الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
مقدمة عن الباب
تاريخ النشر: ٣٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣١
التحميل: 1177
مرات الإستماع: 1531

مقدمة باب جواز الشرب من جميع الأواني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا آخر باب في كتاب الأطعمة، وهو باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة، وجواز الكَرْع -وهو الشرب بالفم من النهر وغيره بغير إناء ولا يد، وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة، وسائر وجوه الاستعمال.

بمعنى: أن الأصل في هذا الباب -كما هو الأصل في عامة الأبواب في المنافع- الإباحة، الأبواب التي استُثنيتْ من هذا: استثنى بعض أهل العلم باب الذبائح، قالوا: الأصل فيها المنع، التحريم.

والباب الثاني: وهو باب الفروج؛ احتياطاً لها، في الأنكحة، والباب الثالث: وهو باب الديانة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1].

ومن ثمّ فإن الإنسان ليس له أن يأتي بعبادة من عند نفسه، أو يزيد في عدد أو صفة، أو يضع ذلك في زمان يقيده دون تقييد الشارع، أو نحو ذلك، فيُلحقه ذلك في البدع، إما الأصلية أو الإضافية، وأقل ذلك أن يكون من ذرائع البدع. فما عدا ذلك، في الملبوسات، في الأثاث، في المساكن، في المراكب، في البيع والشراء، والتجارات، كل هذا الأصل فيه الإباحة، هذا إذا لم نجد دليلاً على التحريم عامًّا أو خاصاً، أو كان ذلك مما يضر، أو كان من الأمور المستخبثة، فهو حينئذ مباح حلال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [لبقرة:29].

فخلق هذه المنافع، وأباحها لعباده، ولهذا بعض الناس يسأل أحياناً عن بعض الأنواع التي تؤكل، أو يسألون عن أكلها من النباتات، أو بعض الحيوانات التي لم يرد فيها دليل، مثلاً يقول: ما حكم أكل الكمثرى؟.

ما ورد فيه دليل، نقول: الأصل الإباحة، ما حكم أكل هذا الحيوان الذي يشبه الجمل، الذي هو اللأمة أو اللامة؟

يقال: جائز؛ لأن عندنا أصلا، الأصل في الذبائح المنع، ولكن ليس عندنا دليل هنا على تحريمه؛ لأن الدليل العام "يَحْرم عليكم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"[2]. فهذا ليس من ذوات الأنياب، فيباح، وهكذا.

جميع الأواني الطاهرة يشرب الإنسان فيها، ما الذي يستثنى غير الذهب والفضة فهما طاهران، لكنهما يحرمان، والعلة في التحريم اختلف أهل العلم فيها، النبي ﷺ قال: فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم[3].

فبعضهم قال: إن ذلك من عادة الكفار ومن أوانيهم، وبعض يقول: لأن ذلك فيه ترفع وزهو وتعاظم، وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول: فيه كسر قلوب الفقراء، وبعضهم يقول: للثمنية، من أجل أن الذهب والفضة هي الأموال التي يتعاطاها الناس، فإذا وضعت في الآنية ونحو ذلك فإن هذا يكون ضرراً على الناس، إلى غير هذا من التعليلات التي ذكروها.

المهم أنه لا يجوز الشرب، وقد جاء النص بهذا كما سيأتي، بآنية الذهب والفضة.

يقول: وجواز الكرْع، الآن الشرب بالآنية بواسطتها، لكن إن شرب من غير إناء، يشرب بفمه، هل يقال: هذا لا يجوز؛ لأنه تشبهٌ بالحيوان مثلاً؟، يقال: لا بأس بهذا، لاسيما إذا دعت إليه الحاجة، ما عنده إناء، يشرب من نهر، يشرب من بركة، يشرب من مجمع أسيال، أو نحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه، لكن إن كان من غير حاجة فهذا لا يحسن، وخلاف الأدب، ولا يخلو من التشبه بالحيوان، يعني: إنسان عنده إناء، وجالس يشرب، وضع الإناء على الأرض، ويشرب بفمه، يتشبه بالبهيمة، فهذا ما يليق.

قال: وهو الشرب بالفم من النهر وغيره بغير إناء ولا يد، أما الشرب باليد فهو شرب بواسطة لا إشكال فيه.

قال: وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة، كذلك، ومن أهل العلم من قال: إن الطهارة لا تصح، لماذا؟ لأن الماء صار في وعاء محرم، لا يجوز له ذلك، والأقرب أنه جائز؛ لأن الطهارة صحيحة مستوفية للشروط، غسل الأعضاء التي وجب غسلها، لكنه عصى باستعمال إناء الذهب والفضة، وهذا المثال يختلفون فيه عند التطبيق على مسألة ما نُهي عنه لذاته، وما نُهي عنه لوصفه، ما نهي عنه لذاته فهو للفساد، النهي للفساد، وما نهي عنه لوصفه فإنه لا يكون للفساد. 

وبعضهم يقسم الوصف إلى قسمين: وصف لازم، ووصف منفك، فبعضهم يجعل الإناء من قبيل الوصف المنفك، بعضهم يمثل له بالإناء، وبعضهم يمثل له بالثوب، وبعضهم يعكس: لو صلى بثوب مغصوب، أو بمكان مغصوب، والأقرب أن ذلك جميعاً يصح، لكنه مع الإثم.

يقول: واستعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة، وسائر وجوه الاستعمال.

سائر وجوه الاستعمال غير الأكل والشرب والطهارة مثل ماذا؟، مثل لو أنه وضع فيه الطيب، حاوية طيب مثلاً، أو مبخرة من الذهب أو الفضة، فليس له ذلك، كذا لو كان قلماً، أو مكحلة، كل هذا لا يجوز.

وكذلك المطلي بالذهب والفضة -وسيأتي الكلام إن شاء الله في باب اللباس- إن كان حين يُعرض على النار يخرج منه جرم، بمعنى أن عليه طلاءً معتبرًا، عليه طبقة، ما هو مجرد لون، فإن كان مجرد لون مثل هذه النظارات التي نلبسها فهذه ليست محرمة، مثل مقابض الأبواب التي جرت بها العادة، مثل الثُّريّات العادية، هي لون، مجرد لون، وهذا اللون أحيانًا يصل إلى نسبة بالمليون، نسبة ضئيلة جدًّا لا تذكر، تعطي فقط اللون، مثل هذا لا يحرم، لكن أحياناً تكون هناك طبقة على الملاعق، أو على الآنية عموماً، أو على مقابض الأبواب، أو النظارات، أو الأقلام، أو الساعات، أو نحو ذلك، بحيث إذا عُرض على النار خرج منه شيء، فهذا لا يجوز.

هذا ضابط المسألة، وأهل الخبرة يعرفون ذلك، يعني: إذا عرضت عليهم عرفوا أن هذه مجرد لون لا قيمة لها، وأيضاً يظهر في قيمة هذه الأشياء، هذا فيما يتعلق بالمطلي بالذهب والفضة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (3/ 1343)، رقم: (1718).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده (3/ 1534)، رقم: (1934).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب آنية الفضة (7/ 113)، رقم: (5634)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء (3/ 1634). 

مواد ذات صلة