الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «إن لربك عليك حقًا..»
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٢٦
التحميل: 2717
مرات الإستماع: 58040

ترجمة أبي جحيفة وهب بن عبدالله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

ففي باب الاقتصاد في الطاعة، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله وهو: السُّوائي، كان في عداد صغار الصحابة ، إذ إنه حينما هاجر النبي ﷺ كان صبياً لم يبلغ الحلم، ولذلك لم يكن مكثراً في الرواية عن رسول الله ﷺ، فلم يُحفظ له أكثر من خمسة وأربعين حديثاً، أخرج الشيخان اثنين منها، وانفرد البخاري باثنين، وانفرد الإمام مسلم بثلاثة.

 وبقي بعد ذلك حتى جاءت خلافة علي فقربه كثيراً، وكان يحبه ويدنيه، وجعله على بيت المال في الكوفة، إلى أن توفي بعد ذلك في سنة اثنتين وسبعين للهجرة في الكوفة .

إن لربك عليك حق
قال أبو جحيفة: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء،  فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال النبي ﷺ: صدق سلمان[1]، رواه البخاري

المؤاخاة بمعنى أن النبي ﷺ كان يعقد بين المهاجرين وبين الأنصار عقد المؤاخاة في أول الإسلام، وذلك في التناصر.

وكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة دون قراباتهم في أول الأمر، وذلك أن المهاجرين كانوا قد قدموا إلى المدينة، وتركوا كل شيء وراءهم، من أهل ومال وولد، جاء الواحد منهم  بثوبه، أو بعض ثوبه، لربما لا يملك إلا إزاراً.

فالنبي ﷺ من باب المواساة كان يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وكان ابتداء ذلك بعد هجرته ﷺ، على ما ذكره بعض المؤرخين وأهل السير كان بعد الهجرة بخمسة أشهر، ثم استمر ذلك إلى أن فتح الله على نبيه ﷺ الفتوح ووسع عليه، ففُتحت بنو قريظة، والنضير، وما إلى ذلك كخيبر.

فكان الرجل يأتي من المهاجرين فيؤاخي النبي ﷺ بينه وبين رجل من الأنصار، وكان الأنصار في غاية الإيثار، والمحبة لهؤلاء المهاجرين.

وكان الواحد منهم لربما قاسمه ماله، كما هو معروف في خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف، قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: أغلى ما أملك زوجتاي، فانظر أطلق واحدة، فإذا انقضت عدتها تزوجتَها[2].

وفي المقابل كان المهاجرون في غاية العفاف،  فكانت نفوسهم عالية، ليس  فيها دناءة، ولا فيها ضعف، ولا عندهم التواء، ولا عندهم استغلال، ولم يقولوا: فرصة لا تعوض، أموال باردة، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلّني على السوق، وما أخذ منه شيئاً.

وهذا الذي حصل من الأنصار أخبر الله تعالى عنه خبراً لا يدخله الكذب بحال من الأحوال وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً [النساء:122]، وهو الذي يعلم ما في النفوس، وما تنطوي عليه القلوب، فقال تعالى:وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، يعني: من قبل المهاجرين على الأرجح من أقوال المفسرين في معناها، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، أي: ما كانوا يتبرمون، ولا يستثقلون، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا، أي: حسداً مما أوتيه المهاجرون دونهم،وهذه لا تكاد تتحقق إلا لمن وقاه الله شح النفس، فالشح حاضر في النفوس، ولذلك أضافه الله إليها فقال:وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، [الحشر:9].

فالنفس تحتاج إلى كثير من المجاهدات ليتخلص الإنسان من هذا الشح، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى، والنبي ﷺ لما فتح الله عليه قريظة جمع الأنصار، وخيرهم بين أمرين، قال لهم: إن هؤلاء المهاجرين ليسوا بأهل زرع، جاءوا من مكة، ومن أماكن، ليسوا أهل زراعة، لربما يكونون أهل تجارة، فقال لهم: إن شئتم بقوا في أرضكم، يعني: قاسموكم الأموال والعقارات، وقسمتها بينكم، يعني: أرض النضير، لما فتحها الله عليه، وإن شئتم خرجوا من أموالكم وقسمتها بينهم خاصة، وتنفردون أنتم بأموالكم، هكذا ربى النبي ﷺ أصحابه، لم يقولوا: هذه أموالنا أصلاً، ونحن مشاركون في فتح النضير، ولماذا تخيرنا في أموالنا؟ بل قالوا:  يا رسول الله ، بل يبقون في أرضنا وتقسمها بينهم دوننا، يعني: النضير.

من يفعل هذا اليوم؟ لو أن أحدنا فعل عشر معشار هذا لاتهمه الناس في عقله، وقالوا: مجنون، يُحجر عليه،  مضيع لماله، فانظر إلى التربية الإيمانية كيف جعلت هؤلاء الناس يرتفعون إلى هذا المستوى، فالمقصود: أن النبي ﷺ آخى بين سلمان وأبي الدرداء -رضي الله تعالى عنهما، وأبو الدرداء   اسمه عويمر الأنصاري .

وحينما آخى النبي ﷺ بينهما زار سلمان أبا الدرداء، وهذا فيه أن الصحابة كان بينهم تواصل وتزاور، زاره فرأى أم الدرداء، واسمها: خيرة بن حدرد، رآها متبذلة يعني: غير متهيئة، لابسة ثياب المهنة، وكأنها ليست ذات زوج، فلما رآها بهذا الحال، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، وفي بعض الروايات أنها قالت: ليس له حاجة في النساء، وفي بعضها أنها قالت: يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً وأكرمه -وقِرى الضيف أمر مشروع، فقال لسلمان: كُلْ فإني صائم -ولا بأس أن يخبر الإنسان ضيفه بأنه صائم للحاجة وحتى لا يحرج    الضيف، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، وفي هذه الرواية لم يذكر أنه أكل، لكن في بعض الروايات الأخرى جاء أنه أكل معه، وهذا فيه: أن صيام التطوع بالخيار، إن شاء أفطر الصائم، وإن شاء بقي على صومه، وأنه: قد يترك الصوم لمصلحة أرجح، كأن نزل به ضيف، أو ما أشبه ذلك، فإن الأفضل في هذه الحالة أن يأكل معه مؤانسة له.

فلما كان الليل -يعني أول الليل- ذهب أبو الدرداء يقوم الليل، وفي بعض الروايات أنه بات عنده، لأن أبا الدرداء كان يقوم من أول الليل إلى آخره، فرآه سلمان فقال له: نم، فنام، ثم ذهب يقوم مرة أخرى فقال له: نم، فلما كان آخر الليل، وفي بعض الروايات: في السحر قال له: سلمان: قم الآن، فصليا جميعاً، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، أي لا تصم طول السنة، ولا تقم الليل كله، وإن لنفسك عليك حقاً، أي: لابد أن تأخذ قسطاً من الراحة، فنفس الإنسان هي مطيته.

 وعمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة وكان نائماً في القيلولة جاءه ابنه عبد الملك وكان شابا صغيراً، وقال له: يا أبت كيف تنام والمظالم ما رُدت إلى أهلها؟ يعني: المظالم السابقة من قبل أن يحكم، فإني والله يا أبت لا أبالي لو غُليت بي وبك القدور في سبيل الله، فقال له: يا بني إن نفسي مطيتي، أي: لو أني أجهدت نفسي ومن معي فإنه عما قليل سننقطع، ولكن شيئاً فشيئاً.

 الحاصل أنه قال له: وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه، وفي بعض الروايات أنه قال له: نم، وأتِ أهلك، وهذه هي الموازنة التي لا يدركها الكثيرون، وإن أدركوها فإنهم لا يستطيعون التطبيق، ولذلك فإنك قد تجد الكثير من المجتهدين في العبادة عنده إقبال كبير على الطاعة، لكنه قاطع رحم، والرحم كما رُوي عن أَبى هريرةَ أن النبي ﷺ قال: خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بِحَقو الرحمن، فقال لها: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم, ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذاك[3].

وقد تجد إنساناً فيه خير، وفيه حرص وبذل، ولكنه مقصر في الصلاة، فتراه يسهر الليل في طلب العلم، وينام عن صلاة الفجر، فأمر الموازنة مهم جداً، ولذلك تجد الكثيرين إذا حاول الواحد منهم أن يكون جاداً ضيع حقوقاً، فمثلا: إنسان يريد أن يدعو إلى الله وهو جاهل، لا يفتح كتاباً، ولا يقرأ، ولا يحضر مجلساً من مجالس العلم، بزعمه أنه يريد الدعوة إلى الله، ودعوة الناس، وكثيراً ما نسمع من يريد حفظ القرآن، ويقول: القرآن يشغلني عن العلم والدعوة، نقول له: كم ساعة يأخذ عليك القرآن؟ أربع ساعات، بقيت عشرون ساعة أين ذهبت؟ فالمشكلة أن الكثيرين لديهم فكرة واحدة، فتسيطر عليه، ويعمى عن كل شيء من المطالب المهمة، فيكون بناؤه، وتربيته وسيره إلى الله مختلاً معوجاً.

والإنسان بحاجة إلى أن يفكر أولاً، وينظر في عيوبه، ويحاسب نفسه، هذه قضية مهمة جداً؛ لأن الذين لا يقرون بعيوبهم لا يمكن أن يصِلوا، يعمى عن عيوبه، تقول له: أنت مقصر في الجانب الفلاني، يقول: لست مقصراً، وكأنه قد حاز الكمالات كلها، فهو ليس بحاجة إلى تقويم، ولا تهذيب، ولا تعديل لهذه النفس، وهذا خطأ، فالإنسان دائماً بحاجة أن يراجع صفحته، وأن ينظر في أعماله السابقة، وكلما تقدم العمر بالإنسان كلما نضج عقله، وصار إدراكه يؤنبه، فيتأسف على أمور فاتت، فيقول: لو استقبلت من أمري ما ضيعت وقتي في كذا، وما أشغلت نفسي في كذا، وما أشبه ذلك.

والإنسان يمر بمراحل من العمر، لكن إذا كان الإنسان في وقت قبل النضج فلابد أن يستفيد من غيره، ويسأل من هو أكبر منه من العقلاء، ممن جربوا في الحياة، ويستفيد من تجاربهم، فيحصل عنده التوازن، أمّا أن يهتم بالدعوة، والخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكنه  مقصر في صلاته، ولا يأتي الصلاة إلا مسبوقاً، ودائماً تفوته -وهذا غاية في التقصير، وهكذا في الجوانب الأخرى فهذا لا يستقيم.

فالحاصل أن أبا الدرداء أتى النبي ﷺ، فصلى معه الفجر، ثم ذكر له ذلك، وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ هو الذي ابتدره وقال له: صدق سلمان[4]، وأقره بذلك، وفي بعض الروايات: ولضيفك عليك حقا[5]، وفي بعضها: ولزَورك عليك حقا[6].

فينبغي للإنسان أن يعطي كل ذي حقه حقه، الأولاد والزوجة لهم حق الجلوس معهم، الجيران والأقارب لهم حق أيضا، وهنالك وسائل بسيطةً، فلو أن الإنسان لديه قائمة بأرقام الأقارب والأصدقاء، حتى إذا جلس في أي مكان للانتظار يراسلهم، ويطمئن عليهم، أو يهاتفهم، وهذه الأشياء لها أثر بليغ في نفوسهم.

 لكننا نفرط ونغفل، ولربما نوهم أنفسنا أننا طول الوقت مشغولون، ولا نجد وقتاً لذلك، بينما لو قدرنا كم تستغرق أعمالنا من أوقاتنا لوجدنا أنها تأخذ على الأكثر ثلث الوقت، وأما الذي عنده تفريط فالواقع أنها قد لا تستغرق ساعتين من الأربع والعشرين ساعة، هذا حال أكثر الناس إلا من رحم الله ، أين الذي يستغل وقته كله أربعاً وعشرين ساعة في عبادة، وطاعة، وعلم وعمل، وإحسان إلى الخلقٍ وما أشبه ذلك؟

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم يرَ عليه قضاء إذا كان أوفق له (3/ 38)، رقم: (1968).
  2. انظر: صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار (5/ 31)، رقم: (3780).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب ولا تقطعوا أرحامكم (6/ 134)، رقم (4830) ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم (4/ 1980)، رقم: (2554).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، (3/ 38) رقم: (1968).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في حفظ اللسان (4/ 608)، رقم: (2413)، وابن خزيمة، كتاب الصوم، باب تمثيل الصوم في الشتاء بالغنيمة الباردة، والدليل على أن الشيء قد يشبه بما يشبهه في بعض المعاني لا في كلها، (2/ 1026) رقم: (2144) .
  6. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صيام الدهر، (2/ 813)، رقم: (1159).

مواد ذات صلة