الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه.."
تاريخ النشر: ٢٠ / محرّم / ١٤٢٧
التحميل: 552
مرات الإستماع: 1312

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء تحت هذا الباب الذي عقده الإمام النووي -رحمه الله- في النهي عن البدع، ومحدثات الأمور حديث: "جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي رواه مسلم"[1].

يعني: أنه ﷺ كأنه ينذر قومه جيشًا قد قرب وصوله إليهم، يغزوهم صبحكم ومساكم يعني: كما نعبر اليوم نقول: "وصلوكم وصلوكم"، جاءكم العدو، جاءكم العدو صبحكم مساكم أي: صبحكم الجيش، ومساكم، ينذرهم منه، أي: قد أزف وقرب مجيئه، ونزوله بساحتكم، فبادروا إلى الحذر والاستعداد. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، فمن أهل العلم من يفسر هذا الحديث، أي: أن ما بين الساعة ومبعث النبي ﷺ مدة يسيرة من الزمان، كالفرق بين هذه الأصبعين في الطول.

ومنهم من يفهم منه: أن مجيئه وبعثه -عليه الصلاة والسلام- مقترن بالساعة، كاقتران هذه وهذه، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم، فلا نبي بعده -عليه الصلاة والسلام-، والنبي ﷺ أخبرنا عما بقي من هذه الدنيا، وأنه لم يبق منها إلا كالصبابة يتصابها الناس، يعني: مثل الشيء الذي يبقى في القربة من السمن، أي: بقية السمن أو بقية العسل، أو نحو ذلك، فهم يضغطونها وربما سلتوها من أجل أن يستخرجوا هذا القليل الباقي فيها، فهذه حال الدنيا، وما بقي منها إلا القليل، وهذا القليل لا يقارن بعمر الإنسان القصير سبعين سنة، أو خمسين سنة، أو أقل أو أكثر، وإنما بالنظر إلى عمر الدنيا منذ أن أوجد الله آدم إلى الآن، ما الذي بقي نسبيًا؟ ما بقي شيء، كم جاء من أنبياء وأمم، وأهلكهم الله ؟ فما بقي إلا القليل، وقد ظهر من أشراط الساعة الصغرى الشيء الكثير، منها بعث النبي ﷺ، ومنها خروج النار، التي ذكرها -عليه الصلاة والسلام-، وقد خرجت في حرة المدينة، نار تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، ورآها الناس وشاهدوها، وكذلك أيضًا ما ذكره -عليه الصلاة والسلام- من إفاضة المال، وأن تلد الأمة ربتها[2]، كثرة الجواري، وهذا حصل في أوقات متطاولة.

وكذلك أيضًا أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء[3]، وهذا أيضًا قد وقع منذ زمن بعيد جدًا.

وهكذا عدد من الأمور التي أخبر عنها -عليه الصلاة والسلام-، والمقصود أنه -عليه الصلاة والسلام- يزهد الناس في الدنيا، ويأمرهم بالاستعداد للآخرة؛ ولهذا لما رأى بعض أصحابه كعبد الله بن عمر يبني حائطًا قال له: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك[4].

ومثّل -عليه الصلاة والسلام- الدنيا براكب استظل تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها[5]، كمثل المسافر العابر المجتاز، فلو أنك رأيت هذا الراكب التي تحت ظل شجرة بدأ يبني، وبدأ يسوي الأرض ويحسنها ويصلحها ويحرثها وما أشبه ذلك، لتعجبت منه، وهذا مثلنا في هذه الحياة الدنيا، وكان النبي ﷺ لربما جاءه القوم الوفد يسألونه عن الساعة، فينظر إلى أصغرهم، فيقول: إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم[6]، ما معنى هذا؟ هذا الصبي الصغير إذا عاش حتى أدركه الهرم، يكون هؤلاء الرجال الكبار قد ماتوا، تقوم عليهم قيامتهم.

ولذلك كان الرجل يسأل النبي ﷺ متى الساعة؟ فيقول: ماذا أعددت لها[7]، فالإنسان بحاجة إلى استعداد وعمل، واتباع لهدي النبي ﷺ؛ لأنه هو الطريق الوحيد؛ ولذلك يقول: "ويقول: أما بعد" وهي كلمة تقال لفصل الكلام، والجملة التي بعدها تكون مقترنة بالفاء فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ خير الحديث كتاب الله، لا يشتغل عنه بحديث غيره، ولكن القلوب إذا كانت غافلة لاهية، فإنها تميل وتأنس بالمجالس الفارغة التي لا تزيدها من الله إلا بعدًا، فإن ازدادت غفلتها فإنها تتفكه وتأنس وتلتذ بالوقوع بأعراض الناس، وقضاء ساعات النهار في الوقيعة بهم، والحديث عنهم، فيكون الإنسان قد ترك شغله، وما هو بصدده، واشتغل بغيره من عيوب الناس، وذكرها، مع أن ذلك لا ينفعه لا في الدنيا، ولا يرفعه في الآخرة، ولكن الشيطان يزين له هذه الأمور، وإلا فإن المعاصي -أيها الأحبة- ما وقع فيها من وقع إلا لطلاوة وزينة عليها، فالغيبة يقال لها: فاكهة المجالس، يلتذ الإنسان أحيانًا بها مع أنه لا فائدة فيها لو فكر، وكذلك أيضًا ما يعافسه من ألوان المحرمات بالنظر أو غيره كل ذلك إنما يفعله لما يزينه له الشيطان، وما يوجد في طبعه وقلبه من الميل مع الأهواء التي قد مزجت وركبت في نفسه تركيبًا عجيبًا.

فخير الحديث كلام الله، فلو أن القلوب طاهرة نقية نظيفة لما شبعت من كلام الله ، خير الحديث لفظًا ومعنى، وقد اشتمل على ألوان الهدايات، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] مع كمال الصدق وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] كامل الصدق، وكامل الهداية، مع بلاغة لا يشبع منها الفصحاء، ووضوح وبيان، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

قال: وخير الهدي هدي محمد ﷺ ما سنه -عليه الصلاة والسلام- لأمته، وخير العمل وخير السمت، وخير هدي بإطلاق في الظاهر وفي الباطن هديه ﷺ، فهيئته في الهدي الظاهر أكمل هيئة، ولكن الإنسان إذا غفل بحث عن غيره؛ ليقتدي به، وقد ينتكس تمامًا، فيكون شرار الخلق هم قدوته في ظاهره، حتى يصير في حالة يشبه فيها الشياطين في ظاهره، وأعظم من ذلك -أيها الأحبة- أن يقع من أمة قد شرفها الله ببعثه، ومن نسل المسلمين التشبه بأعداء الله في هيئتهم الظاهرة، حتى إنك قد لا تفرق كثيرًا في بعض الأحيان هل هذا من هذه الأمة المشرفة، أو أنه من أعدائها؟ لما ترى من مباينة هدي النبي ﷺ بالكلية، والناس في هذا يتفاوتون غاية التفاوت، كما أن هديه ﷺ الباطن في إصلاح النفس والسلوك والأخلاق والتوكل والثقة كل ذلك أكمل الهدي.

وكذلك أيضًا هديه ﷺ في تعامله مع الناس، ومع الزوجات ومع الجيران، ومع القريب والبعيد والعدو والصديق هو الهدي الكامل؛ ولذلك لسنا بحاجة إلى  أن نذهب ونتطفل على الأمم في أزيائنا وأخلاقنا، ونأخذ نظرياتهم في الأخلاق والسلوك، وما إلى ذلك، ونترك ما جاء عن هذا النبي العظيم -عليه الصلاة والسلام-، حتى في الأمور العادية، فإنه شخصية عظيمة -عليه الصلاة والسلام-، لو أن الإنسان قال: أنا أريد أن أقتدي به حتى في الأمور العادية في الذي يحبه من الأكل واللباس، نقول: هذا أمر يؤجر الإنسان عليه، مع أنه غير مطالب به شرعًا؛ ولذلك كان بعض أصحاب النبي ﷺ كأبي هريرة ، وأنس وابن عمر يقتدون به في أمور عادية، هذا يتتبع الدبا (القرع)؛ ويقول: رأيت النبي ﷺ يتتبعها، فكانوا يقتدون به -عليه الصلاة والسلام- في كل أمر، وفي كل شأن.

قال: وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة خير الهدي هدي محمد ﷺ، وبالمقابل شر الأمور محدثاتها؛ لأن هذه البدع لا تقرب إلى الله، وإن قصد بها الإنسان التقرب؛ لأنه يتعبد إلى الله بأمر يحدثه ويبتدعه، أو يبتدعه غيره، فيتقرب إلى الله فيه، فلا يزيده من الله إلا بعدًا شر الأمور و(شر) هي أفعل تفضيل، كما يقول: أخير، يعني: أفضل الأمور، كما قيل:

وغالبًا أغناهم خير وشر عن قولهم: أخير منه وأشر[8]

فهي بمعنى صيغة التفضيل وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وهذه جملة عظيمة جدًا، تدلك على أنه ليس هناك شيء اسمه بدعة حسنة، هدي النبي ﷺ كامل، فلا يحتاج إلى أن يأتي أحد فيكمله، فالبدع كلها ضلالة، ما في بدعة حسنة، وبدعة سيئة، أو كما يقال على الأنواع الخمسة: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مكروه، وبدعة مستحبة، وبدعة مباحة، أبدًا، كل بدعة ضلالة، وأقوى صيغ العموم لفظة (كل) ما يخرج من هذا شيء، فالذي يقول: هناك بدع حسنة مناقض لهذا النص الصريح.

ثم يقول -عليه الصلاة والسلام-: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا ومعنى: ضياعًا، أي: العيال، ترك أطفال يضيعون "فإلي وعلي رواه مسلم" هذا قاله النبي ﷺ متى؟ بعد ما فتح الله عليه الفتوح، من قريظة والنضير، ووسع الله عليه في المال، كان الرجل يُقدَّم إلى النبي ﷺ إذا مات، فيسأل هل عليه دين؟ فإن قالوا: عليه دين، تنحى، وقالوا: صلوا على صاحبكم[9]، فلا يصلي عليه إذا كان عليه دين، حتى فتح الله عليه الفتوح، فصار يقضي عنهم ديونهم، ويكفل هذه الأسرة، وهؤلاء العيال الصغار، فلا يضيعون، فهو ينفق عليهم، ويعطيهم من بيت المال -عليه الصلاة والسلام-، وهذا من كمال رحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام- بهذه الأمة، وهذا معنى قول الله في سورة الأحزاب: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6].

وأيضًا يدخل في قوله: أنا أولى بكل مؤمن أن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم في التقديم والطاعة، أمره نافذ فيهم أعظم من نفاذ ما تأمرهم به نفوسهم، وأيضًا النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أي أنه أولى بالمحبة لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين[10] ولما قال عمر : إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يا عمر قال: "وإنك أحب إليك من نفسي" قال: الآن يا عمر[11]، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة، وفي الذب عنه، والدفع عن عرضه وعن نفسه، في حياته -عليه الصلاة والسلام-، وأولى بالمؤمنين من أنفسهم بالاتباع والطاعة والانقياد، كل هذه المعاني داخلة في هذا.

فنسأل الله أن يلحقنا به -عليه الصلاة والسلام-، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يسقينا من حوضه، وأن يرزقنا شفاعته، وأن يغفر لنا ولكم ولإخواننا المسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (8).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (8).
  4. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد باب ما جاء في قصر الأمل برقم (2335) وصححه الألباني.
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد برقم (2377) وصححه الألباني.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت برقم (6511) ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة برقم (2952).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب علامة حب الله -عز وجل- برقم (6171) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب برقم (2639).
  8. شرح الكافية الشافية (2/1121).
  9. أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من ترك كلاً أو ضياعاً فإلي)) برقم (5371) ومسلم في كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته برقم (1619).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان برقم (15) ومسلم في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد والوالد برقم (44).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (6632).

مواد ذات صلة