الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إنما الأعمال بالنيات..» (1-2)
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٣
التحميل: 13610
مرات الإستماع: 259561

إنما الأعمال بالنيات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث في باب الإخلاص، وإحضار النية هو:
حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه[1].
ترجمة عمر بن الخطاب

قوله -رحمه الله: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين عمر هو أول من لقب بذلك من الخلفاء، ويكنى بأبي حفص، ولم يكن له ولد يسمى بذلك، ومعلوم أنه لا بأس من أن يكنى الرجل، أو أن يكني نفسه بكنية وليس له ولد بهذا الذي كني به، وهذا كثير، سواءً كان له أولاد، أو لم يكن له أولاد، وعائشة -رضي الله عنها- تكنى بأم عبد الله، وعبد الله هو ابن أختها أسماء، عبد الله بن الزبير ، ولم يكن لها أولاد، كما هو معلوم.

وعمر له أولاد، له أبناء وبنات، وكني بأبي حفص، وحفص من أسماء الأسد، عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي.

كعب بن لؤي هذا هو الذي يلتقي فيه بنسب النبي ﷺ، يشترك مع النبي ﷺ بهذا الجد.

وقوله: القرشي، العدوي، هذا الذي الصحيح في النسبة، أن يذكر الأعم، ثم يذكر الأخص بعده، فإن بني عدي من قريش كما هو معلوم، فلو قال: العدوي فإن ذلك يغني عن القرشي، لو قال: عمر بن الخطاب العدوي القرشي، فلا حاجة لذكر القرشي بعده؛ لأن العدوي قرشي، ولكن حينما يبدأ بالأعم يقال: القرشي، ثم يقال: العدوي، ينقله إلى الأخص فيكون لما بعده فائدة، يعني: للثاني، فهذه الطريقة في النسب أن يبدأ بالأعم ثم الأخص.

فلو قال مثلاً: محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، فإذا قال: الهاشمي معلوم أن الهاشمي من قريش، ولكن إذا قال: القرشي الهاشمي، فإن ذلك لا شك يكون له فائدة من ذكر الأخص بعد الأعم، وقد يقال: ما الحاجة لذكر الأعم ثم الأخص؟ هلا ذكر الأخص واكتفي به، فقيل: العدوي فقط.

فيقال: قد يكون من الناس من لا يعلم لا سيما في بعض البطون المشهورة، من لا يعلم أن هذا من قريش مثلاً، أو أنه من غيرهم كالأنصار مثلاً، أو ثقيف أو هوازن.

يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، هذا حديث مشهور، مشهور، يعني: على الألسن ومشهور أيضاً حيث يطرق الأسماع كثيراً، وإن كان في معيار الصناعة الحديثية يقال له: الغريب؛ لأنه لم يرو من طريق صحيح بطبقة الصحابة  سوى عن عمر بن الخطاب ، وإن جاء عن جماعة من الصحابة يبلغون العشرين، ولكنه لم يصح إلا من طريق عمر ، فهو الوحيد الذي يرويه من الصحابة، وجاءت الرواية عنه بأسانيد صحيحة.

هذا الحديث عده بعض أهل العلم -كما ذكرنا في مناسبات أخرى، عده بعضهم نصف الإسلام، يعني قالوا: بأن مدار الإسلام على حديثين هذا واحد منها، وعده بعضهم ثلث الإسلام، يعني: أن الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث هذا واحد منها، وعده بعضهم ربع الإسلام.

قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فهاتان جملتان، هل هذا من قبيل التكرار؟ يعني: هل الجملة الثانية بمعنى الأولى؟

الجواب: لا ليس كذلك، فالجملة الأولى على الأرجح أن ذلك في بيان أحكام الأعمال، وما يكون معتبراً منها وما تؤثر فيه النية، إنما الأعمال بالنيات بعضهم يقول: لم يقل الأفعال، وإنما قال الأعمال؛ لئلا يدخل في ذلك أعمال القلوب، يعني: إذا قيل الأفعال، يقولون: بأن الفعل يشمل فعل الجوارح، وقول اللسان، والترك، والتروك أفعال، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه لا فرق من هذه الحيثية بين الأفعال والأعمال، فالأعمال والأفعال تصدق على أعمال القلوب، وتصدق على أعمال الجوارح، وتصدق على أقوال اللسان، وتصدق على التروك، فالترك فعل، فالله قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].

فسمى ترك الأمر بالمعروف بنص القرآن فعلاً، بل أبلغ من هذا سماه صنعاً، والصنع أحكم وأدق وأخص من الفعل، هو فعل بإحكام بإتقان، لقوله عن الأحبار والرهبان، فإن ترك الأحبار، والرهبان، والعلماء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد من ترك غيرهم، قال: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، فسمى ترك الأحبار والرهبان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صنعاً، والترك فعل في صحيح المذهب.

وقول الصحابي لما كان النبي ﷺ يبني مسجد قباء ويحمل اللبن، قال:

لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المضلل

فسمى الترك عملاً، يقال له: فعل، ويقال له: عمل.

قال: إنما الأعمال بالنيات، يعني: أنها تعتبر بالنيات، هذا الاعتبار تارة يكون بالصحة، بحيث أنه لا يصح العمل أحياناً إلا بنية، فلو أنه صلى ولم ينو، أو اغتسل ولم ينو، أو توضأ ولم ينو، فمثل هذا لا يصح هذا العمل، لو صام ولم ينو، فإنه يعتد بعمله.

كما أن النية تفرق بين العادة والعبادة، هذا غسل، وهذا نظافة، يعني: اغتسل غسل شرعي، وهذا غسل نظافة، ففرقت بين العادة والعبادة.

وكذلك النية تفرق –أيضاً- بين أنواع العبادات، فهذه التي صليناها هي فرض العشاء، هذه التي تصليها بعدها هي الراتبة، التي صليتها حينما دخلت المسجد أول ما دخلت، هذه تحية المسجد، التي صليتها قبل الفجر هذه راتبة الفجر، التي صليتها بعدما أقيمت الصلاة هذه الفريضة، فالنية تفرق بين أنواع العبادات.

هذا صوم فرض، قضاء، وهذا نذر، وهذا تطوع، فهذا أيضاً داخل في قوله: إنما الأعمال بالنيات، فتميز النية بين هذا وهذا، لكن يبقى كما ذكرت في بعض المناسبات، هل يصح عمل بلا نية أو لا يصح؟

الذين قالوا: إنه عبر هنا بالأعمال، ولم يعبر بالأفعال، قالوا: لأن أعمال القلوب لا تحتاج إلى نية؛ لأنه لا يدخلها العادة، ولا يدخلها الرياء، فما يحتاج نية.

الخوف من الله ما يحتاج إلى نية، المراقبة ما تحتاج إلى نية، الحياء من الله ما يحتاج إلى نية، فهذه أعمال قلبية لا تحتاج إلى نيات.

وبعض أهل العلم يقولون: إن جميع الأعمال التي بالجوارح، وباللسان، لا تصح إلا بنية، أو لا بد فيها من نية، والأقرب أن هذا فيه تفصيل، فيقال: من الأعمال ما لا يحتاج إلى نية من أجل أن يؤجر الإنسان عليه، أو من أجل إبراء ذمته، فهناك قدر متفق عليه، مثل قضاء الدين، ورد المغصوب، هذا لا يحتاج إلى نية، أعطاه مالاً ولم ينو شيئاً، فتذكر فيما بعد أنه يريد منه أنه مدين له، فقال: هذه إذن لن أطالب بها، تكون في مقابل ما كان يطلبني، فما يحتاج إلى نية.

وكذلك رد المغصوب لا يحتاج إلى نية، رد المسروق لا يحتاج إلى نية، هناك نوع آخر وهو أعمال من الإحسان، هل يشترط لها النية أو لا؟

مثل المرأة التي سقت الكلب، وغفر الله لها بسبب ذلك، هذه لم يذكر أنها نوت، فدل على أن مثل هذا لا يحتاج إلى نية، وجدت إنسان يحتاج إلى من يبصره بالطريق، ومن يدله على مكان، فدللته ولم تستحضر نية، تؤجر، تبسمت في وجه إنسان، تبسمك في وجه أخيك صدقة [2] ما يحتاج إلى نية، تكلمت بكلام طيب، كف الأذى صدقة، كما أخبر النبي ﷺ.

وجدت إنساناً في حال من العطش، أو في حال من الجوع ،أو في حال من التعب، فحملته معك في سيارتك و لم تنو شيئاً، لم تنو التقرب إلى الله، فهذا لا إشكال فيه، ويؤجر الإنسان عليه، لكن النية يحتاج إليها في مثل هذا في أمر واحد، أن لا توجد نية فاسدة، الرياء أو السمعة، فإذا سلم من هذا فإنه يؤجر، فالذي يعمل من أجل أن يكفي نفسه السؤال والحاجة، ويكفي أولاده وأهله، يسعى عليهم يؤجر على العمل، بخلاف من يعمل تكثراً لطلب الدنيا، فمثل هذا لا يؤجر، وكذلك حينما يطعم امرأته، قال: تبتغي بها وجه الله لكنه ليس بشرط.

لأن النبي ﷺ قال: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر[3].

فهذا كله يؤجر الإنسان عليه، ولو لم ينو، لكن لا يكون له قصد فاسد، أعطيت إنسان هدية، لم تبتغ وجه الله، لكن ما قصدت معنى فاسداً، قد يعطيه هدية من أجل ماذا؟

كرشوة يأثم، مرائي يأثم، يعطيه هدية من أجل أن يتوصل إلى معنىً محرم هذا يأثم، لكن أعطاه هدية من باب الود، وما أشبه ذلك، فهذا يؤجر عليه، ولو لم تحضره نية التقرب إلى الله ، وهكذا.

قال: إنما الأعمال بالنيات، فهذه أحكام الأعمال أنها تعتبر، أنها تصح، أنها تقبل، بحسب ما اتصل بها من النيات، والنيات عرفنا أنها المقاصد، انبعاث القلب نحو العمل، إرادة القلب، توجه القلب، كل هذا متقارب.

قال: وإنما لكل امرئ ما نوى هذه الجملة الثانية كما سبق ليست بتكرار للأولى، ولكنها تبين هنا أحكام العاملين، لكل امرئ ما نوى، هنا الأعمال تعتبر بالنيات، هنا يكون للعاملين ما نووه.

فهذا الإنسان قد يعمل عملاً صالحاً، ويريد به ما عند الله فيؤجر، قد يريد به الرياء والسمعة فيأثم، قد يكون هذا العمل الذي عمله هذا الإنسان يريد به أمراً مباحاً.

قد يريد أن يتوصل بهذا الأمر المباح إلى قربة من القربات، فيكون عبادة، يريد أن ينام من أجل أن يقوم الليل، ينام في القيلولة، فيكون نومه هذا عبادة، يأكل ليتقوى على الطاعة، فيكون أكله عبادة، آخر يأكل ليتقوى على المعصية، أو ينام في النهار ليسهر بالليل على معصية، فمثل هذا يكون نومه معصية.

إنسان اشترى سيارة ليتوصل بها إلى مطالب محمودة، وقربات وطاعات، يذهب بها إلى المسجد، يذهب بها للدعوة إلى الله، يذهب بها لصلة الرحم، وما أشبه ذلك، يؤجر.

آخر اشترى سيارة من أجل أن يسافر بها إلى الحرام، أن يذهب بها إلى الحرام، أن يستعملها فيما حرم الله، فهذا يأثم، هذا إنسان اشترى هذا الجهاز، جهاز تسجيل من أجل أن يسمع به القرآن، والدروس، والمحاضرات يؤجر على هذا الثمن الذي بذله فيه، وهذه النية، وذاك اشتراه من أجل أن يسمع الحرام والمعازف، وما أشبه ذلك، فيأثم، وهكذا.

هذا إنسان افتتح متجراً في السوق من أجل أن يطلب الرزق وكذا، هذا أمر لا إشكال فيه، مباح، وقد يؤجر عليه كما سبق.

لكن آخر افتتح هذا المحل من أجل أن يوقع النساء، فتح مكان فيه ملابس نسائية، فيه أشياء في سوق النساء ونحو ذلك، لا لشيء إلا من أجل أن يكون علاقات محرمة عن طريق هذا المحل، وهذا يوجد، فيكون آثماً بفتح هذا المحل، وبكل ذهاب يذهب، وكل رخصة يخرجها، وكل ما ينفقه من أجل هذا المحل، والإيجار الذي يدفعه، وخطواته فيه معصية.

هذا يطلب العلم الشرعي، لا يريد إلا دنيا، فيكون لم يرح رائحة الجنة، وهذا يريد ما عند الله، فيصعد إلى أعلى المنازل، هذا حفظ القرآن ليقال: قارئ، فيكون -نسأل الله العافية- من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.

وهذا قرأ القرآن، ليصعد في المنازل والدرجات العالية في الآخرة، فهذا يرتقي بهذا العمل، والله -عز وجل- يعلم ما في الصدور، ولا يخفى عليه خافية.

لا أطيل عليكم، فأكتفي اليوم بهذا، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1. أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ (1/ 6)، رقم: (1)
  2. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صنائع المعروف (4/ 339)، رقم: (1956)، وابن حبان، كتاب البر والإحسان، باب حسن الخلق (2/ 221)، رقم: (474).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 697)، رقم: (1006).

مواد ذات صلة