الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «آية المنافق ثلاث..»
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 2308
مرات الإستماع: 11841

آية المنافق ثلاث

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالحديث الأول في باب الأمر بأداء الأمانة هو:
حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[1]، وفي رواية وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم[2].

قوله ﷺ: "آية المنافق" أي: علامة المنافق التي يعرف بها، وهي علامة ظاهرة؛ لأن النفاق علة باطنية لا يعلمها إلا الله ، ولكن قد تظهر بعض أماراتها ودلائلها وعلاماتها، مما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل، وهذه الأمور التي ذكرها النبي ﷺ هي علامات يعرف بها المنافق، وقد جاء في بعض الأحاديث: ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها[3]، أي: حتى يتركها، فهذه الصفات إذا استحكمت في الإنسان فإن النبي ﷺ حكم عليه بالنفاق، وكان صاحبها منافقاً خالصاً، ثم قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، ومن أهل العلم من حمل ذلك على النفاق العملي؛ لأن النفاق كما هو معلوم نوعان: نفاق عملي حملوه على مثل هذه الأشياء، ونفاق اعتقادي وهو: أن يبطن الإنسان الكفر ويظهر الإٍسلام، والمقصود أن هذه الأمور التي ذكرها النبي ﷺ وهي ثلاث في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث ذكر أربعاً، ومنها: إذا عاهد غدر[4].

فهذه الأمور المذكورة جميعاً ترجع إلى شيء واحد عليه مدار النفاق وهو: الكذب، والمؤمن لا يجتمع فيه الإيمان مع الكذب بأي حال من الأحوال، المنافق النفاق الاعتقادي المخرج من الملة على أي شيء يدور نفاقه؟ وإلى شيء يرجع؟ يرجع إلى الكذب؛ لأنه كاذب في دعوة الإيمان، قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، والله يقول عنهماتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: بئس العمل عملهم، وبئس الصنيع صنيعهم؛ لأنهم جعلوا اليمين دافعةً كل التهم التي توجه إليهم مما يُرمون به من النفاق والأمور العظائم، فهم جعلوا هذه اليمين يكذِّبون بها ما يُتهمون به من قول وفعل سيئ، فهم كَذَبة يظهرون شيئاً بألسنتهم ويخفون شيئاً آخر في قلوبهم، هذه حقيقة النفاق، وإنما حملهم على هذا الأمر الشنيع هو الجبن والخوف، لم يكونوا بقوة يصارمون فيها كما صارم أهل الإشراك من طوائف المشركين الذين ماتوا دون مبادئهم، وإنما صاروا يتلونون، يظهرون الموافقة لمن غلب، فلما غلب المسلمون بعد غزوة بدر أظهروا لهم الموافقة، حتى قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه، وأرى أن تدخلوا به ظاهرًا، وذلك من أجل أن يحقنوا دماءهم، وأن يحرزوا أموالهم، فهم جبناء عن المواجهة، ومن ثَمّ يتلونون مع من قوِىَ وغلب، وهذه الأوصاف المذكورة هنا في هذا الحديث، وكذلك الوصف الرابع إذا عاهد غدر ترجع إلى الكذب، تأملوا هذه الأوصاف، إذا حدّث كذب، فهو كاذب في الحديث.

والكذب بالحديث هو: أن يقول الإنسان شيئاً لا يعتقده، ولو كان موافقاً للواقع في حقيقة الأمر، لو سئل مثلاً: أين زيد؟ فقال: مسافر، وهو يظن أنه موجود، لكنه أراد أن يكذب وتبين أن زيدًا فعلاً مسافر، فإنه يكون كاذباً، مع أنه وافق الواقع، لكنه خالف ما في اعتقاده، فهذه حقيقة الكذب، وهذه صورة ظاهرة واضحة لا خفاء فيها من صور الكذب، بل هي من أجلى صوره، وهناك صور أخرى للكذب خفية، صور أخرى للكذب بالقول خفية، وذلك كأن يكون الإنسان يعلم بشيء ويحاول أن يبدي لغيره أنه لا يعلم بذلك، كأن يعلم أن فلاناً من الناس أنه قد خسر في تجارته، وأنه قد أودع السجن مثلاً، أو أنه دخل المستشفى، فيأتي إليه ويقول: أين أنت؟ منذ زمن طويل ما رأيتك، فيقول: أنا في المستشفى، فيبدي له غاية العجب، يشعره أنه لم يعلم بذلك كله، مع أنه يعلم جميع التفاصيل، فهذا في الواقع لون من الكذب خفي، يقع فيه بعض الناس، دون أن يشعر، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والخلف في المواعيد هو لون من ألوان الكذب؛ لأنه وعد كاذب، يقول: آتيك الساعة السادسة ولا يأتي، فهذا كذب، وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله: كيف نعرف الكذابين؟ قال: "بمواعيدهم"، وللأسف كثير من الناس يفرط في  المواعيد ولا يلتزم بها، وأسهل شيء عليه أن يخلف الوعد.

وإذا اؤتمن خان وهذا كذب آخر أيضاً، يُعطَى أمانة ثم بعد ذلك يخونها، فهي أمانة كاذبة، وذمة ضائعة، وحق للناس مضيع، وهو لون من الكذب، إنسان سافر فاستودع فلاناً من الناس على أهله فخانه، فلان أعطاه مالاً فخانه، فلان اشترك معه في تجارة وكان كل شيء باسم هذا الخائن، ثم بعد ذلك قال للآخر: ليس لك عندي شيء، وليس عندك ما يثبت لك حقًّا، فهذه خيانة، وهذا كذاب، والخصلة الرابعة وهي: إذا عاهد غدر، ولا شك أن هذا من الكذب، يعاهد أن يفعل كذا، أو ألا يفعل كذا، يعاقد الناس على شيء، ثم بعد ذلك يغدر بهم، فهذا راجع إلى الكذب أيضاً.

والكذب كله يرجع إلى الغش، والتدليس والصفات السيئة من أوصاف النفس، كالجبن؛ فهو لا يستطيع المواجهة، لماذا يكذب الإنسان؟ يكذب لأنه لا يستطيع أن يواجه بالحقيقة، يقال له: هل فعلت هذا الشيء؟ يقول: لم أفعل، وهو فعل، لو كان شجاعاً لقال: نعم أنا فعلت، إن كان مقتنعاً بفعله يبدي عن قناعته، وإن كان غير مقتنع يقول: فعلته وأخطأت، وأدركت خطئي، أما أن يكذب فهذا جبان، والمسلم يتنزه عن هذه الأوصاف؛ لأن الإيمان حقيقته عائدة إلى الصدق، الصدق بالقول، والصدق بالاعتقاد، والصدق بالعمل وبالجوارح؛ ولهذا يكون الكذب أيضاً بالجوارح كأن يُظهر الإنسان أعمالًا وقلبه ينطوي على شيء آخر، ويكون بالقول كما ذكرنا، ويكون أيضاً  بالحال، يُظهر حالاً من العبادة والنسك والزهد وإذا رآه الناس اغتروا به، وحقيقته وواقعه أنه ذئب أطلس.

صلَّى وصامَ لأمرٍ كان يطلبه فلمّا انقضى الأمرُ لا صلى ولا صاما

نسأل الله العافية، والله يطلع على السرائر، ولا يخفى عليه شيء وإن خفي على الناس، مع أن بعض الناس من أهل الفراسة الصحيحة لا يخفى عليهم ذلك، يميزون، مهما تظاهر الإنسان بالصلاح فإن للطاعة والصدق والإيمان بهاء في الوجه لا يخفى على ذي فراسة، والعبرة بنظر الله -تبارك وتعالى، فهو الذي يعلم السر وأخفى، والعبد لا ينفعه أن ينجو في موقف أمام الناس من حرج ولكنه يتورط بين يد الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ  [التوبة:199]، وقصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك ما أنجاهم إلا الصدق، والمنافقون الذين ماتوا وأحرزوا دماءهم وأموالهم ماذا يغني عنهم هذا؟، وماذا ينفعهم؟ لا شيء، فهي قضية وقتية، ثم بعد ذلك ينكشف الغطاء عن حقيقة زائفة يفتضح بها العبد بين يدي الله ويكون له سوء الذكر في الخلائق، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، وأن يصلح لنا النية والذرية، اللهم ارحم موتانا واشفِ مرضانا وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (1/ 16)، رقم: (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (1/ 78)، رقم: (59).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (1/ 78)، رقم: (59).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (1/ 16)، رقم: (34)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (1/ 78)، رقم: (58).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (4/ 102)، رقم: (3178)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (1/ 78)، رقم: (58).

مواد ذات صلة