الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة.."
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 1498
مرات الإستماع: 4559

لما كان غزوة تبوك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنهما، شكَّ الراوي، ولا يضر الشك في عين الصحابي؛ لأنهم كلهم عدول - قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله ﷺ: افعلوا فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. فقال رسول الله ﷺ: نعم فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله ﷺ بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة فقال رسول الله ﷺ: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة. رواه مسلم.

"لأنهم كلهم عدول"، بمعنى أن الصحابة لا يطلب فيهم التعديل، ولا يختلف أهل السنة والمحققون من أن أصحاب النبي ﷺ لا يطلب لهم تزكية، ولا يقدح في عدالتهم، فإذا شك الراوي -وهو الأعمش هنا أحد رواة الحديث- هل راوي هذا الحديث هو فلان أو فلان، هو أبو هريرة أو أبو سعيد الخدري فإن هذا لا يؤثر شيئًا في صحة الحديث، وهكذا لو أن الراوي شك بين ثقتين في الطبقة التي دون الصحابة فإن هذا أيضاً لا يؤثر طالما أن الشك وقع بين ثقتين، وهذا أمر مقرر معروف عند علماء الحديث، فكيف بالشك بين الصحابة ؟!.

يقول: قال: "لما كان غزوة تبوك أصاب الناسَ مجاعةٌ"، لما كان غزوة تبوك، وغزوة تبوك معلوم أنها الغزوة التي كانت بعد فتح مكة وقبل حجة الوداع، كانت في السنة التاسعة للهجرة، وتبوك بعيدة عن المدينة، يعني أبعد غزوة غزاها النبي ﷺ، وأعد لها وأخبر أصحابه صراحة عن مراده ومقصوده فيها هي غزوة تبوك، كان يورّي، إذا أراد ناحية ورّى بناحية أخرى إلا غزوة تبوك أخبرهم من أجل أن يأخذوا أُهبتهم وأن يعدوا عدتهم لهذا السفر الطويل، وهي التي نزل فيها كثير من الآيات في سورة براءة، ووقعت فيها المواقف المعروفة من المنافقين، وتخلف فيها الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فالشاهد يقول: "لما كان غزوة تبوك أصاب الناسَ مجاعةٌ"، هي أصلاً كانت في وقت حر شديد، وضيق من العيش.

"أصاب الناسَ مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا"، النواضح جمع ناضح، وأصل ذلك يقال للبعير الذي ينضح عليه الماء، يعني للسقي، هذا أصله، ولكنه صار بعد ذلك يستعمل ويطلق على البعير، سواء كان يستعمل للسقي، أو لا يستعمل للسقي، فهنا قالوا للنبي ﷺ لما أصابتهم مجاعة في الطريق: "يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنا، فقال رسول الله ﷺ: افعلوا، قال ذلك ﷺ رفقاً بهم؛ لأنه قد أصابهم الجهد، "فجاء عمر   فقال: يا رسول الله إن فعلت، يعني أذنت لهم بنحر نواضحهم قلَّ الظَّهر"، والظَّهر هذه عبارة تقال للمركوب؛ لأنه إنما ينتفع بظهره في الغالب يركب ويحمل عليه المتاع، قل الظهر، يعني قلت الرواحل، وهم في هذا السفر البعيد يحتاجون إلى الرواحل، وسيلقون عدوًّا قويًّا، فهم بحاجة إلى الإبقاء على شيء من قوتهم، "ولكن ادعُهم بفضل أزوادهم"، هذا عمر يقترح على النبي ﷺ، "ولكن ادعهم بفضل أزوادهم"، لاحظ الذين اقترحوا أولاً على النبي ﷺ قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، اقترحوا ذلك، أو طلبوا من النبي ﷺ أن يأذن لهم وبهذا الأسلوب اللطيف، فبهذا يخاطب الكبير كالوالد والوالدة، ويخاطب العالم، ويخاطب المسئول، والكبير في قومه، ورئيس القبيلة، ونحو هذا، ما يخاطب كما يخاطب الصغير، يعني بعض الأولاد حينما يدعو والده أو كذا أو والدته أعطني كذا، وصلني لكذا، هذا لا يليق، وإنما يأتي بأسلوب العرض، يقول: لو فعلت كذا، لو أعطيتني كذا، إذا كان بإمكانك أن توصلني إلى المكان الفلاني، إذا تكرمت تعطيني كذا، ويقول لوالدته: لو فعلتِ كذا، لو صنعتِ لنا اليوم الطعام الفلاني، أو نحو هذا، ما يقول لها: أعطيني طعاماً، أعطيني عشاءً، أعطيني كتبي، فإن هذا لا يليق، وهكذا حينما يخاطب الإنسان معلمه، وبعض الناس قد يفعل هذا من باب الإدلال، أو يفعل هذا من باب الثقة بمقابله أن الكلفة ساقطة، لكنه خلاف الأدب، يعني حينما يقول التلميذ لمعلمه: يا فلان، يدعوه باسمه، يا زيد، هذا لا يليق، هو يريد أن يثبت أن الكلفة لربما ساقطة، لكنه لا يليق، وكذلك حينما يقول للكبير، يقول للرئيس في قومه، الرئيس في القبيلة، أو يقول: أعطني كذا، أو يا فلان، أو يخاطبه بخطاب، أو يكتب للمسئول في المكان الذي يعمل فيه، أو في مكان آخر أو رئيس البلد، أو الأمير أو مدير الشركة، أو نحو هذا، ما يخاطبه كما يخاطب أصغر الناس، وإنما يخاطبه بالخطاب اللائق به، أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم[1].

فهذا من الأدب، بعض الناس يرى أن هذا من الجرأة ومن الشجاعة، وأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، فيُغلظ ويتكلم بأسلوب كأنه يحتقر من يخاطبه، وهذا غلط، المقصود هو أن يُبلِّغ الإنسان ما يريد للآخرين أو للآخر بأحسن عبارة، وأقرب أسلوب، وما يكون سبيلاً إلى القبول وتحقيق المطلوب، لكن أحياناً الأسلوب يحجز الإنسان فيُحرم من كثير من العلم، ومن الفائدة، ولهذا ذكر بعض أهل العلم في التراجم أن فلاناً مثلاً حُرم كثيراً من علم فلان؛ لأنه ما كان يتلطف به، ابن عباس كان ينام على العتبة حينما يأتي إلى أصحاب النبي ﷺ، ويخرجون ويجدونه قد نام، وقد سفت الريح شيئاً من التراب على وجهه، وبدنه، أو نحو ذلك، ويقولون: يا ابن عم رسول الله ﷺ لو دعوتنا لأتيناك، فانظر كيف يتأدب مع هؤلاء العلماء، أحياناً بعض الناس يسأل كأنه يسأل أصغر أولاده أو أصغر إخوانه بأسلوب فظ غليظ، وإذا سمع الجواب جاء الرد أسوأ أيضاً من السؤال، من أين أتيتم بهذا؟ من أين أتيتم بأن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء مكروه أو كذا؟ أتينا بها من جيبنا!، أتينا بها من هوانا ومزاجنا!!، الإنسان لابد أن يعرف كيف يسأل، أحد الأشخاص كان يسأل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في صحن الحرم، في العشر الأواخر من رمضان، واقف من وراء الناس، وواقف يسأل عن قضية تتعلق بالطواف، فالجواب ما أعجبه، قال: ما في مطوّع غيرك، أمام الناس، ما في مطوّع غيرك، رجل أعرابي فظ غليظ لا يعرف يتعامل إلا مع الأشياء في الصحراء، ويظن أنه يتعامل مع هذا العالم الفقيه بمثل ما يتعامل مع الجمل، وجاء يسأل من وراء الناس بهذه الطريقة، هذا لا يليق، وكثير من الناس يقع في أشياء من هذا القبيل.

يقول: "قالوا للنبي ﷺ: لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنا، فقال النبي ﷺ: افعلوا، فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظَّهر"، وهذا من تواضع النبي ﷺ، يأتيه أصحابه يقترحون، وهذا أيضاً يؤخذ منه أن الأدنى يمكن أن يشير على الأعلى، قال: "ولكن ادعُهم بفضل أزوادهم"، بفضل أزوادهم: يعني بقية أزوادهم، وهو الطعام المتخذ للسفر، البقايا التي عندهم هذه اجعلهم يحضرونها، "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة"، فإذا وجدت البركة في الشيء فإن القليل يكون كثيراً، "لعل الله أن يجعل في ذلك البركة".  

"فقال رسول الله ﷺ: نعم، فدعا بنِطْع"، ويقال أيضاً بلغات أخرى: نَطْع، وبفتحتين نَطَع، الشاهد: "فدعا بنِطْع"، والنِّطْع: هو بساط متخذ من الجلد، مخيط من جلود ليس فيه شعر، يستعمل مثل السفرة الآن عندنا، ويوضع أيضاً بين يدي الملوك والأمراء إذا أرادوا قتل أحد بين يديهم، فيضعونه ثم يضعون الرجل عليه، ويقتلونه أمامهم، من أجل أن لا يصيب دمه الأرض، تجدون في كثير من الأحيان: فدعا بالنّطْع، فهو من جلود، "فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة"، ما عنده إلا شيء قليل، "ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة"، يعني من الخبز أو نحو ذلك، أو قرص، "حتى اجتمع على النّطْع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله ﷺ بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه"، من هذا القليل الذي في النّطْع، "وأكلوا حتى شبعوا"، يعني الآنية امتلأت، والموجود أكل منه الجيش حتى شبعوا، "وفضلت فضلة، فقال رسول الله ﷺ: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة[2]، رواه مسلم.

وهذا الشاهد في الحديث في الباب، لا يلقى الله بهما بالشهادتين عبد غير شاك فيحجب عن الجنة، فهذا الحديث ليس فيه ما يدل على أنه لا يعذب بالنار، فيحجب عن الجنة، بمعنى أنه قد يعذب ثم يدخل الجنة، فهذا فيه فضل التوحيد، وفضل لا إله إلا الله، وأما ما جاء عن النبي ﷺ من مثل هذا من المعجزات في تكثير الطعام ونبع الماء بين أصابعه ففي ذلك أخبار ثابتة منها في غزوة الخندق كان الناس يحفرون في غداة باردة، فكما جاء في حديث جابر أنه رأى النبي ﷺ وقد ظهر بطنه وقد غطاه التراب وهو يحفر مع أصحابه، وقد ربط عليه حجرين من شدة الجوع، في شدة البرد، يقول: فرأيت منظراً لا أطيقه، يقول: ما تحملت أرى النبي ﷺ يربط حجرين والناس يربطون حجراً واحداً، استأذن النبيَّ ﷺ وذهب إلى أهله، ذهب إلى بيته، قال: هل عندكم شيء فقد رأيت في رسول الله ﷺ شيئاً لم أحتمله؟، فقالت: عَناق -وهو صغير المعز، وشيء من البُرمة، فأمرها أن تصنع طعاماً فيدعو رسول الله ﷺ، والمرأة أكدت عليه أن لا يدعو أناسًا كثيرين حتى لا تحرج معهم، أو يحرج هو معهم، فذهب وأسرّ إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله ﷺ أنت ورجل أو رجلان، أو كلمة نحوها، يعني قال: يأتي معك عدد قليل، فالنبي ﷺ سأله ما عنده، فأخبره، فدعا النبي ﷺ أهل الخندق، كل الجيش المعسكر في الخندق دعاهم إلى بيت جابر بن عبد الله ، فجاء جابر إلى امرأته، وقال: ويحك، ويلك، لقد دعا رسول الله ﷺ أهل الخندق، فسألته: هل سألك؟ فقال: نعم، فعرفت أنه ستكون هنا معجزة وآية، فجاء النبي ﷺ وأمرها أن لا تخرج هذا من التنور حتى يكون هو الذي يأتي، فصار النبي ﷺ يدخلهم عشرة عشرة، ما يسعهم المكان، فيدخلون ويأكلون حتى شبعوا جميعاً، ثم زاد، فأمرهم النبي ﷺ أن يعطوا، وأن يبذلوا للناس، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة، يعني لجيرانهم ولمن حولهم مما بقي من هذا الطعام[3].

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوردنا حوضه، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يسلك بنا سبيلهم، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، برقم (4842)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (1894)، وفي ضعيف الجامع، برقم (1344).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 56)، (27).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4101).

مواد ذات صلة