الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فهذا باب استحباب وصية أهل المريض ومن يخدمه بالإحسان إليه والصبر على ما يشق من أمره، وكذا الوصية بمن قرب سبب موته بحد أو قصاص ونحوه.
هذه الترجمة ذكر المصنف -رحمه الله- تحتها حديثًا واحدًا، وهو ظاهر الارتباط بها، وهو:
هنا أن امرأة من جهينة أتت النبي ﷺ وهي حبلى من الزنا من جهينة، وفي الحديث الآخر أنها امرأة من غامد، وبعض أهل العلم يقولون: إن الواقعة واحدة، وإن الرواية بأنها من غامد المقصود بها لا يتنافى مع ما ذكر هنا من أنها من جهينة، كما يقوله النووي -رحمه الله- إذ أنه يرى أن المقصود بغامد المذكورة أو الوارد فيه ذكر المرأة التي زنت، لا غامد القبيلة المعروفة التي هي من الأزد، وهي معروفة إلى اليوم، وإنما غامد بطن من جهينة، من قبيلة جهينة، وأن ما ورد هنا من أنها امرأة من جهينة، ذكر فيه الأعم وما ورد من أنها من غامد ذكر فيه الأخص، وهو بطن من جهينة، هذا قاله النووي -رحمه الله-[2].
وقال به بعض أهل العلم، واعتبروا أن الواقعتين واقعة واحدة أن القصة واحدة.
وذهب كثير من أهل العلم إلى أن غامد لا يصح أنها من جهينة، فهذه امرأة جهنية، وتلك امرأة من غامد.
على كل حال، هذه امرأة أتت النبي ﷺ وهي حبلى من الزنا يعني: حامل فقالت: يا رسول الله، أصبت حدًا فأقمه عليّ، يعني: فعلت ما يوجب الحد، فدعا رسول الله ﷺ وليها، يعني: هنا اعترفت والاعتراف هو أكبر الشواهد والأدلة، فإن الزنا إنما يثبت بالاعتراف، أو الشهود الأربعة الذين يشهدون تلك الشهادة المفصلة، وهذا يصعب إثباته جدًا.
والأمر الثالث: هو الحمل بالنسبة للمرأة تكون المرأة حامل غير متزوجة وحملت، أو أنها مطلقة وقد مضى على طلاقها وقت لا يمكن أن يحصل معه الحمل، فمثل هذا، كذلك لو أن زوجها كان بعيدًا عنها، بحيث لا تجري العادة أن تحمل من هذا الزوج في هذا الوقت، فكل ذلك يعد دليلاً على الزنا.
أما الاعتراف فإنه يندر؛ لأن العقوبة رادعة والفضيحة عظيمة، وأما ما يتعلق بالشهود الأربعة، فهذا أصعب ويبقى الحمل.
فهذه المرأة اعترفت عند النبي ﷺ فدعا وليها، فقال: أحسن إليها، يعني: أحسن إليها بالتعامل، أحسن إليها في النفقة، يرفق بها، مع أنها ارتكبت هذا الجرم العظيم، ولكن التوبة تجب ما قبلها، وكذلك أيضًا هذه المرأة تائبة، جاءت إلى النبي ﷺ ليقيم عليها الحد، وصح عن النبي ﷺ أن الحدود كفارات. فهي تطهر من أقيمت عليه.
قال: فإذا وضعت فاءتني بها لأن هذا الحمل الذي في بطنها لا جرم له، ومن ثم فإنه لا يجوز إقامة الحد عليها، وفي بطنها لا ترجم، وفي بطنها هذا الحمل.
ففعل فأمر بها النبي ﷺ فشددت عليها ثيابها.
وفي الرواية الأخرى: أن النبي ﷺ أمر بأن تقوم على هذا المولود حتى الفطام، فجاءت به إلى النبي ﷺ ومعه كسرة خبز[3].
يعني: لتثبت له أنه قد استغنى عنها، ولاحظوا هذه المدة الطويلة، مدة الحمل، وكذلك أيضًا مدة الفطام، ومع ذلك لم تتراجع، ولم تبرد حرارة الذنب من نفسها.
يعني: ما كانت الحرارة لمجرد أيام، ثم بعد ذلك انطفأت، ما صارت تفكر بطريقة أخرى، وإنما أصرت هذا الإصرار العظيم.
فأمر بها النبي ﷺ فشدت عليها ثيابها، بحيث لا تتكشف إذا أقيم عليها الحد، ثم أمر بها فرجمت.
وفي رواية أخرى: أنه رجمها ﷺ[4].
فيحمل على هذا أنه أمر برجمها، أو أنه ابتدأ الرجم.
ثم صلى عليها. وهذا يؤخذ منه الصلاة على من أقيمت عليه الحدود.
وأخبر ﷺ في حديث الغامدية: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم[5].
وهذا يؤخذ منه أيضًا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن هذه الحدود رحمة، وأنه ليس المقصود بهذه العقوبات الشرعية التشفي والانتقام[6].
وإنما المقصود بها التطهير، فهذا السارق تقطع يده، ويعطى من بيت المال ما يكفيه.
والذي جيء به يشرب الخمر، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان[7].
وهذه لما سبها خالد بن الوليد لما أصابه شيء من الدم، لما رجمت الغامدية نهى النبي ﷺ عن ذلك وأخبر عن توبتها العظيمة.
فهذا كله من رحمة هذه الشريعة، فأعظم عقوبة هي الرجم بالحجارة حتى يموت، ومع ذلك هذه العقوبة هي في الواقع رحمة لهذا الذي يقام عليه الحد، وهي رحمة للمجتمع وللأمة.
ولهذا أخبر النبي ﷺ حد يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا[8] أن ينزلهم عليهم المطر في أربعين يومًا متتابعة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1324)، رقم: (1696).
- انظر: شرح النووي على مسلم (11/ 201).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1323)، رقم: (1695).
- أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، الصلاة على المرجوم (4/ 63)، رقم: (1957).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1324)، رقم: (1696).
- انظر: مجموع الفتاوى (28/ 329).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (8/ 158)، رقم: (6777).
- أخرجه ابن ماجه، باب إقامة الحدود، باب إقامة الحدود (2/ 848)، رقم: (2538)، وأحمد (14/ 351)، رقم: (8738).