الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إذا سافرتم في الخصب..» إلى «عليكم بالدلجة..»
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٣١
التحميل: 492
مرات الإستماع: 1216

إذا سافرتم في الخصب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

كتاب آداب السفر:

باب: آداب السير، والنزول، والمبيت والنوم في السفر، واستحباب السرى، والرفق بالدواب، ومراعاة مصلحتها، وجواز الإرداف على الدابة، إذا كانت تطيق ذلك، وأمر من قصر في حقها بالقيام بحقها.

وأورد المصنف:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب، فأسرعوا عليها السير، وبادروا بها نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الهوام بالليل[1] رواه مسلم.

قوله ﷺ: إذا سافرتم في الخصب الخصب: وقت نبات الأرض، خلاف الجدب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض أي -كما قال المصنف-: ارفقوا بها في السير؛ لترعى في حال سيرها، بأن يعطيها فرصة من أجل أن ترعى من هذا الخصب، فلا يفوت حظها منه، وهكذا إذا كان يجتاز بأرض معشبة، ولو لم يكن وقت الخصب، فإنه يعطيها حظها من ذلك أيضًا.

قال: وإذا سافرتم في الجدب يعني: الوقت الذي لا ينزل فيه المطر، والأرض تكون ممحلة فأسرعوا عليها السير، وبادروا بها نقيها النقي: هو المخ، يعني: أسرعوا بها حتى تصلوا المقصد قبل أن يذهب مخها من طول السير، وطول المسافة، وكثرة التعب؛ لأنها لا ترعى، ولا تجد عوضًا عما يفوتها من قوتها، وما يذهب من بدنها.

يقول: وإذا عرستم التعريس: هو النزول في الليل على المشهور فاجتنبوا الطريق يعني: لا تناموا في الطريق، وكان في السابق قديمًا حينما كان الناس يسافرون على الإبل، وما كانوا في الغالب يمشون في وسط الصحراء هكذا على أي حال، وإنما كانوا يسلكون طرقًا اعتاد الناس سلوكها، والاجتياز فيها، فتبقى فيها آثار الدواب، ويكون ذلك واضحًا ظاهرًا، فيقال لها: طريق.

فإنها طرق الدواب يعني: أن الدواب تمشي عليها، فقد تؤذيكم، وأيضًا تقطع عليها طريقها إذا عرستم فيها ومأوى الهوام بالليل الهوام من الحشرات، العقارب، والأفاعي، ونحو هذا، فإن هذه تأوي إلى الطريق علها تجد شيئًا من أثر المارة، مما يسقط منهم، أو يبقى، أو يتخلف، أو نحو ذلك، فيتأذى بها من عرّس في الطريق.

ويقال اليوم: بأن الإنسان يحمل السيارة ما تطيق من حيث الأحمال، ولا يحملها أكثر مما تحتمل من الوزن، سواء كان ذلك في الرُّكاب، أو فيما يحمله من المتاع.

وكذلك أيضًا فإنه يسير بها سيرًا يرفق بها، ويرفق بنفسه، وبمن معه، وقل مثل ذلك أيضًا في الوقوف، فإنه لا يقف في الأماكن الخطرة التي يمكن أن يسير عليها سائرون، أو يؤدي ذلك إلى وقوع مكروه به، وإنما يبتعد عن ذلك، بحيث يتجنب مظان الأخطار.

إذا كان في سفر فعرَّس بليل
وعن أبي قتادة قال: كان رسول الله ﷺ إذا كان في سفر فعرَّس بليل، اضطجع على يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه[2]. رواه مسلم.

"كان رسول الله ﷺ إذا كان في سفر، فعرس بليل" يدل على أن ذلك من عادته، وأن ذلك يتكرر منه.

"اضطجع على يمينه" لأن لديه من الوقت متسع للنوم، فإنه يضطجع على يمينه؛ وذلك هو المشروع، أو هو المسنون في النوم، سواء كان في السفر، أو في غير السفر، وقد ذكر أهل العلم من علله: أن القلب يكون معلقًا، فلا يكون النائم في حالٍ من الاستغراق، ثم بعد ذلك لا يشعر بشيء، فتفوته الصلاة، ونحو ذلك.

"وإذا عرس قبيل الصبح" يعني: إذا نام متأخرًا، كأن نزل في وقت السحر، أو نحو هذا نصب ذراعه يعني: الأيمن؛ لأنه يبقى أيضًا على شقه الأيمن، فهو يضع كفه تحت خده الأيمن، ويضطجع على شقه الأيمن إذا كان في ليل، وإذا كان في آخر الليل نصب ذراعه الأيمن، ووضع كفه على خده الأيمن "ووضع رأسه على كفه، رواه مسلم" بمعنى: أنها نومة خفيفة غير مستغرقة، لا يؤخذ فيها الجسد حظه من الأرض، وإنما يكون في حال من التهيؤ للاستيقاظ؛ وذلك من أجل أن يستيقظ للصلاة، فلا يستغرق في النوم، فتفوته صلاة الصبح عن وقتها، هذا في سفر، وهذا هديه ﷺ في أسفاره حرصًا على الصلاة، فكيف بمن يضيع الصلاة في الحضر والسفر، ولا يرفع لذلك رأسًا، بل يوقت الساعة على وقت الذهاب إلى العمل، بل ربما لا يصلي أصلاً الفجر، وللأسف هذا أمر شائع ذائع، وينبغي على العبد أن يستدرك مثل هذا التقصير العظيم، وأن يصلح من حاله ومن عبادته وصلاته قبل أن يوافي، ثم بعد ذلك لا ينفعه الندم.

إن الأرض تطوى بالليل

والحديث الثالث:

عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل[3] رواه أبو دواد، بإسناد حسن.

عليكم بالدلجة المقصود بالدلجة: هي السير في الليل.

فإن الأرض تطوى بالليل بعض أهل العلم قال: تطوى حقيقة، وينزوي بعضها إلى بعض في الليل، فتقصر عليه المسافة.

وبعضهم يقول: فإن الأرض تطوى بالليل المقصود به: أن الليل يكون فيه من برد الهواء ما لا يكون في النهار، فيكون ذلك أنشط للدواب، فتسرع في سيرها، ويخف عليها السفر، وطول المسير، فتقطع في الليل من المسافات ما لا تقطعه في النهار.

ولا شك أن ما يحصل للإنسان من النصب في النهار، وما يكون فيه من إشغال الحواس بالأصوات وغيرها، وما يكون فيه من المشاق بسبب حر الشمس، فإن ذلك يطول عليه المسير، بخلاف الليل، فإن ذلك يقصر عليه؛ لأن حواس الإنسان تكون في حال من الهدوء، وهكذا حواس الدواب، ويكون السير أسهل، والدواب أنشط للمسير، فتقطع ما لا تقطعه؛ ولهذا قالوا في الأمثال: "عند الصباح يحمد القوم السرى" لأنهم يقطعون فيه ما لا يقطعون في غيره، فهنا قال: فإن الأرض تطوى بالليل والفاء تدل على التعليل، يعني: أن يحرص الإنسان على السير ليلاً، فإن ذلك أدعى لقطع المسافات الطويلة، وهذا لا يعارض -كما أشرتُ في الأمس- ما ورد من الأمر بإمساك الصبيان والدواب في أول الليل، حتى تذهب فحمة العشاء؛ لأن الشياطين ينتشرون في هذا الوقت، فيكون المقصود بالسير في الليل بعد ذهاب فحمة العشاء.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. صحيح مسلم في كتاب الإمارة، باب مراعاة مصلحة الدواب في السير، والنهي عن التعريس في الطريق برقم (1926).
  2.  أخرجه صحيح مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها برقم (683).
  3.  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الدلجة برقم (2571) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة