الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا..» إلى «من سلك طريقا يلتمس فيه علما..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فمما جاء في باب فضل العلم: ما جاء عن سهل بن سعد أن النبي ﷺ قال لعلي : فو الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم[1]، متفق عليه.

قال النبي ﷺ لعلي ذلك، كما جاء في سياق الحديث، وهو أطول من هذا؛ يقول له حالفًا بالله -تبارك وتعالى-: فو الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم وحمر النعم: هي الإبل، وهي أنفس وأفضل أموال العرب، فهداية رجل واحد أفضل من أنفس الأموال، وبهذا النبي ﷺ يقرر أصلاً كبيرًا، وهو أنه جاء ﷺ هاديًا، وأرسله الله مبشرًا ونذيرًا، ولم يبعثه جابيًا، وهو يعلم أصحابه هذا المبدأ، وأن يكون الحرص على هداية الناس؛ ولهذا قال الله : وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء: 94] من أجل ماذا؟ من أجل أخذ ما بيده، وغنيمة ما عند الله من الثواب، وما يحصل من النفع بهداية الناس، وما يرجع إلى الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- من ذلك أعظم من تلك الغنائم التي يحوزها، أو لربما يأخذها من أيديهم، حينما يأبون الإيمان، ويقاتلونه، فينتصر عليهم، فهداية هؤلاء خير من أخذ ما بأيديهم من الأموال، وهداية رجل واحد أفضل من أنفس الأموال التي في أيدينا، وهي حمر النعم.

ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار[2]، فإذا كان هداية رجل واحد أفضل من حمر النعم، وأفضل من تحصيل الأموال والمكاسب والتجارات، وكثير من الناس قد يغير رأيه فيما هو بصدده من الاشتغال بالدعوة، أو تعليم الناس الخير، ويقول: زملائي وأقراني حصلوا التجارات والأموال والثروات والعقارات، وبنوا الدور، وأنا مكاني، وما هو فيه أفضل مما هم فيه، ولا مقارنة، ولك أن تتخيل وتتصور لو أن عالماً من العلماء الربانيين أعرض عن ذلك، واشتغل بالتجارة، وصار جهده مقتصرًا على مطامعه، وحاجته الذاتية الشخصية، ويعيش لنفسه، فهل يكون بتلك المثابة؟

سرح ذهنك وطوف فيمن تعرف من العلماء الربانيين لو أنه اشتغل هذا الاشتغال كيف تكون حاله؟

فالله -تبارك وتعالى- يرفعه في الدنيا والآخرة، بهذا البذل والاحتساب والصدق والصبر والتضحية، وهذا أفضل له من كسب الأموال، وأقرانه هؤلاء الذين حصلوا هذه الثروات والأموال إنما حصلوا مكاسب ذاتية، لا يرتفعون بها لا في الدنيا، ولا في الآخرة عند أولي الألباب، قد يرتفع بها عند بعض الناس ممن خف عقله، فإذا رأى أحدًا من أصحاب العرض الكثير طار به، لكن أصحاب البصائر أبدًا ليست هذه المقاييس عندهم، وهذه الأموال التي بيده، ماذا نستفيد نحن منها؟ لا شيء، إذًا لماذا يعامل هذه المعاملة الخاصة من بين سائر الناس، والفقير يجفى، ولا ينظر إليه؟! هذا خطأ، ومقاييس غير صحيحة.

فالشاهد هنا: النبي ﷺ قال: بلغوا عني ولو آية فهذا حث على التعليم والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، والبلاغ، ولو كان قليلاً، ولو آية، بحيث لا يتقال الإنسان ما يبذله، وما يعلمه، وربما يكون هذا القليل الذي بلغه وعلمه يهدي الله به قومًا يخرج به بإذن الله أحدًا، وينقذه من النار.

وهذا الحديث -أعني قوله ﷺ: بلغوا عني ولو آية لربما يوجه توجيهًا صحيحًا، وهو أن الإنسان ينبغي أن يبلغ ما علم، وأن يعلم ما علم ونحو ذلك، وهذا صحيح، وقد يفهم بغير ذلك أن لماذا التعلم؟ ولماذا طلب العلم؟ ولماذا ثني الركب عند العلماء والنبي ﷺ يقول: بلغوا عني ولو آية؟ إذًا أنا بأقل الجهد من التعلم، عامي ويذهب إلى الآفاق يتخصص بالدعوة إلى الله ، فيلقى من يطرحون عليه المسائل الكبار، والنوازل والشبه، وما إلى ذلك، وهم يحسبون أن هذا الذي قد قدم من أصقاع بعيدة من أجل الدعوة إلى الله، ومن أجل أنه يحمل علمًا كثيرًا، فبدؤوا يسألونه عما خف وثقل، ودق وجل من المسائل، فماذا يكون حاله؟ وإذا عارضوه بالشبهات كيف سيكون المخرج. فالذي لا يكون بمنزلة من التفقه والعلم والمعرفة لا يصلح أن يتخصص في الدعوة إلى الله -، فيذهب إلى الآفاق هنا وهناك، من أجل دعوة الناس، وما أشبه هذا، وهو لا يحسن الدعوة، والدعوة تحتاج إلى علم، لكن في فرق لو أن المسلم في ناحيته يرى هذا إنسان لا يصلي، فيقول له: صل، بارك الله فيك، هذه قضية ما تخفى، ويرى إنسانًا يسمع المعازف، ونحو ذلك فينكر عليه هذه أشياء؛ لأنها ما تخفى، أو يرى امرأة متبرجة، فيقول لها: اتقي الله، فهذه دعوة، لكن أن يتخصص فيها، ويتخصص في الدعوة ويسافر ويذهب من أجلها، ويقطع القارات، وهو لا يفقه شيئًا في دين الله وجاهل وعامي، يقال: تعلمْ -بارك الله فيك- وبعد ذلك يمكنك أن تتفرغ للدعوة، وتذهب إلى هذه المحال البعيدة في أرض الله الواسعة، في فرق بين هذا وهذا؛ لأنه قد يحتج الإنسان بقوله: بلغوا عني ولو آية يقول: لماذا نتعلم؟ ولماذا تشددون في هذه القضية؟ ويُزهِّد في العلم، وفي طلب العلم، كيف أنت تبلغ؟ ماذا تبلغ؟، فالله -تبارك وتعالى- لا يعبد إلا بما شرع.

قال: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج إسرائيل هو: يعقوب -عليه السلام-، فهذا إذنٌ بالتحديث عنهم، والأشياء التي توجد في كتبهم أو يقولونها ويرونها؛ لأن المحدث به عنهم: إما أن يؤخذ من كتبهم، وإما مشافهة من بعض علمائهم وأحبارهم، ونحو ذلك، هذه الأشياء ثلاثة أنواع:

نوع: يوافق ما عندنا؛ فهذا لا إشكال فيه، صحيح نصدقه، ونوع يخالف ما عندنا؛ فهذا كذب لا يقبل، ولا يذكر للناس هكذا إلا إذا كان يذكر لبيان أنهم حرفوا كتبهم، وأن هذا كذب، ويكذبون على الله، وعلى أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- ونوع لم يرد في كتابنا، لا يخالفه ولا يوافقه، ما عندنا فيه شيء، فهذا داخل في قوله: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وهذا هو الذي يعتذر فيه لأهل العلم من المفسرين -رحمة الله على الجميع- الذين أدخلوا في كتب التفسير مثلاً جملة من هذه المرويات الإسرائيلية عن كعب الأحبار، ووهب بن منبه وغير ذلك، فبعض الناس يلوم هؤلاء العلماء ويقول: أفسدوا التفسير، يقال لهم: ليس بهذه الطريقة، هؤلاء أئمة، وإنما اعتمدوا على قول النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج لكنهم لم يذكروا ذلك على سبيل الاعتماد، القرآن لا يفسر بأقوال بني إسرائيل التي لا يعرف صدقها من كذبها، وإنما ذكروا ذلك على سبيل الاستئناس فقط، فهنا حكايات، وهناك أشياء لها تعلق بهذه الواقعة، يذكرونها ليس عندنا ما يصدقها، ولا ما يكذبها، والنبي ﷺ أذن بذلك، ورخص فيه، ثم قال: ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار يتبوأ مقعده، فهذا وعيد شديد؛ ولهذا عد أهل العلم الكذب على النبي ﷺ من الكبائر.

ولا شك أنه من الكبائر، بل إن بعض أهل العلم أوصله إلى الكفر من كذب عليّ متعمدًا فيخرج المخطئ، لكن ينبغي على الإنسان أن يتحرى؛ ولذلك الصحابة منهم من لم يكن يحدث عن النبي ﷺ خوفًا وتحرجًا وتورعًا.

ثم ذكر حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[3].

وقد مضى الكلام على الحديث بطوله، فهذا جزء منه، مما يختص بهذا الباب من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا علمًا نكرة في سياق الشرط، فالأصل: أن ذلك يعم كل علم، لكن يقال: أولاً هل يدخل فيه العلوم الضارة، كعلوم السحر مثلاً؟ أخذًا من العموم (علمًا) نكرة في سياق الشرط؟

الجواب: لا، العلوم الضارة خارجة من هذا، ولا يجوز لأحد أن يتعلمها، هذه واحدة خرجت من العموم، طيب العلوم النافعة المباحة، كعلم الزراعة والنجارة والهندسة، وما أشبه ذلك، هل هي داخلة في هذا الحديث؟

الذي يظهر -والله أعلم- أنها غير داخلة، نعم هي علوم نافعة؛ لكنها غير داخلة في النصوص التي تذكر فضل العلم، وترغب فيه، وتذكر الثواب والأجر عليه.

فالمقصود بذلك: العلم المقرب إلى الله حتى قول النبي ﷺ تستغفر له حتى الحيتان في البحر، ذكر العلماء وجه هذا، فقالوا: هذه الدواب والهوام والحشرات والحيتان وكل شيء يستغفر له، قالوا: لأنها تسلم من شر الناس، بسبب هذا العالم؛ لأنه يعلمهم حدود الله -تبارك وتعالى-، ويبين لهم الحلال والحرام، وألا يتعدى وألا يظلم وألا يفسد، سواء كان ذلك الإفساد مباشرًا على هذه الدواب والبهائم، وتسلم من شر الناس وجنايتهم وعدوانهم، أو كان ذلك بصلاح الحال جملة؛ لأنه إذا حصل الفساد منع القطر من السماء مثلاً، وحصلت الكوارث البيئة، كما يقال، كما قال الله : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] والفساد الراجح هنا أنه محمول على معنييه:

الفساد الذي هو بمعنى المنكرات، والمعنى الثاني -وهو الأعلق بالآية- الفساد الذي هو خلاف الصلاح، فتموت الدواب، وتتلف الزروع، ويقل القطر، ويحصل أشياء في البيئة من أمور لربما تضر بحياة الناس، ويحصل الأوبئة، والبحر يتلوث، ويحصل تلوث في الهواء، وتسرب نووي وأشياء من هذا القبيل بما كسبت أيدي الناس، فيحصل هذا الفساد بأنواعه بسبب الذنوب، وبسبب جناياتهم المباشرة التي أفسدوا بها هذا الخلق، وعندنا هنا هذه الحيوانات والطيور والأسماك وغيرها التي تستغفر لهذا العالم؛ لأنه يعلم الناس، فيحصل بذلك الصلاح والإصلاح، فينزل المطر، وتستقيم حياة الناس، وتنمو زروعهم، ويحصل لهم بذلك أنواع البركات في الأرض.

على كل حال هنا قال: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة هذا العلم الذي به يعرف الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته، ويعرف به الطريق الموصل إليه، وتفاصيل الصراط المستقيم، يعني الشريعة، وبه يعرف أيضًا الدار التي يصل إليها الإنسان، ومعالم هذه الدار، وما يتصل بها.

يكفي هذه الليلة، إن شاء الله تعالى.

وأسأل الله أن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن -رضي الله عنه- برقم (3701) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برقم (2406).
  2. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم (3461).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).

مواد ذات صلة