الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل قيام" الليل أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، أن رسول الله ﷺ قال: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود -عليه الصلاة والسلام-، المراد بذلك صلاة الليل وصيام التطوع، وإلا لا شك أنه ما تقرب المتقربون إلى الله بأحب إليه مما افترض عليهم، فصيام الفرض أفضل من صيام النفل مهما كان، وصلاة الفرض أفضل من صلاة النفل مهما كانت.

فالمقصود هنا قيام الليل أحب الصلاة إلى الله صلاة داود بمعنى أن ذلك أفضل من إحياء الليل بأجمعه، وأفضل الصيام، صيام داود بمعنى أنه أفضل من صيام الدهر، يعني أن يسرد الصوم فلا يفطر، فهذا أفضل، وقد قال ذلك النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لما كان يقوم الليل ولا ينام، يقرأ القرآن كل ليلة، ويصوم ولا يفطر، فأرشده النبي ﷺ إلى هذا، ولما قال: "إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك"[2]، هذا أفضل ما يكون من الصيام، ومن القيام لمن أعانه الله عليه، ولكن أيضًا قوله ﷺ: أحب الصلاة إلى الله صلاة دواد، وأحب الصيام إلى الله صيام داود.

داود  كان نبيًا وكان ملكًا فأعباء النبوة ومتطلباتها ومقتضياتها من البلاغ، والقيام على أمور الناس، ودعوة الخلق إلى الله -تبارك وتعالى-، وتعليم الجاهل، هذا بالإضافة إلى الملك، ولا تخفى أعباء الملك، وإدارة الممالك، وما أشبه ذلك، فهذا كله يقتضي وقتًا وزمنًا كثيرًا إلا أن داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان يصلي من الليل هذه الصلاة ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وفي الصوم يصوم يوم، ويفطر يوم، ملك ونبي.

فنحن حينما نعتذر بالأشغال وأننا لا نطيق، لا نصوم لا اثنين ولا خميس ولا أيام بيض ولا غير ذلك حينما نعتذر بالأشغال، هل أشغالنا كأشغال داود ؟

أبدًا، وإنما هي لربما في الغالب كان ذلك لشيء في النفس؛ لأن الإنسان يعلل نفسه بذلك فتتضخم هذه الأشياء التي عند الإنسان وهي يسيرة، فيتوهم أنه لا يطيق معها القيام بكثير من العمل الصالح، ويدل على ذلك أن الكثيرين ممن يتعلل بهذا إذا تقاعد لم تتغير حاله، وهذا مشاهد لدى الكثيرين، وإذا جاءت الإجازة كان في إجازة وليس في سفر لم تر تغيرًا في حاله، ما تر إقبال على العبادة، فتحول هذا الإنسان إلى شيء آخر من القيام والصيام مما كان يشغل عنه في أيامه السالفة.

فهذا يدل على أن ذلك يرجع إلى نفس الإنسان في الغالب، وأنها تحتاج إلى شيء من المجاهدة، وأن الإنسان لا يخدع نفسه، العمل الصالح يحتاج إلى مجاهدات، وهذا لا يمنع من أن ينبه إلى أمر، وهو حينما يقال: بأن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود بهذه الصفة يعني صلاة الليل، وأن أحب الصيام صيام داود، بمعنى أنه يصوم يومًا ويفطر يومًا، فالنبي ﷺ نهى عبد الله بن عمرو في بداية أمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، والحسنة بعشر أمثالها فذلك عن صيام الدهر؛ لأن النبي ﷺ نظر إلى الاستمرار والمداومة على العمل إلى الممات، فليست القضية في أيام قوة ونشاط في أيام الشباب، لا، الإنسان سيستمر على العمل الصالح فأرشده إلى طريقة هي أرفق به، فلما طلب أكثر من هذا لا زال النبي ﷺ يزيده وهو يطلب الزيادة، حتى أوصله إلى هذا الحد، ومنعه من سرد الصوم؛ أن يصوم الدهر، ولهذا يقال هنا: النبي ﷺ ما أرشد عبد الله بن عمرو إلى هذا ابتداء، ولهذا هل يقال: إن أفضل العمل بإطلاق هو كذا؟ أو أفضل البلاد يسكنها الإنسان هي مكة أو المدينة مثلاً؟

يعني نحن يمكن أن نقول بإطلاق: بأن أفضل الصيام كما قال النبي ﷺ: صيام داود وأفضل صلاة الليل هذه هي صلاة داود، ونقول: إن أفضل البقاع في السكنى مثلاً مكة والمدينة، لكن حينما نأتي لآحاد الناس وأفراد الناس فقد يختلف الحكم فيهم، فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[3] -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم بأن ذلك يختلف باختلاف الناس، فقد يكون الأفضل في حق زيد في السكنى والإقامة ألا يسكن في مكة والمدينة، لماذا؟

لأن نفعه في مكان آخر أعظم مثلاً، ولذلك الصحابة انتقلوا من المدينة، وذهبوا إلى بلاد كثيرة، وقبورهم موجودة في مشارق الأرض ومغاربها، فبقاؤهم هناك أنفع، وقد يكون ذلك لأمر يرجع إلى الإنسان نفسه يعني ما هو إلى نفعه المتعدي لا، إلى الإنسان فقد يسكن في المدينة أو قد يسكن في مكة ولكنه لا يجد قلبه، بمعنى لا يستريح لا ينشرح صدره، لا يرتاح، وهذه أمور وهبية من الله يقول: لم تطمئن نفسي، ولم أجد انشراحًا في سكناها.

فالأفضل في حق هذا الإنسان هو المكان الذي يجد فيه استرواحًا ترتاح فيه نفسه، يعني يعبد الله وهو مرتاح فقد يكون الأفضل في حق زيد هو أن يسكن القرية الفلانية قريته؛ لأنه يجد قلبه فيها ويرتاح، ويعبد الله وهو مرتاح، لكن ذهب سكن في المدينة سكن في مكة ووجد قلبه مشوشًا فهل يقال: الأفضل في حقه أن يذهب ويبقى ولو بقي قلبه بهذه الصفة؟

الجواب: لا، وهكذا بالنسبة للأعمال الصالحة ابن مسعود كان يُقل الصوم، وذكر أصحابه ذلك له، سألوه إنك لتقل الصوم؟ وابن مسعود كان نحيلاً ومن الناس من يشق عليه الصوم، ليس مشقة نفسية كما يحصل عند بعض الناس؛ لأنه ما اعتاد، لا مشقة حقيقية فيشق عليه الصوم فلما قالوا له ذلك قال: نعم؛ لأنه الصوم يعني يشغلني عن قراءة القرآن[4]، وفي بعض الروايات: يشغلني عن كثير من الصلاة[5]، أو كما قال، والصلاة أحب إليّ"، يعني بمعنى كثير النوافل كثير التطوع في الصلاة فإذا صام ضعف، وهذا موجود من الناس من إذا صام تعطل، وبقي كأنه خرقة، لا يستطيع الذهاب والمجيء والحركة، والعمل، ونحو ذلك، فمثل هذا قد تكون الصلاة بالنسبة إليه إذا كان كثير الصلاة النوافل أفضل، قد يكون كثير قراءة القرآن وإذا صام جلس لا يقرأ لا قرآن، ولا يحضر مجالس العلم، إذا كان طالب علم يتعطل، فهل يقال في حقه: الأفضل أن يصوم مثل هذا بمثل هذه الطريقة؟ مع أن ابن مسعود كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر كان يصوم الاثنين والخميس، ومع ذلك يقولون له: إنك لتقل الصوم، فيقول: نعم؛ لأنه يشغلني عن كذا وكذا، هو يعتبر أن صوم الاثنين والخميس قليل، وهم يقولون له ذلك، ويعترف لهم بهذا.

فهذا يراعى فيه أحوال الناس، لكن الشيء المهم الذي يحتاج أن يتفطن له المرء هو أن لا يخدع نفسه؛ لأن هناك وهم فمن لم يعتد العبادة فإنه لربما يشعر أنها شيء ثقيل أنها شيء صعب، هو الآن مفطر إذا كان يريد أن يصوم الغد يكون الليلة في حال من الاكتئاب؛ الآن ما صمت، أنت تأكل وتشرب هو شيء نفسي، ولذلك تجده في رمضان حينما يصوم مع الناس لا يجد كبير إشكال، ولهذا من المفيد للإنسان أن الذين يخالطهم أن يكون هؤلاء ممن يعينونه على العبادة بحيث أنه حتى لو كان مفطرًا فيجد أن زملاءه هؤلاء الذين يعاشرهم يجدهم صائمين، فينظر إلى نفسه ويقول: لماذا أنا أقل من هؤلاء؟ وهكذا في كثير من الأعمال يستطيع الإنسان أن يرتقي بهذه الطريقة، والله تعالى أعلم.

وفعل داود يصوم يوم ويفطر يوم، ويقوم نصف الليل، وينام نصف الليل، ثم يقوم الثلث، هذا يدل على ترتيب صارم للوقت مع أنه ما كان عندهم ساعات، واليوم تيسرت الأسباب ومع ذلك نجد أن الأوقات بالنسبة إلينا يعني لو أراد أحد أن يضبط نفسه بهذه الطريقة قد يرى أن هذا من الأمور الصعبة لكن ذلك يحتاج من الإنسان إلى شيء من الحزم، والنفس على ما عُودت، فمن جعل النفس في حال من التسيب والاسترخاء ونحو ذلك فإنه يصعب عليه أن يسيطر على أوقاته، وأن يضبط أعماله، وأن ينجز ما يريد، لكن الكثيرين لديهم برنامج مفتوح، ولو أن الإنسان وقف مع نفسه ونظر ما حقق إن كان لديه أهداف، فإنه قد يجد أن ما يحققه لربما لا يتجاوز نسبة:20% مما كان يصبو إليه خلال أسبوع، أو خلال شهر، أو خلال سنة، فتذهب الأعمار هكذا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب من نام عند السحر، برقم (1131)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، برقم (1159).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر، برقم (1976)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، برقم (1159).
  3. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/356)، ومجموع الفتاوى (24/198).
  4. انظر: تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (1/38).
  5. لم أقف عليه.

مواد ذات صلة