الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
تأليفه للكتاب
تاريخ النشر: ١٥ / شوّال / ١٤٢٢
التحميل: 5868
مرات الإستماع: 4767

بسم الله الرحمن الرحيم

تأليفه للكتاب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فابتداء من هذه الليلة -إن شاء الله- سأشرع في شرح مختصر أقتصر فيه على الفوائد المهمة التي يُحتاج إلى معرفتها، من غير تطويل، ولا استطراد، وذلك الشرح لكتاب عظيم المنزلة والقبول عند المسلمين، منذ أن كتبه مؤلفه -رحمه الله.

وهذا الكتاب هو كتاب رياض الصالحين، وهو اسم يوافق المسمى تمام الموافقة، وقد كتبه الإمام المعروف محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، وكتب غيره من المؤلفات الشهيرة التي طارت في الآفاق، وانتشرت انتشار الشمس، وجعل الله لها من القبول والمنزلة في نفوس المسلمين ما لا يخفى.

ولا ريب أن هذا الكتاب من أعظم كتب هذا الإمام انتشاراً وتداولاً بين الناس، ولا ريب أن مثل هذا القبول حينما يجعله الله لكتاب فإن ذلك يدل دلالة أولية على حسن قصد المؤلف حينما ألفه، ولا شك أن النية تؤثر في عمل الإنسان تأثيراً بيناً، فإذا كتب العالم كتاباً بنية صحيحة فإن ذلك يكون من أسباب قبول هذا الكتاب.

ولهذا لما كتب الإمام مالك -رحمه الله- كتابه الموطأ قيل له: قد كتب كاتبون موطآت، فقال: "ما كان لله فهو يبقى".

وقال هذه الجملة الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حينما شرع في شرح صحيح البخاري في كتابه الشهير فتح الباري، ومع أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- جاء في وقت متأخر -فهو من العلماء المتأخرين- وقد كتب هذا الشرح وقد شُرح صحيح البخاري قبله بشروح كثيرة، وكان بعض العلماء المعاصرين للحافظ ابن حجر يكتبون شروحاً مطولة لهذا الصحيح، ومع ذلك لما قيل له في هذا الأمر، قال: "ما كان لله فهو يبقى".

فبقي كتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر، وهو الشرح الذي يعد من الشروح المقدمة، والأنفع، والأكثر شهرة وتداولاً من بين شروح كتب الحديث، فضلاً عن شرح صحيح البخاري، ولهذا لما قيل للشوكاني -رحمه  الله: هلا شرحت صحيح البخاري قال: "لا هجرة بعد الفتح"، استشهد بحديث رسول الله ﷺ بلفظه على معنى آخر، "لا هجرة بعد الفتح"، يريد أنه لا شرح بعد فتح الباري لصحيح البخاري.

فأقول: هذا الكتاب لقي رواجاً وقبولاً عظيماً، قل أن يوجد لكتاب آخر، لاسيما لعالم متأخر، فقد ولد الإمام النووي -رحمه الله- في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وتوفي في سنة ست وسبعين وستمائة، فهو يعد من العلماء المتأخرين، أعني التأخر الذي يعتبر بعد استقرار المذاهب، وتدوين أقوال الأئمة، وجمع فقههم، فإن النووي -رحمه الله- يعد من العلماء المتأخرين بهذا الاعتبار، والمقصود أن عالماً يأتي في ذلك الزمان ثم يُجعل لكتابه مثل هذا القبول فإن ذلك من مواهب الله ومن أفضاله ومن كرمه، وهذا أمر لا يستغرب، فقد يدخر الله  للمتأخر ما لا يكون لكثير من المتأخرين.

وأنتم ترون كثرة المؤلفين في الزمان القديم، وفي الزمان الحديث، ومع ذلك تجد أن بعض من كتب في هذا الزمان لاسيما في بعض العلوم التي كتب فيها الكاتبون كثيراً كالتفسير، فمثلا: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله، تجد أن كتبه تلقى رواجاً وقبولاً وانتشاراً، مع أنه جاء بعد هذه الأزمان المتطاولة التي كُتب فيها مؤلفات تفوق الحصر.

فأقول: هذا العالم كتب هذه المؤلفات، وقد عاش عمراً قصيراً، حيث إن عمره كان يقارب حينما توفي الخامسة والأربعين، ومع ذلك بزّ العلماء في زمانه، وتقدم عليهم، وصار له من الذكر الجميل، والقبول ما امتد إلى أزمان متطاولة بعده، وهذا أمر لا شك أنه يستوجب النظر والوقوف والتأمل.

ومعلوم أن العلماء كالمصابيح فهي تتفاوت في قوة إضاءتها، ومعلوم أن الناس ينتفعون كثيراً أو قليلاً بمن يعاصرون، ولكن ذلك سرعان ما يتلاشى في بعض الأحيان إذا فارقهم هذا العالم، وكلما تتابعت السنون على هذا العالم كلما أخذ حجمه الطبيعي في مكتبة التاريخ، فأنتم ترون كثيراً من العلماء الذين انصرموا وماتوا قبل قرون كانوا في زمانهم يملئون فراغاً هائلاً في نفوس الناس، ثم بعد أن مات ومرت السنون على موته لربما لا يعرفه أحد بعد ذلك، ولا يذكره أحد، وبقي قلة من العلماء تماسكوا أمام هذا التلاشي وصاروا أئمة كالجبال، وهذا لا يكون إلا لقلة قليلة من العلماء، الذي تبقى إضاءته بعد موته وافرة قوية، ويبقى ذكره متماسكاً هذا لا يوجد إلا لقلة من العلماء، أمثال العلماء الذين ألفوا السنن المشهورة، وكتب الصحاح، وأمثال الأئمة الأربعة، ومثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، لكن أين آلاف العلماء الذين كانوا يملئون القرون؟، أين هم؟ من يعرفهم؟ من يذكرهم؟

قل من الناس من يعرفهم، بينما مثل هؤلاء الكبار بقوا على مثل هذه المدد، وإذا نظرت إلى علماء كانوا يعيشون بيننا، قبضوا، وانتقلوا من هذه الدار قبل عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو أربعين سنة لربما تجد أن بعضهم لا يذكره الناس اليوم، مع أنهم كانوا يتناقلون فتاواه، وتملأ شيئاً كبيراً في نفوسهم، وينتفعون بها انتفاعاً عظيماً.

فأقول: هذا أمر مشاهد، فحينما يبقى هذا العالم على مدى قرون وهو متماسك لا شك أن هذا يدل دلالة واضحة على عظم منزلته، وسعة علمه، ويدل أيضاً على ما أعطاه الله وأولاه من كرمه وإفضاله من الذكر الجميل في هذه الدنيا، وما يعقب ذلك في الدار الآخرة -إن شاء الله- هو أضعاف ذلك بما لا يُقادَر قدره، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

هذا ما يتعلق ببعض الخواطر قبل أن أبدأ بشرح هذا الكتاب، ولعلي في ليلة قادمة -إن شاء الله- أذكر لكم ترجمة للإمام النووي -رحمه الله- وأقف معها بعض الوقفات التي لربما نحتاج إليها.

هذا، واسأل الله العظيم أن ينفعنا وإياكم بهذا الكتاب المبارك، وأن ينفعنا وإياكم بهدي نبيه ﷺ، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وشفاء همومنا وذهاب أحزاننا.

اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة