الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه مر بقوم بين أيدهم شاة مصلية فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: "خرج رسول الله ﷺ من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"[1]، رواه البخاري.
مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، شاة مصلية يعني: مشوية، فدعوه فلم يأكل، وعلل ذلك بأن رسول الله ﷺ خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير فكأنه كره ذلك أعني أبا هريرة ؛ ليتقلل من الدنيا اقتداءً برسول الله ﷺ وإلا فإن الأكل من هذا جائز كما هو معلوم ليس ذلك بمحرم والله يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، والشاهد فيه قوله: "بأن النبي ﷺ خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير".
والحديث الآخر وهو حديث أنس قال: "لم يأكل النبي ﷺ على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققًا حتى مات"[2]، رواه البخاري.
وفي رواية له: "ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط"[3].
"لم يأكل النبي ﷺ على خوان" الخوان هو المائدة قبل أن يوضع عليها الطعام يعني ما يوضع عليه الطعام يجلس عليه المرفهون من أجل ألا ينزل إلى الأرض من أجل ألا ينزل رأسه إلى الأرض وهو يأكل، فتكون مثل الطاولة تقريبًا في الارتفاع مثلاً يوضع عليها الطعام فيتناوله من قرب، وكانت عادة يعني توجد عند المترفهين المتنعمين، فالنبي ﷺ كان متواضعًا وكان يضع طعامه على الأرض ويأكل مستوفزا -عليه الصلاة والسلام-.
يقول: "حتى مات، وما أكل خبزًا مرققًا"، المرقق يعني الملين.
وبعضهم يقول: هو الحوارى من الخبز يعني الخبز الذي نقي يعني من لباب عجن وخبز من لباب الدقيق من خلاصته وصافيه، قديمًا كان الحال لا تسعف لهذا فكانوا يأكلونه مع قشره، ولربما يرد عليه أشياء غير القشر، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما تكلم في بعض مسائل الطهارة ذكر ما لا يمكن الاحتراز منه من يسير النجاسات، وقال: "كبعر الفأر"[4]، هذا متى في القرن الثامن الهجري يعني في ذلك الوقت هذا أمر لا يمكن التحرز منه فيعفا لمشقة التحرز يعني أن هذا أمر موجود معروف عندهم كثير لا يمكن التحرز منه الدقيق يوجد فيه بعر الفأر، -أعزكم الله-، فشيخ الإسلام يقول: مثل هذا يعفى وله حكم الطاهرات لأنه يسير يصعب التحرز منه، تصور الآن نحن لو يوجد هذا في طعامنا في الدقيق أو يوجد عند المخبز يعتبر قضية، ويعتبر من العظائم، لو رئيت الفأرة تقترب من الأكل أو تقترب من المطبخ، أو المطعم، أو كذا لصورها الناس بالجوال، وتداولها وحذروا من هذا المكان وكذا، وحُق لهم، لكن المقصود أن نقارن، انظر إلى الحال في السابق وانظر إلى النعم التي نتقلب فيها صباح مساء، ونحن لسنا أكرم على الله من أولئك الذين مضوا كرسول الله ﷺ وأصحابه.
فالشاهد أنه ﷺ لم يشبع، خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وما أكل خبزًا مرققًا.
وبعضهم يقول: الخبز المرقق هو الخبز الموسع، يعني يكون رقيقًا واسعًا مثلما نقول الآن: الخبز التركي، أو الواسع والرقيق والآن عندنا جميع أنواع الخبز بما تريد يعني من أنواع وأصناف في رقته وغلظه ومادته التي يصنع منها أشكال كثيرة جدًا، وأصبح الناس يتفننون في هذا التنعم.
يقول: "ما أكل خبزًا مرققًا"، بعضهم يقول: حوارى يعني النقي من خلاصة الدقيق غير مشوب.
يقول: "حتى مات"، وفي رواية له: "ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط"، ما رآها يعني أيضًا وبالتالي ما أكل منها، والمقصود بالشاة السميط الشاة الصغيرة، مثلما نقول الآن: الهرثي صغير، يأتون بها بعدما تذبح تسخن بماء بجلدها ماء سخن، ثم يسهل بعد ذلك نزع الصوف منها ينزع فيبقى الجلد بلا صوف، ثم بعد ذلك تشوى وكان ذلك من طعام المرفهين، أما اليوم فحدث ولا حرج حتى أجنة البهائم والحيوانات اذهب إلى بعض مراكز التسويق تجد أجنة مغلفة هذه يأكلها بعض المرفهين، والذين يريدون التقوي على الباءة، ونحو ذلك، يأكلون هذه الأجنة أجنة الغنم، أجنة المعز، تجدها مبردة، ماذا تريد من أنواع المطعومات كأكباد الدجاج، وتجد قلوب الدجاج، وأنواع الطيور والسمان، والإوز، والبط، وكل شيء حتى أني فكرت آتي بيوم من الأيام بأسماء الأكلات التي أنا شخصيًا لا أعرفها أسماء كثيرة جدًا مما تجدها في بعض القوائم في المطاعم لا نعرف ما هي، وهذا كله يرجع إلى سعة إنعام الله وإفضاله علينا مما يستوجب مزيدًا من العبادة والشكر والإقبال على الله -تبارك وتعالى- ومقابلة ذلك بالتعبد، والتذلل له لا أن نزداد بعدًا ومعصية، ومحادة ومجاهرة بالمعاصي.
وإذا كانت هذه النعم مدرار ونحن نبتعد فإن ذلك يكون من قبيل الاستدراج والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فإذا لم يحصل هذا الشكر فإن هذه النعم ستزول، ولا يمكن أن تبقى، ولهذا قالوا: "الشكر قيد النعم"[5]، تريد تقيدها فاشكرها وإلا فإنها سترتحل منك كما ارتحلت من غيرك، ونسأل الله العافية نحن نشاهد كيف أحوال العالم الآن والتحولات التي تجري فيه وغلاء الأسعار والتضخم العالمي وما إلى ذلك، هذا بسبب الذنوب والمعاصي، والإعراض عن الله ، وقلة الشكر.
فيجب أن نتوب، قلة الأمطار من قلة الشكر، وقلة إخراج الزكاة من قبل الأغنياء، وكثرة الذنوب والمعاصي، وإظهار ذلك كل هذا نستسقي ويأتينا غبار مرارًا، -والله المستعان-.
نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يغفر لنا أجمعين، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون، برقم (5414).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب فضل الفقر، برقم (6450).
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب شاة مسموطة والكتف والجنب، برقم (5421).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/219)، ومجموع الفتاوى (21/534).
- أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، برقم (27)، بلفظ: "قيدوا النعم بالشكر".