الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تحريم الظلم، والأمر برد المظالم أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء[1] رواه مسلم.
قوله ﷺ: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة لتؤدن، هذه الصيغة تشعر بقسم، كأنه يقول: والله لتؤدن الحقوق إلى أهلها، ودخلت عليه أيضًا نون التوكيد، فصار فيه مؤكدان، والحقوق هنا تشمل سائر أنواع الحقوق؛ الحقوق المالية، والحقوق المتعلقة بالأبضاع، والأعراض، وكذلك أيضًا الحقوق المتعلقة بالعرض كالغيبة، وما إلى ذلك، فهذا كله من الحقوق، يدخل فيه الحقوق المالية، وغير المالية، فكل هذه الحقوق تؤدى إلى أهلها يوم القيامة، كيف تؤدى يوم القيامة؟
بالحسنات، والسيئات، فيؤخذ من حسنات هذا الإنسان الذي عليه الحق، ويعطى لذلك الذي له الحق، فإذا كانت المطالبات كثيرة، والبضاعة قليلة، فليس عنده حسنات تصرف لهؤلاء الناس، أو أن الإساءات كثيرة، ففنيت الحسنات، فإن الحساب لا يتوقف، وأداء الحقوق لا ينقطع، وإنما يؤخذ من سيئاتهم، فتجعل عليه، وهذا يعطينا أمرين، الأمر الأول أن يعرف الإنسان أن جميع الجنايات التي يقارفها في هذه الحياة الدنيا، وما يأخذه، ويضع عليه يده من حقوق الناس، أو يقع في أعراضهم، وما إلى ذلك من ألوان الأذى، أو العدوان بجميع صوره، وأشكاله أنه سيدفع الثمن سواء علم هؤلاء الناس بما وقع في حقهم مما يتصل بأعراضهم، أو بأموالهم، أو بغير ذلك من أنواع الجنايات، سيؤدي الثمن، قد يصدم إنسانا، ويموت، أو يصاب بعاهات، أو بجراح، أو غير ذلك، ثم يذهب، ولا يعرف من هو، لكن الله يعلم، هو سيدفع الثمن.
قد يقتل إنسانا متعمدا، ثم لا يوقف عليه، ولا يعرف من الذي قتل، ولكن الله يعلم، سيدفع الثمن.
قد يأخذ قليلاً من المال؛ المال العام، أو مالاً خاصًا، ولا يشعر به أحد، ولكنه سيدفع ذلك.
فإذا عرف الإنسان مثل هذا، حاسب نفسه محاسبة شديدة، قال ما أريد لأحد شيء، أكون طالبا، ولا أكون مطلوبا، فمال الإنسان، وحقوق الخلق التي الأصل فيها المشاحة، بخلاف حقوق الخالق، فإن الأصل فيها المسامحة.
فبدلاً من أن يتحدث هذا اللسان، ينطلق في أعراض الناس، وهذا فيه، وهذا ما فيه، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا الذي ينفع، ويرفع، أما فلان قال، وفلان فعل، وفلان ترك هذا لا يفيد.
أحيانا تسمع الإنسان، وهو خارج من المسجد، وأحيانا، وهو خارج من الحرم يتكلم على من شاهده في الممر، أو من شاهده عند الباب، أو من رآه ينصح يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، يقول: هذا يريد يتكلم بس، كلمة ما نفعتك، فهو يدفع الثمن.
إذا عرف الإنسان، وأيقن أن ذلك سيؤخذ من رصيده الذي لا يعادله شيء من الدنيا بما فيها، رصيده حسنات، الذي هو أحوج ما يكون له حسنة واحدة، قد تكون هي التي تثقل الميزان هذه الحسنة الواحدة، ويأتي هذا يقول: هات، وهذا يقول: هات، وهذا يقول: هات، وهذا يطالبه، والميزان، حق توزن فيه مثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه إشارة العين، حركة اليد، حركة الأصبع، تتكلم في إنسان بطريقة بشفته، أو نحو ذلك كل هذا سيدفع الثمن، فما يصدر من الإنسان إلا ما يليق، ما يجمل، ما يحسن، ماله وحقوق الناس لو فكر العاقل في هذا هو الخسران.
الأمر الثاني: وهو أن يعلم المؤمن أنه ما يضيع شيء، فلا تذهب نفسه حسرات، هذا تطالبه بمال، ويماطل، ولربما كثير من الناس يعيش بشيء من القلق؛ لأن أمواله ذهبت، أقرض زيدا، وما قضاه، بايع فلان، وما وفاه، شارك عمرا، ولكنه ما صدقه، استأجر أجيرًا، فضيعه، وضيع ماله لا يحزن، لن يضيع شيء لا قليل، ولا كثير، إن عفوت، فالأجر عند الله أوفى أعظم من القصاص، وإن لم تعف سيأتيك من حسناتهم في وقت أحوج ما تكون إلى هذه الحسنات، ما يضيع شيء أبدًا.
فهذا الذي يتقلب على فراشه، ويقول: راح عليه مائة ألف هنا، وذهب عليه عشرون ألفا، وذهبت هنا خمسون ألفا، وذهب هنا أكثر، وهنا أقل، وهنا هذا صدم سيارتي، ذهب، وتركني، قام الصباح وجد سيارته مضروبة، مصدومة، هذا الذي ما يتقي الله، هذا الذي ما يفعل، هذا الذي ما يترك، ما يضيع شيء، هو راح، لكنه سيرجع في يوم من الأيام، ويأتي، ويدفع الثمن.
إذا كان البهائم كما قال النبي ﷺ حتى يقاد للشاة الجلحاء التي ما لها قرون، من الشاة القرناء، كما جاء في بعض الروايات: التي كانت تنطحها في الدنيا، هذه شاة بهيمة لها قرون، وهذه ما لها قرون، نطحت التي لها قرون أشد، فتبعث البهائم يوم القيامة كلها، فيقتص بعضها من بعض، هذه عضتها، هذه نطحتها، هذه ضربتها، هذه كلها هذا يقتص بعضها من بعض.
فالله حكم عدل، والدنيا ليست هي دار القصاص، قد يموت الظالم، وهو في غاية البطر، والأشر، والاستيلاء على أموال الناس، وما اقتص منه، لكن القصاص هناك، هناك دار الحقوق، والأداء، والعدل الكامل، ذلك يوم الدين، يوم الدين يعني: يوم الجزاء والحساب.
نقول في كل صلاة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ما هو يوم الدين؟
كما تدين تدان يوم الدين يوم الجزاء، والحساب هناك، فما يضيع شيء، اطمئن تماما، لا تقلق، فإذا عرف المؤمن هذا استراح، ولم تأخذه الهموم، والأرق، والقلق لضياع حقوق هنا، أو هناك.
فهذه الشاة الجلحاء، يقاد لها من الشاة القرناء، ثم بعد ذلك يقال لهذه البهائم إذا اقتص بعضها من بعض:كوني ترابا، فتكون ترابا فيراها الكافر فيقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [2].
يتمنى لو أنه صار إلى هذه الحال، وهذا معنى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا تسوى بهم الأرض، يعني: يصيرون ترابا، هذا الكافر الذي حصل من مباهج الدنيا، وطغى، وتجبر، وآذى عباد الله وقتل الأبرياء يتمنى يوم القيامة أنه تراب، لما يرى البهائم يتمنى أن يصير إلى حالها، ولهذا قال الله عنهم بأنهم أسوأ حالاً من الأنعام أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.
ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نتحدث عن حجة الوداع، والنبي ﷺ بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع، حجة الوداع؛ لأن النبي ﷺ ودع الناس فيها، ويقال لها: حجة البلاغ؛ لأنه قال: ألا هل بلغت[3]فيقال لها ذلك.
ويقال لها غير ذلك أيضًا من الأسماء، كتسمية بعضهم لها بحجة الإسلام؛ لأن الناس قبل ذلك كان المسلمون، والمشركون يحجون البيت جميعا، فحج أبو بكر في السنة التاسعة، ثم نادى مناد بصدر سورة براءة ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان[4] فحج النبي ﷺ في السنة العاشرة، ولم يحج إلا المسلمون فقيل لها حجة الإسلام، خالصة قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.
فهنا يقول: "والنبي ﷺ بين أظهرنا، بين ظهرانينا، يعني: بيننا، يقيم بيننا، ولا ندري ما حجة الوداع، حتى حمد الله رسول الله ﷺ وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال، فأطنب في ذكره[5]" يعني: أطال في ذكره، المسيح الدجال، قيل له المسيح قيل: لأن عينه ممسوحة، وقيل: لأن شق وجهه ممسوح، ليس فيه عين أصلاً، وقيل: لأنه يمسح الأرض، يطوفها في مدة وجيزة، وقيل غير ذلك في سبب تسميته مسيح.
وعيسى -عليه الصلاة والسلام- يقال له: المسيح، لكن شتان، فالمسيح عيسى قيل إنه قيل له ذلك: لأنه يمسح على ذي العاهة؛ فيبرأ بإذن الله يبرئ الأكمة، والأبرص، فيسمح هؤلاء من أصحاب العاهات، ويبرؤون بإذن الله تعالى.
وقيل غير ذلك من أسباب هذه التسمية، لكن هذا من أشهرها.
يقول: "حتى حمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال" وقيل له الدجال: لأنه كذاب، فأطنب في ذكره، وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته، يعني: ما كان الأنبياء يعلمون متى يخرج الدجال، فكانوا يحذرون أممهم منه، وهذا يدل على شدة خطره.
يقول: "أنذره نوح، والنبيون من بعده، وإنه إن يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه، فليس يخفى عليكم إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية".
يقول: سأعطيكم وصفًا لا يخطئه أحد مهما التبس عليكم من أمره؛ لأن هذا الرجل يضلل الناس، يقول للسماء: "أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، ويمر بالمكان الخراب، فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل".
إذا كان الناس اليوم يصدقون في وسائل الاتصال الحديثة أشياء يتناقلونها، ويتداولونها بينهم، وهي لا حقيقة لها، ويسارعون فيها، فكيف إذا ظهر هذا المسيح الدجال، وبدأ يظهر هذه الخوارق، كم سيتبعه من الناس؟
"كأن عينه عنبة طافية، يعني: طفأ على الماء، الشيء يعني: ارتفع، عنقود العنبة يكون فيه عنبة بارزة، زائدة، خارجة عن انتظام العنب في العنقود، يقال: عنبة طافية، فعينه بارزة، ظاهرة، خارجة، شكله منفر ألا إن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، كحرمة يومكم هذا[6] الدماء، والأموال.
وفي بعض روايات الأحاديث التي في مقامه ﷺ وخطبته عام حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا الذي هو يوم النحر في بلدكم هذا وهو مكة في شهركم هذا وهو شهر ذي الحجة ألا هل بلغت يعني اجتمعت الحرمة المكانية، والزمانية ألا هل بلغت قالوا نعم قال: اللهم اشهد ثلاثا ويلكم أو يحكم ويل تقال للوعيد، ويح للترحم، ويحك انظروا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعضكم[7].
يحتمل أن قوله: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض هذه الجملة يضرب بعضكم رقاب بعض أنه يرجع إلى الضمير في قوله: ترجعوا باعتبار أنهم يتقاتلون إما أنهم يستحلون القتل، فيكونون كفارًا في ذلك، أو أنهم يتقاتلون، فيكون فعلهم هذا كفعل الكفار، والنبي ﷺ قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[8].
ويحتمل أن قوله: يضرب بعضكم رقاب بعض يرجع إلى الكفار لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فيكون المقصود تفعلوا فعل الكفار، حيث يضرب بعضهم رقاب بعض، أو أنه لا ترتدوا عن دينكم، فيكون حالكم حال الكفار من التقاتل، واستباحة الدماء، فالنبي ﷺ على كل هذه الاحتمالات، وغيرها مما يذكره أهل العلم يحذرهم من أن يقع بينهم الشر، والقتال، فإن ذلك لا يحل لأهل الإيمان بحال من الأحوال وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] الحديث رواه البخاري، وروى مسلم بعضه. -والله أعلم-.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2582).
- أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب العلم، برقم (8716)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1966).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم (1741)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، برقم (1622)، ومسلم، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحج الأكبر، باب، برقم (1347).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (48)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، برقم (64).