون بعض الطقوس والاحتفالات، ونحو ذلك بصورة دورية، يعني: حولوا ذلك إلى عيد، فمثل هذا يقال: لا يُشرع، وإن وجد فيها بعض المنافع المتوهمة، فإن مفاسدها أكبر.

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في الاقتضاء ستة مفاسد للبدع من شاء فليُراجعها[13].

وذكر ابن القيم -رحمه الله- أكثر من هذا، ذكر أربعًا وعشرين مفسدة في مدارج السالكين، والشاطبي -رحمه الله- تكلم في ذلك إجمالاً وتفصيلاً، وأفاض فيه في كتابه الاعتصام، وأرجع ذلك إجمالاً إلى أنها تنحصر في أمرين، يعني: مفاسد البدع تنحصر في أمرين: الأول أنها مُضادة للشارع، وهي مُراغمة له، فهذا الإنسان المُبتدع نصب نفسه مُستدركًا على الشارع[14] يُكمل، ويأتي من العبادات والأعمال ما لم يأذن به الله -تبارك وتعالى-، ويكفي هذا شرًّا مُستدرك على الشارع، ما الحال التي تكون أسوء من هذا، فهو لا يكتفي بما حده الشارع، ويقف عنده، بل يتجاوز ذلك.

المفسدة الثانية: أن كل هذه البدع هي في الواقع تشريع باطل، يُشتغل بباطل، أو ناقص، يعني: هي تشريع إما باطل وإما ناقص لما فيها من التحريف أو التبديل أو التغيير للأصل، النقص مثل ماذا؟ يكون أصل العمل مشروعًا، أو ما يُسمى بالبدع الإضافية، أصل العمل مشروع، لكنه نزله في موضع لم يُنزله فيه الشارع، كأن يقول: هذا يُفعل بعد الصلاة الفلانية، أو بعد كل صلاة، أو يُفعل هذا مثلاً في الصباح أو في المساء، ولم يُقيده الشارع في هذا، وإن كان مشروعًا في أصله، كما لو قال مثلاً: قراءة سورة: "إذا جاء نصر الله والفتح" بعد الفريضة ثلاث مرات، قراءة: "قل هو الله أحد" بعد صلاة الظهر أحد عشر مرة، هي ثلث القرآن، لكن لم تُقيد بهذا، بالعدد، أو في هذا الوقت، أو في الحالة المُعينة، كأن يقول: إذا خاف الإنسان وفزع يقول: كذا، مما لم يرد عن الشارع، وهذه الأشياء بعضها الآن -للأسف- تنتشر عن طريق رسائل بالجوال، تارة تُنسب إلى قائلها، وتارة لا تُنسب حتى إن بعض الأشياء أحيانًا يُشك هل هي من رافضة، من مواقع رافضية، أو مصدرها ومنشأها منهم، وتنتشر عند الناس، وأحيانًا من بعض من تُنسب إليهم هذه الأشياء، فيقول: هذا مُجرب، فيأتي بأدعية مُعينة تُقال في المكان الفلاني، لم ترد عن الشارع، فما ورد من الدعاء المشروع ففيه غُنية عن هذه الأشياء المُركبة، التي تُقيد في أمكنة أو أحوال معينة، ويقال: هذا مُجرب، لسنا بحاجة إلى هذا، ولا إلى هذه التجارب، وللأسف هذه الأشياء تنتشر انتشار النار في الهشيم، وهذا خطأ.

"طريقة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم، وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة، فإن ذلك كثير التعب، قليل الفائدة، أو موجب للضرر، ومثل النبي ﷺ مثل طبيب دخل على مريض، فرأى مرضه، فعلمه، فقال له: أشرب كذا، واجتنب كذا، ففعل ذلك؛ فحصل غرضه من الشفاء، والمُتفلسف يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض، وصفته، وذمه، وذم ما أوجبه، ولو قال له مريض: فما الذي يُشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام".

شيخ الإسلام ذكر هذا الكلام في سياق الكلام على قضايا يزعم أصحابها أن لها تأثيرات، كتلك التخرصات التي يزعمها بعض المُتفلسفة من أهل الفلك، أن هذه الأفلاك العلوية لها تأثيرات أرضية، ونحن نعلم أن الله هو مُدبر هذا الخلق، وهو مكور هذه الأفلاك، مع أننا لا نُنكر أن الله -تبارك وتعالى- قد رتب هذا الخلق ترتيبًا دقيقًا، وجعل هناك بعض الأسباب التي ينشأ عنها بعض المُسببات، وإذا أراد لم يقع ذلك، فهذا من حيث الأصل لا إشكال فيه، لكن ما يقوله هؤلاء الفلاسفة، وأهل الفلك من مزاعم في تأثيرات لهذه الأفلاك العلوية، في أمور أرضية، ولهذا تجد من يتقرب إليها، أو يُعقد السحر أحيانًا، وهو أسوء أنواع السحر، يُربط بمنازلها، وحركاتها، وجريانها، وما أشبه ذلك، فهذا كله باطل.

وذكر شيخ الإسلام أن هذه الأشياء التي يزعمون، وما يكون من قبيل المُحرمات أن ذلك لا يجوز تعاطيه بصرف النظر عما ينشأ عنه، يعني: مثلاً السحر، السحر الصحيح أنه يقتل بإذن الله، ويُمرض بإذن الله، ويُفرق بين المرء وزوجه بإذن الله، كما قال الله : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102].

فهذا السحر له أثر، لكن بإذن الله وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] فهذا السحر، الرُقى المحرمة كذلك أيضًا الرُقى الشركية النبي ﷺ كان يعرضون عليه رُقاهم، فقد يكون لبعض هذه الرُقى بعض التأثيرات؛ فتنة للناس، أو استعانة بالشياطين، وهو فتنة أيضًا لهم، لكن هل هذا يجوزها، ويسوغها، وتعرفون أثر ابن مسعود : لما دخل على امرأته، وكانت عينها تقذف، وقد علقت خيطًا، فنزعه نزعًا شديدًا، فأخبرته أن يهوديًا قد عمل لها مثل هذا لأنها عينها تقذف، فإذا وضعته؛ كف عنها، فأخبرها ابن مسعود -رضي الله عنها- أن ذلك شيطان ينخسها، فإذا وضعت ذلك كف عنها فتنة[15].

وهكذا أحيانًا يكون بإسقاط الحمل، ينخسه شيطان؛ فيسقط، فإذا وضعت التميمة؛ لم يسقط، فتنة لهؤلاء الناس، فهذه التأثيرات هي تأثيرات محرمة، ولا يجوز تعاطيها، والضرر فيها أعظم وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ [البقرة:102].

وكذلك أيضًا أشياء أخرى من الأدعية المُحرمة، ونحو ذلك، الأدعية، يتحرى القبور، إما أنه يدعو أصحابها، أو يدعو عندها، شيخ الإسلام، وكذلك ابن القيم[16] ذكروا أن هؤلاء الذين يدعون عند القبور قد يُستجاب لأحدهم، إما لحضور قلب وخشوع، أو نحو ذلك، أو يكون ذلك للفتنة، فيعتقد أن هذه البُقعة لها مزية في الدعاء، فيتهافتون يدعون الله عندها، فهذا لا يجوز، فشيخ الإسلام يقول: قد يحصل مقصوده، ولكنه خاسر بهذا الفعل، فمثل هذه مُضرة[17].

بخلاف الأسباب المشروعة، فالدعاء ينفع بإذن الله -تبارك وتعالى-، كذلك صلة الرحم من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه[18]، كذلك أيضًا الصدقة، فإنه يكون بها من دفع البلاء، ودفع المكروه ما لا يخفى، فهذه الأشياء من الأسباب المشروعة، يتعاطها المؤمن.

وهناك أسباب مُباحة: كالتداوي بالأدوية المُباحة، فهذا أيضًا لا إشكال فيه، فشيخ الإسلام يتحدث عن هذه القضية، ويقول: بأن طريقة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هو توجيه الناس للشيء النافع، دون الاشتغال فيما لا ينفعهم، فالفلاسفة يُحللون، ويتكلمون عن التأثيرات، والأمور المؤثرة، ولماذا، لا، الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما يشتغلون بهذا، ولا يشغلون الناس فيه، مُباشرة يوجهونهم إلى الأمور النافعة، افعلوا كذا، يوجهونهم إلى الدعاء، إلى الصدقة، إلى الزكاة، وأداء الزكاة، يوجهونهم إلى صلة الرحم، ونحو ذلك، فيقول: هذا مثل الطبيب، فالمُتفلسف مثل الطبيب الذي يصف له بالتفصيل، يصف للمريض، كيف تقع هذه الأمراض، وكيف تنشأ، وكيف تتطور، وما هي مراحلها، وأطوارها، وما هي أسبابها المتنوعة، المختلفة في العالم، وما هي مظاهرها، وأعراضها، وما هي أنواعها المختلفة، طيب، ثم ماذا؟ طيب باقي العلاج؟ يقول: وقد يعجز عن العلاج.

وهذا مثل بعض الناس الذي يقولون أحيانًا: أنهم يُعالجون بالطب البديل، أحيانًا، بعض هؤلاء، إذا أتيته بهرك في ذكر تفاصيل العِلل، وأسباب العِلل، بطرق معلومة، يعني: تُدرس، ينظر إلى العين، وتارة ينظر إلى الكف، ليس من باب قراءة الكف والكهانة، لا لا، علوم معروفة، يعرفونها من أشياء مُعينة، يعرفون هذه من لون العروق هنا، يعرفون من لون العروق هنا، يعرفون أشياء معينة ميل هذا الأصبع ماذا يعني، بأشياء في الجسم، فيقول لك: أنت تُعاني من كذا في الكُلى، أنت تُعاني من ألم في أسفل الظهر، أنت تُعاني من ألم في أعلى الرأس، أنت تُعاني من كذا، أنت تُعاني من ضغط في الدم، ارتفاع في الضغط، صحيح يعطيك معلومات دقيقة، ولا يعمل أشعة، ولا شيء، وهذا شيء مُشاهد، ويُدرس.

البلاد الشرقية يدرسون هذا باستفاضة، وإذا شئت درسك إياه، يعني: عنده أشياء هي تتُعلم، وتُدرس، وليست من الكهانة في شيء، لكن حينما يصف لك هذه الأشياء، طيب ما هو العلاج؟

نحن عرفنا العلة ما هي، قد يعجز، فالمريض ليس بحاجة إلى هذه التفاصيل في منشأ العلل، وتنوعها، وأسبابها، وما إلى ذلك، هو بحاجة إلى العلاج، فالفلاسفة يُطيلون في الأول، ويغفلون الثاني، مثل الذي يتكلم في أسباب الانحراف، هذا يُحتاج إليه في الجُملة، لكن هو مُمعن، موغل في هذه القضايا، طيب ما هو العمل؟ البناء الذي تُبنى فيه النفوس، وتُعمر القلوب، وتُعمر، قد لا يكون عنده من ذلك شيء.

قال -رحمه الله-:

"ومن الرد على البكري".

الرد على البكري؛ اسمه: "الاستغاثة"، هذا الكتاب، كتاب: "الاستغاثة" طُبع بأكثر من تحقيق، طُبع في مُجلدين، والكتاب للأسف ناقص لم يصل إلينا كاملاً، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- له تلخيص لهذا الكتاب يشمل الجزء الناقص الأول من الكتاب، ولذلك فائدة تلخيص ابن كثير يمكن أن يقال: إنها بالدرجة الأول، في أننا وجدنا أشياء من الناقص عبر هذا التلخيص، ثم هذا التخليص حذف فيه ابن كثير -رحمه الله- بعض الاستطرادات، التكرار دمجه في موضع واحد، وكذلك زاد من عنده أشياء في هذا التخليص، خاصة ما يتعلق ببعض الروايات في مسائل القبور، ونحو ذلك، فهذا التلخيص في طبعته القديمة، وقد حُقق أيضًا هذا التخليص، لكن ليس كل ما في التخليص هو من كلام شيخ الإسلام بنصه، بل فيه زيادات من الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.

هذا الكتاب أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في كتابه البداية والنهاية، وأشار إلى البكري هذا المتوفى سنة 724هـ، وهو علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي المصري[19] هذا هو أصلاً رد على شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب مليء بالجهالات والأخطاء والعيوب مما يُزري بمؤلفه، يعني: حتى الذين هم لربما على شاكلته، أو قريب منه، أو لا يريدون شيخ الإسلام أنكروا عليه هذا الكتاب الذي هو في غاية الضعف، والمُغالطة من الناحية العلمية، فالكتاب يتحدث عن مسألة الاستغاثة بالمقبورين، هذا أصل موضوع الكتاب، الاستغاثة بالمقبورين، بالأموات من الأنبياء، النبي ﷺ وسائر الأنبياء، وكذلك من يُسمونهم بالأولياء، وأنه لا يُستغاث بهم.

فابن كثير يقول: إنه رد على شيخ الإسلام، هذا البكري رد على شيخ الإسلام في كلامه على هذه المسألة، أنه لا يُستغاث بهؤلاء المقبورين، يقول: ابن كثير، وهو شافعي، يقول: بأنه رد عليه في هذه المسألة ردًا أضحك فيها على نفسه العُقلاء، هذا كلام ابن كثير، وشمت به فيها الأعداء؛ لأن مثله مثل ساقية صغيرة، كدِرة الماء، لاطمت بحرًا عظيمًا، صافي الماء، قد مُليء دُرًا، وجوهرًا، وحكمة، وعلمًا، يقول: هذا الذي يرد على شيخ الإسلام البكري هذا مثل قليل ماء كدِر، يرد، يُقابل بحرًا من النقاء، والصفاء، والطُهر، بحرًا مُتلاطمًا من العلم الصحيح.

يقول: أو كرملة صغيرة أرادت زوال جبل شامخ عن محله، رملة تُريد أن تُزيل جبلاً، يقول: ولهذا قال عنه شيخ الإسلام: بأن كلامه لا يتكلم به أحد من أهل العلم والإيمان، وإنما يتكلم به أعور بين عميان، يروج عليهم بسبب ضلالهم وإضلالهم، ما يقوله من الهذيان، ويقول شيخ الإسلام: رأيت أن مثل هذا لا يُخاطب خطاب العلماء، وإنما يستحق التأديب البليغ، والنكال الوجيع، الذي يليق بمثله من السُفهاء، إلى آخر ما قال، يعني يرى شيخ الإسلام، وهذا كلام ابن كثير، وغيره: أن هذا أصلاً جاهل، هو لا يُرد عليه بما يُرد على أهل العلم، لكن للأسف الكتاب -كما قلت- ناقص، وطُبع مُحققًا أحد هذه التحقيقات هو رسالة علمية في جامعة أُم القرى، والثاني رسالة علمية في الجامعة الإسلامية.

والتلخيص أيضًا حُقق، كتاب يتحدث عن طريقة الاستغاثة، لكن كطريقة شيخ الإسلام تكلم فيه حينما يتكلم عن هذه القضايا بحر يتفجر، وتكلم عن قضايا تتعلق بالقبور، ومسائل تتعلق بالسماع، سماع المقبورين الموتى، وتكلم على قضايا تتعلق بالتوسل، وأفاض فيها إلى غير ذلك، من شاء فليُطالع في هذا الكتاب.

"الأحاديث المنقولة في زيارة قبر النبي ﷺ كلها ضعيفة، بل موضوعة، وليس في السنن منها حديث واحد، فضلاً عن الصحيحين، ولا احتج بها أحد من الأئمة".

نعم، هذه الأحاديث التي فيها حث أو بيان فضل زيارة قبر النبي ﷺ لم يصح من ذلك حديث واحد، لا في شد الرحل، ولا في الزيارة، ولهذا شيخ الإسلام يرى أن السلف الصحابة حينما كانوا يأتون حينما كانوا الذين هم في المدينة ما كانوا يأتون إلى القبر، وإنما يصلون على النبي ﷺ من مكانهم الذي هم فيه.

ويقول: الذين كانوا يأتون من سفر ما كانوا يأتون للقبر أيضًا إذا جاءوا إلى المدينة؛ ليسلموا على النبي ﷺ يقول: وإنما كانوا يصلون ويسلمون عليه من مكانهم الذي صلوا فيه في المسجد، ما كانوا يذهبون إلى القبر، يقول: وإنما كان يفعل ذلك ابن عمر إذا أراد سفرًا، أو قدِم من سفر، يأتي ويُسلم، مع أن شيخ الإسلام لا يُنكر زيارة قبر النبي ﷺ لمن كان في المدينة، يعني: من جاء إلى المدينة لا يقصد بهذا أن يشد الرحل إلى القبر، وإنما يذهب إلى المسجد لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد[20] فيشد الرحل لزيارة مسجد النبي ﷺ، فإذا جاء المدينة فلا بأس أن يأتي إلى القبر ويُسلم على النبي ﷺ، لكن لو لم يفعل، وصلى على النبي ﷺ وسلم عليه من مكانه الذي هو فيه، الذي صلى فيه، فشيخ الإسلام يقول: هذا عمل الصحابة[21] ما كانوا يأتون إلى القبر، وتكلم على هذه المسألة في مواضع من كُتبه، فشنعوا عليه، أعني: أهل البدع، وقالوا: إنه يُنكر الزيارة الشرعية، وشيخ الإسلام لا يُنكر الزيارة الشرعية، ولهذا سيأتي في الكتاب الذي بعده الرد على الإخنائي هذا أحد القضاة الإخنائي، ويأتي الكلام عليه -إن شاء الله- رد على شيخ الإسلام، ولفق عليه أشياء ما قالها، شيخ الإسلام أفتى بفتوى في مسألة قصر الصلاة لمن يشد الرحال للقبور، فقال: هذا السفر غير مشروع، ومن ثَم لا يترخص برُخص السفر، وذكر القولين المعروفين للعلماء، هل يترخص بالسفر المشروع فقط، دون الممنوع، أو أن ذلك يكون مُطلقًا، يعني: الترخص، يقول: ذكرت القولين، فشنعوا عليه، وقالوا: إنه يُنكر الزيارة الشرعية، فألف الإخنائي هذا في الرد على شيخ الإسلام -كما سيأتي-.

فرد عليه شيخ الإسلام أيضًا في رسالة تأتي -إن شاء الله تعالى- في مسألة أيضًا القبور، وزيارة القبور، وهذا الموضع المقابر، وزيارة المقابر، وأحكام المقابر في كتابات جيدة مُعاصرة أيضًا مُفيدة، يُحسن الرجوع إليها، هذا كتاب "أحكام المقابر في الشريعة الإسلامية" للدكتور عبد الله السحيباني، "أحكام المقابر" فيه أشياء جيدة، ومسائل عملية كثيرة، ومتنوعة، كل ما يتعلق بالمقابر والقبور، وصفة القبر، وتسنيم القبور، كل هذه الأشياء، وهذا الكتاب "شرح الصدور ببيان بدع الجنائز والقبور" ومعه مُلحق كبير في فتاوى أهل العلم في أحكام الجنائز والقبور، تكلم على أحكام شرح الصدور ببيان بدع الجنائز والقبور لعبد الله الحمادي، شرح الصدور.

وهناك كُتب أخرى بعض هذه الكُتب في شُبهات أهل القبور، شُبهات القبوريين، وبعضها في بلد معين مثل القبورية في اليمن، يعني: الكتابات كثيرة في هذا الموضوع، لكن هذه من الكُتب المُفيدة في هذا الباب، وردود شيخ الإسلام في هذا الكتاب في مسألة الاستغاثة، والرد على الإخنائي في مسألة القبور وشد الرحال إلى القبور.

  1. انظر: الاستقامة، لابن تيمية (2/255).
  2. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، برقم (2077).
  3. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم (4031)، وصححه الألباني في مشكاة، برقم (4347).
  4. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار، برقم (5892)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (259).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء، برقم (1134).
  6. انظر: كتاب الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، لابن مفلح (1/202).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2020).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2021).
  9. أخرجه مسلم، كتاب ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم (644).
  10. انظر: فتحُ البيان في مقاصد القرآن، للقنوجي (14/131).
  11. انظر: تفسير الماوردي (6/7).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
  13. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية (2/91).
  14. انظر: الاعتصام، للشاطبي (2/544).
  15. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، برقم (3883)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (4552).
  16. انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/217).
  17. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية (344).
  18. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، برقم (2067).
  19. انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (18/246).
  20. أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1188)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم (1397).
  21. انظر: الإخنائية، لابن تيمية (295).

مواد ذات صلة