- قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ...}
- قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات أورد المصنف -رحمه الله- في صدر هذا الباب قوله -تبارك وتعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80].
قوله:فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، يعني: قارون خرج في مراكبه وأبّهته، وما أظهر من مظاهر الدنيا التي يختال فيها ويتجبر ويتكبر، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا، هؤلاء هم الذين لا بصر لهم في الأمور ولا علم لهم، ولا يدركون حقائق الأشياء، وإنما يعجبهم بهرج الدنيا ويجذبهم زينتها الظاهرة، فتمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون، من أجل أن يكون لهم هذه الأبهة والنعيم، قالوا: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، صاحب حظ عظيم؛ لأن هؤلاء يرون الغبطة في هذا الحطام وجمْعه والتمكن من مظاهر الحياة.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وهم الذين ينظرون إلى حقائق الأشياء دون الاغترار بمظاهرها وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، ما عند الله من الثواب في الآخرة خير من هذا جميعاً، والإنسان إنما يطلب ما عند الله ، وأما هذه الدنيا فهي فانية زائلة يكفي منها القليل، وليست بدار مقر.
قال الله تعالى: وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ، ما يلقّى هذه الكلمة إلا الصابرون، وبعضهم يقول: وَلَا يُلَقَّاهَا، أي: وما يلقى ثوابها -يعني الآخرة- إِلَّا الصَّابِرُونَ، الذين يصبرون على طاعة الله ويصبرون عن معصيته بفطام النفوس عن شهواتها المحرمة.
ثم أورد المصنف -رحمه الله- قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، ما هذا النعيم الذي يُسألون عنه؟، يدخل فيه كل شيء ينعّم فيه الإنسان، ولك أن تتصور الأشياء الداخلة تحت هذا المعنى الكبير، النبي ﷺ ذكر لنا الحديث القدسي أن الله يقول لابن آدم: ألم نصحّ لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟[1]، فهذا من النعيم، عافية البدن، والماء البارد من النعيم.
والنبي ﷺ حينما أكل مع أصحابه، لما خرج من الجوع ووجد أبا بكر، ووجد عمر -ا- وأخبروه أنهم إنما خرجوا من أجل الجوع، فذهبوا إلى رجل من الأنصار، فجاء لهم بعذق من رطب أو بُسر، وذبح لهم شاة، فأكلوا فقال لهم النبي ﷺ: والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة[2].
وهم ما أخرجهم إلا الجوع، فكيف بالذي يتنعم بمثل هذا صباح مساء ولا يردّه إلا نفْسه؟!، فهذا الهواء البارد من النعيم، هذه الأماكن المريحة في الجلوس من النعيم، هذا اللباس الذي نلبسه من النعيم، هذه المراكب التي تنقلنا بسرعة ومن غير أذى هذا من النعيم، المراكب بجميع أنواعها قد امتن الله بها؛ لأنه سخرها وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، تصور ركوب الخيل والحمير في السابق، تصور أنك في ثياب حسنة، وقد اغتسلت فإذا ركبت هذه الدواب الغبار يملأ الطريق وعرقها يصيب ثوب الإنسان ويصيبه من أذاها بجميع أنواعه، ومن رائحتها، ومع ذلك هي من النعيم، فكيف بالمراكب التي نركبها اليوم مع سرعتها ونظافتها وما تعلمون؟، الإنسان يتقلب في ألوان النعم ظاهراً وباطناً، الله يهديه ويرشده، ويرسل إليه الرسل، وينزل عليه الكتب، ويلهمه رشده ويولد من أبوين مسلمين، ويحصل له هذا الإنعام والإفضال كله، هذا كله سيُسأل عنه الإنسان ماذا عمل بهذه النعم؟ وهل أدى شكرها أو لم يؤدِّ شكرها؟.
فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا.
أكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ألهاكم التكاثر، (5/ 448)، برقم: (3358)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 406)، برقم: (2022).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1609)، برقم: (2038).