الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب ما يقال عند الميت، وما يقوله من مات له ميت، مضى الكلام في هذا الباب على حديثين، حديث أم سلمة -رضى الله عنها- براويتيه.
قوله ﷺ: إذا مات ولد العبد الولد يطلق على: الذكر والأنثى، فالذكر يقال له: ابن، والأنثى يقال لها: بنت، فهذا الحديث يصدق على: ما إذا مات له بنت، أو مات له ذكر، وكذلك أيضًا: هنا لم يحدد ذلك في حال الصغر، ما قال: صغير، أو دون البلوغ، وإنما قال: إذا مات ولد العبد، فهذا يعني: أنه ولو كان كبيرًا، أو صغيرًا، فيصدق عليه هذا.
قال الله لملائكته- وهو أعلم: قبضتهم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟، يعني: ثمرة قلبه، يعني: كأنه لب اللب، خلاصة الفؤاد؛ لشدة علوقه بالقلب، ومحبة الوالد لولده، قيل له ذلك.
فيقولون: نعم، فيقول الله: ماذا قال عبدي؟، يعني: عند هذه المصيبة العظيمة، قالوا: حمدك، واسترجع، فيقول تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه: بيت الحمد، فهذا مقام عظيم من مقامات العبد في حال المصيبة والشدة، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وما يوفق إليه كل أحد، فالله -تبارك وتعالى- يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وأقوال المفسرين فيها معروفة، وجماع ذلك يرجع إلى: أن الله يهدي قلبه، يعلم أنها من عند الله، فيرضى، ويسلم، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157]، فهذا قد تطيش عنده العقول والقلوب، ولا يتمالك الإنسان حال المصيبة، فينسى هذه الأمور، فتقرير هذا أيها الأحبة! بالقول، أو حينما يسمعه الإنسان، أو عند التنظير، هذا أمر سهل، يستطيعه كل أحد، ولكن إذا كان الإنسان في ذلك المقام، مقام المصيبة، فهنا قد ينسى كثيرًا؛ ولهذا فرق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بين العزم على الصبر وبين الصبر، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، ففرق بين أن يكون الإنسان عازمًا على الصبر، وبين الصبر، فالإنسان قد يكون عازما على الصبر، ويقول: لو مات لي ميت، لو حصل لي مرض خطير، أو حصل لأحد من أحبتي، أو نحو ذلك سأصبر، وأحتسب، ولا أكون جزعًا، مثل: فلان، ولكن ذلك إذا وقع، فقد ينزل به من الجزع أعظم مما شاهده، ورآه، واستنكره من غيره، فهذا يحتاج فيه العبد إلى ألطاف الله ، ولا يكون ذلك للعالم أو الجاهل، وإنما كلما كان اليقين أثبت في قلب العبد، كلما كانت هذه الآثار والنتائج أعظم؛ ولهذا قد تجد العالم لربما يكون أكثر جزعًا من الجاهل، وينهار، وتجد عند بعض العامة من الصبر والثبات واليقين ما لا يوجد عند بعض المنتسبين للعلم، وهذا شيء مشاهد، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.
ثم أيضًا الإنسان هنا يحسن به أن يتذكر: أن جزعه لا يرد له الفائت، ولا يمكن أن يستدرك به ما مضى، وما حل به، ولا يرتفع عنه البلاء بالجزع، وإنما تتضاعف عليه مصيبته، ويفوته هذا الأجر والثواب، إذن لا يوجد حل، إما أن الإنسان يجزع، ثم بعد حين يسلو، كما قيل: سلو البهائم؛ لأن الإنسان من طبيعته أنه يسلو، ولو بعد حين، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أو أنه يثبت في أول المصيبة، ويتصبر، ويستيقن أن جزعه لا يغني عنه شيئًا، لن يستفيد سواء جزع أو لم يجزع، إذن ما له إلا الصبر، فيصبر، ويتجرع المصيبة، والله يعوضه، ويثيبه، ويبني له هذا البيت في الجنة، بيت الحمد.
ثم احتسبه، يعني: رجا ثوابه عند الله ، لما يجزع، ولم يعترض على أقدار الله -تبارك وتعالى.
إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، والصفي هو: الذي له صفو المحبة، وخالصها، وهذا لا يكون للولد فقط، فإنه يصدق على الوالد، والوالدة، ويصدق على الولد، ويصدق على غيرها ممن يكون متصفًا بهذه الصفة: صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة، مع أن الإنسان لا يد له في المصيبة، ليس هو الذي يجلبها، وليس ذلك من عمل يده، لكنه فقط يحتاج إلى الاحتساب، والصبر، ثم يكون له هذا الجزاء العظيم، فنحن نؤجر على المصائب؛ ولهذا كان بعض السلف تحصل لهم منزلة أعلى من الصبر والاحتساب، وهي منزلة: الرضا عن الله ، ومنهم من يرتفع درجة، فتحصل له درجة: الشكر على المصيبة، وأخبارهم في هذا كثيرة، وقد تكلمت على هذا طويلًا في الكلام على الرضا والشكر في الأعمال القلبية.
والحديث الأخير هو:
أرسلت إحدى بنات النبي ﷺ، وهي: زينب، كما جاء في بعض الروايات، أرسلت إليه تدعوه، وتخبره: أن صبيًا لها أو ابنًا لها في الموت، يعني: أنه في النزع، بعضهم يقول: المقصود به: أمامة، وأمامة لم تمت، فبعض أهل العلم قال: إنها مرضت، وظنت أنها تموت، فأرسلت إلى النبي ﷺ، وبعضهم يقول: لا، هما واقعتان، وهذا صبي، وليست صبية، قالوا: فهي: لها أمامة، ولها علي، فعلي هذا هو: الذي مات، وهو صغير، فقال للرسول: يعني: للذي أرسلته، أي: النبي ﷺ قال لمندوبها: ارجع إليها فأخبرها: أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، كله منه، فله ما أخذ، إنما أخذ ملكه، وله ما أعطى، فالذي أعطانا هو ملكه أيضًا، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، لا يتقدم الإنسان ولا يتأخر عن أجله، فقد جاء أجله، فمرها فلتصبر، ولتحتسب، يعني: هو ما مات إلى الأن، فهذا تصبير قبل وقوع المصيبة، وذكر تمام الحديث، متفق عليه، والحديث في سياقه طويل، أطول من هذا، لما أصرت على النبي ﷺ، وذهب، ووجد نفسه تقعقع، لها صوت مثل الشن، يعني: القربة أو الجلد اليابس، فبكى النبي ﷺ، وسئل ﷺ عن هذا؟ فذكر: أنها رحمة يجعلها الله في قلوب الرحماء من عباده، وأن الله لا يؤاخذ على هذا، فدمع العين لا يؤاخذ عليه الإنسان، وحزن القلب لا يؤاخذ عليه الإنسان، والله -تبارك وتعالى- لا يطالبنا بما لا نطيق، وهذه رحمة جعلها الله في قلوب العباد، وقسمها بينهم، وهم يتفاوتون فيها غاية التفاوت، لكن لا يصل ذلك إلى حد الجزع، والتسخط، والاعتراض على الله -تبارك وتعالى، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، إذا كان النوح من سنته، رقم: (1284)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم: (923).