الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "أي الأعمال أفضل.." إلى «لغدوة في سبيل الله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل الجهاد أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله ﷺ أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور[1] متفق عليه.

سئل -عليه الصلاة والسلام- أي الأعمال أفضل، كان الصحابة يسألون رسول الله ﷺ عن ذلك؛ لأن الأعمال الصالحة كثيرة، ومحاب الله -تبارك وتعالى- من ألوان التطوعات لا يمكن لأحد من المكلفين أن يقوم بها جميعًا، والعمر قصير، ومن ثم فإن العبد معني بعد الفرائض بمعرفة أفضل الأعمال التي تقربه إلى الله -تبارك وتعالى- وتوصله إلى الدرجات العلى، فقد يصرف جهده، ووقته في أعمال مفضولة، ويفوت عليه فضل كبير في أعمال لربما تكون دونها في المشقات، وكذلك أيضًا في استغراق الأوقات، فكان الصحابة لحرصهم على الخير يسألون مثل هذا السؤال، ويتكرر منهم أي الأعمال أفضل، وهذا لا شك أنه من أمارات التوفيق إذا وفق العبد لمعرفة أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى- بعد الفرائض، فإن ذلك يعني أنه يرتقي في الدرجات العالية، في سلم العبودية، في درجات الجنة بعد ذلك بأعمال يزاولها لربما اشتغل غيره بغيرها من الأعمال الصالحة في ليله ونهاره، ولكنه دونه في المرتبة، فنحن بحاجة إلى مثل هذا.

فهنا سئل النبي ﷺ أي الأعمال أفضل، قال: إيمان بالله ورسوله ولا شك أن الإيمان هو أفضل الأعمال بإطلاق، وهو الأصل الذي يبنى عليه القبول؛ لأن الإنسان إذا كان عادمًا للإيمان لم يحقق الإيمان المطلوب؛ فإنه لا يقبل منه عمل صالح، فأرجح الأعمال هو الإيمان، وتعرفون حديث البطاقة التي طاشت بها تلك السجلات العظيمة، الكثيرة، الكبيرة من السيئات، وهذه البطاقة مكتوب بها لا إله إلا الله[2] قيل: ثم ماذا؟

قال: الجهاد في سبيل الله وهذا هو الشاهد في هذا الباب، الجهاد في سبيل الله، والمقصود به هنا ليس المعنى العام الذي ذكرته في أول الكلام على هذا الباب، وإنما المعنى الخاص، وهو القتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- وقيده هنا أنه في سبيل الله، وكما سبق أنه ليس كل قتال فهو في سبيل الله، وإنما الذي يكون في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وما عدا ذلك فيقال: وإنما لكل امرئ ما نوى[3].

قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور ذكره ثالثًا، والمقصود بالحج المبرور، بعضهم يقول: الذي لم يخالطه إثم، وبعضهم يقول: الحج المبرور هو الذي يرجع صاحبه بحال غير التي ذهب فيها، يعني أن حاله تكون أصلح مع الله -تبارك وتعالى- وبعضهم يقول: المبرور هو المقبول، وعلى كل حال هذه المعاني التي يذكرونها، وغيرها لا منافاة بينها؛ لأن الحج الذي يكون مبرورًا ومقبولاً هو الذي لم يخالطه إثم؛ لأن النبي ﷺ يقول: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه[4] هذا لم يخالطه إثم، هذا مبرور، ومن قال: إنه مقبول فإن ذلك يكون نتيجة لمثل هذا العمل الذي جاء بهذه الصفة، فيرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

وهكذا حينما يقال إن حاله تكون أفضل، ونحو ذلك فإن هذا من آثار القبول، وأن يكون الإنسان بعد مغفرة ذنوبه، وقبول عمله في حال أقرب إلى الله -تبارك وتعالى- وأصلح مما كان عليه قبل ذلك، ففي هذا السؤال لما سئل النبي ﷺ بهذا التدريج أي الأعمال أفضل؟ فذكر هذه، وفي أحاديث أخرى كما سيأتي قد يذكر أشياء أخرى، وذلك محمول إما على اختلاف أحوال السائلين، فقد يكون الأصلح لهذا هذا العمل، والأصلح لهذا هذا العمل، وقد يكون ذلك بحسب اختلاف الأحوال والأوقات.

ولهذا تكلم أهل العلم على أفضل الأعمال، هل يقال: هذا أفضل الأعمال مطلقا بعد الفرائض مثلاً؟ هذا يختلف، ولو أردنا أن ندخل الفرائض فيه، فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجماعة من المحققين بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فإذا نادى المنادي: حي على الفلاح؛ فأفضل العمل هو إجابة هذا المنادي، الذهاب إلى المسجد، الصلاة، في وقت الفرائض أفضل العمل هو صلاة الفريضة، في رمضان أفضل الأعمال الصوم، في موسم الحج أفضل الأعمال الحج، إذا نادى منادي الجهاد؛ فأفضل الأعمال الجهاد، وهكذا في كل مقام بحسبه، فهذا يتفاوت، وقد يكون هذا العمل في هذا الوقت أفضل من غيره، وقد يكون في وقت آخر مفضولاً، كما أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فقد يكون الأفضل بالنسبة لهذا غير الأفضل بالنسبة لذاك، فالناس يتفاوتون في قدراتهم، وإمكاناتهم، وحاجاتهم، وما يصلح لهم، وما يصلحهم.

ثم إن أفعل التفضيل لا تمنع من التساوي، حينما يقال: أفضل الأعمال كذا، هي تمنع أن يزيد شيء عليه، لكنه لا يمنع أن يوجد شيء يساويه، وحينما يقال مثلاً: أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله، أفضل الأعمال حج مبرور، ثم قال: حج مبرور، قد يوجد عمل آخر يساويه في المرتبة، لكنه لا يزيد عليه، هذا وجه للجمع أيضا ذكره بعض أهل العلم بين الأحاديث التي ذكر فيها أشياء أخرى، الشاهد أن النبي ﷺ قال: هذا في هذا الحديث.

وفي حديث ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ وهذا كقوله أي العمل أفضل، قال: الصلاة على وقتها لاحظ هناك الإيمان بالله ورسوله، هنا قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله[5] متفق عليه.

هذه الأشياء يعني الجهاد ذكره ثالثًا، وذكر قبله بر الوالدين، وذكر الصلاة على وقتها، فهذا إما أن يحمل على اختلاف الأوقات، وإما أن يحمل بحسب اختلاف الأشخاص، وما يصلح لهم، أو أن ذلك يحمل على ما سبق، أن أفعل التفضيل لا تعني أن ذلك هو الأفضل على سبيل الإطلاق، وإنما يمكن أن يساويه عمل آخر، لكن لا يزيد عليه، ولكن هذه الأحاديث تدل على أن هذه الأعمال بمنزلة عند الله عظيمة، أنها من أجل الأعمال، وأفضل الأعمال، فإذا أحصيت ما جاء في هذين الحديثين الإيمان بالله ورسوله، الجهاد في سبيل الله، الحج المبرور، الصلاة على وقتها، بر الوالدين، فهذه خمسة أعمال هي من أفضل وأجل الأعمال.

والعجيب أن الناس يتساهلون في بعضها تساهلاً ظاهرًا، فقد يكون الإنسان فيه خير وصلاح ودين إلا أنه يفرط في بعضها تفريطًا ظاهرًا لا يعذر به مثلاً، الآن النبي ﷺ قال: الصلاة على وقتها وفي بعض الروايات: الصلاة في أول وقتها[6] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- ذكر أول الوقت، فهنا الصلاة في أول الوقت من الناس من يتساهل في هذا، ولا يصلي في أول الوقت، وإنما يصلي في وسطه، أو في آخره، لاسيما النساء.

وانظر إلى بر الوالدين، بر الوالدين معنى واسع، وهناك بر واجب، وهناك بر مستحب، وكثير من الناس يفرط بالبر الواجب؛ فضلا عن البر المستحب، فرفع الصوت على الأبوين أو أحدهما، هذا خلاف البر، هذا عقوق نفض اليد في وجه الوالد أو الوالدة هذا من العقوق، النظر إليهم شزرًا بغضب هذا من العقوق والعصيان لهما: لا تفعل، لا تذهب، لا تسافر، هذا من العقوق، وكثير من الناس قد يكون فيه خير وصلاح ودين، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأمور، قد يقدم محاب نفسه، أو محاب زوجته، أو محاب أولاده، أو قد يقدم أصحابه على والديه، فهذا كله من العقوق.

ثم ذكر حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله[7] متفق عليه لاحظ هذا الحديث، الإيمان بالله ما قال: ورسوله، وهذا لا شك أن الإيمان بالنبي ﷺ داخل فيه، فذلك لازم له، ففي الحديث الأول قال: إيمان بالله ورسوله وهنا قال: الإيمان بالله فيدخل فيه الإيمان بالنبي ﷺ؛ لأن ذلك لم يذكر، لكنه معلوم.

قال: والجهاد في سبيل الله ما قال: ثم الجهاد، فقد يفهم من هذا أن الجهاد، والإيمان أفضل الأعمال -وكما سبق- أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، فظاهر هذا التساوي مع أننا نقول: يفسره الأحاديث الأخرى، ولا شيء يعدل الإيمان بالله ورسوله ﷺ فالواو لا تقتضي تسوية، كما أنها لا تقتضي أيضًا ترتيبًا، وقد يراد هذا، أو هذا، لكن الأحاديث الأخرى تفسر المراد.

ثم ذكر أحاديثا أخرى في الباب، كحديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها[8] متفق عليه.

لغدوة في سبيل الله الغدوة هي الذهاب في أول النهار، والروحة عكسها، وليس المراد بذلك الغدوة حينما يخرج من بيته للجهاد في أول النهار، أو أنه يخرج في آخر النهار فقط هذا داخل فيه، لكن المقصود مجموع مزاولات هذا المجاهد، يعني يخرج مثلاً من معسكره إلى ميدان المعركة، فهذه غدوة إذا خرج في أول الصباح، إذا خرج في المساء فهذه روحة، وقد يتكرر ذلك منه في كل يوم، وقد يذهب في اليوم في أول النهار، وفي آخر النهار، فتلك غدوة وروحة.

قال: خير من الدنيا وما فيها الدنيا من أولها إلى آخرها، وقد أخبر النبي ﷺ: أن آخر أهل الجنّة دخولا الجنة أنه يعطى مثل ملك الدنيا عشر مرات[9]، عشر أضعاف؛ فهذا شأن الدنيا، والنبي ﷺ قال: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء[10] وقال: لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها[11]  يعني ما موضع السوط؟ خير من الدنيا، وما فيها، فهنا لما ذكر الغدوة، والروحة قال: خير من الدنيا وما فيها تقريبا؛ لأن القلوب تتعلق بهذه الدنيا، وتتشبث بها، وإلا فإن ذلك يعني هذا الإنسان الذي يجاهد في سبيل الله -تبارك وتعالى- له من المنازل العالية في الجنة ما لا يخفى، وإذا كان آخر أهل الجنة مثل ما في الدنيا عشر مرات، فكيف بأصحاب المنازل الرفيعة؟

ثم ذكر أحاديث أخرى، أترك ذلك في ليلة آتية، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، برقم (26)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (83).
  2. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، برقم (2639)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5559).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ برقم (1).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1521).
  5. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85).
  6. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات، برقم (426)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (1473).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (84).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم من الجنة، برقم (2792)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، برقم (1880).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجا، برقم (186).
  10. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عز وجل- برقم (2320)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5177).
  11. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3250).

مواد ذات صلة