الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود، وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف، وغيرها إلا الحرير أورد المصنف -رحمه الله-:
"كان رسول الله ﷺ مربوعاً": المربوع هو من توسطت قامته، يعني: كان معتدلاً بين الطول البائن والقصر، وهذا أكمل الأوصاف، كان ﷺ مربوعاً، ولقد رأيته في حلة حمراء، هذا هو الشاهد.
"حلة حمراء": الحلة هو الثوب الذي ظاهره كباطنه، يعني: الثياب في كثير من الأحوال والأحيان يكون ظاهرها مغايراً في اللون أو النسج لباطنها، الحلة ما كان مستوياً، يعني: ممكن أن يلبس من الجهتين، هو ثوب، وغالباً ما يكون من قطعتين، أي: رداء وإزار مثلاً، هذه هي الحلة.
فعليه ﷺ حلة حمراء، هنا أورده المصنف -رحمه الله- ليستدل به على جواز أن يلبس الإنسان الأحمر، ولم يفصّل، بمعنى: أن ظاهر صنيع المصنف -رحمه الله- وما ترجم في الباب هو جواز الأحمر، سواء كان خالصاً، أو كان غير خالص، يعني: فيه أعلام -خطوط- مثلاً.
فالمصنف يرى أن ذلك يجوز بلا تفصيل، وهو مذهب الشافعي -رحمه الله، والمؤلف -رحمه الله- من علماء الشافعية، بل من كبارهم -رحمه الله رحمة واسعة.
فالشاهد أنه لم يفصل، وهذا مذهب معروف لبعض أهل العلم.
والقول الآخر في المسألة بناء على النهي الوارد عن لبس الأحمر قالوا: إنه لا يجوز، وحُمل ما ورد مثل هذا -حلة حمراء- ونحو ذلك على أنه لم يكن خالصًا، وإنما فيه شيء يغاير أو يخالط اللون الأحمر، خطوط، أعلام، ونحو ذلك، مثل هذه العمامة التي نلبسها الآن حمراء، هل هي داخلة في النهي؟
الجواب: لا، على القول بالتحريم؛ لأنه يخالطها لون آخر، يخالطها البياض مثلاً، ليست من قبيل الأحمر الخالص، أما الأحمر الخالص ففيه النهي.
والمصنف لم يفصّل؛ لأنه يرى الجواز، كما أنه لم يذكر أشياء أخرى منهية في اللباس، وليته أوردها، مثل ما جاء عن لبس المعصفر، وهو المصبوغ بالعصفر، وهو نبت معروف، وذلك أنه من ثياب المشركين، فهذا أيضاً ظاهره التحريم للتشبه، وقد زالت هذه العلة، فالمشركون لا يلبسونه الآن، فهل يقال بأن ذلك يمنع؟ وهل يختص ذلك بالمعصفر، أو باللون مطلقاً؟ يعني: لو لم يصبغ بالعصفر، لونه هكذا، كما هو الحال الآن صبغ الثياب بالمصانع من غير أن تطلى، أو أن تغمس بهذا النبات، كما كانوا يصبغون سابقاً بالوَرْس والزعفران، والعصفر، ونحو ذلك، بل لربما صبغوا بالبول، ولم يكن ذلك من عمل المسلمين، وإنما كان يفعله بعض المشركين.
يقول: ما رأيت شيئاً قط أحسن منه ﷺ: يعني: في تلك الحلة، والنبي ﷺ هو أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم قواماً، وأحسنهم زيًّا ولباساً، وأحسنهم في كل شأن من شئونه ﷺ فهو الكامل في شخصيته ﷺ بل إنه يجمِّل الثياب، ولا تجمله ﷺ، وجهه كأنه قطعة قمر.
أنس كان ينظر إلى القمر، وينظر إلى وجه النبي ﷺ في ليلة البدر، ويقارن وجه النبي ﷺ بالقمر، فوجهه ﷺ أجمل من القمر في ليلة البدر.
فالذين يبحثون عن الكمالات الشخصية بمظهرهم، وهيئتهم، وصفتهم عليهم أن يقتدوا برسول الله ﷺ فهو أكمل الناس ﷺ، وكلما كان العبد أكثر اقتداء كلما كساه ذلك من البهاء، والجمال، والنضارة، وحسن السمت، وهذا أمر لا يخفى.
وكلما نأى الإنسان عن رسول الله ﷺ وعن صفته، وتشبه بأعداء الله من شُذاذ الأمم، من المهرجين، من المغنيين والعازفين واللاعبين والمطربين فإنه يتحول إلى شيء آخر، حيث يذهب بهاؤه ومروءته، ويبقى في صورة لربما يشبه الشياطين إلى حد كبير إذا أوغل في التشبه بهؤلاء المنحرفين.
يقول: وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله قال: "رأيت النبي ﷺ بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال بوضوئه، فمن ناضح ونائل، فخرج النبي ﷺ وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه، فتوضأ وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يمينا وشمالا: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى يمر بين يديه الكلب والحمار لا يمنع". متفق عليه
الأبطح هو المُحصَّب، ومكانه معروف إلى اليوم، الخارج من منى حينما يفضي إلى براح من الأرض فذاك الأبطح، الخارج من منى مما يلي مكة آخر منى بعد الجمار، بعد جمرة العقبة حينما تخرج باتجاه مكة، فحينما تخرج من حدود منى من جبالها يفضي بك ذلك إلى براح من الأرض، ثم إلى الحرم فهذا هو الأبطح الذي نزل فيه النبي ﷺ بعدما رمى الجمار اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
يقول: "رأيت النبي ﷺ وهو بالأبطح، في قبة له حمراء من أَدَم"، قبة يعني: خيمة حمراء، وهذا هنا أورده من أجل أنه نزل في قبة حمراء، وقلنا لكم: ما يتعلق بالفُرُش ونحو ذلك يلحق بحكم اللباس، قبة حمراء من أدم، يعني: من جلد مدبوغ.
يقول: "فخرج بلال بوَضوئه"، جاء بلال بالماء الذي يتوضأ به النبي ﷺ، فإنه بالفتح وَضوء، يعني: الماء، والوُضوء هو الفعل.
يقول: "فمِن ناضحٍ ونائلٍ" يعني: يفهم هنا من السياق بعدما توضأ النبي ﷺ أخذوا فضلة الوضوء، فتهافت الناس عليها.
"فمِن ناضح ونائل"، من ناضح: يعني هذا يتيسر له أنه ينضح، يأخذ الإناء، وينضح على ثوبه أو على وجهه، أو على رأسه، ونائل: يعني بعضهم قد ما يأتيه إلا شيء يسير، قطرات، هذا ينضح والثاني يتلقف ما يمكن أن يصل إليه من قطرات هذا الماء.
"فمِن ناضحٍ ونائلٍ"، يعني: الناس أخذوا فضل الوضوء للبركة، ولا شك -كما سبق مراراً- أن فضل رسول الله ﷺ في الماء، والطعام كل ذلك يتبرك به، كما يتبرك أيضاً بثيابه، كما يتبرك أيضاً بالأجزاء المنفصلة عنه ﷺ كالشعر، وكذلك أيضاً العرق والريق، وكان عرقه إذا وضع في الطيب كان أطيب الطيب ﷺ، لكن لا يوجد شيء من هذا الآن أبداً.
يقول: "فمن ناضح ونائل، فخرج النبي ﷺ وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه...".
حلة حمراء يلبسها، في قبة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه؛ لأن النبي ﷺ كان أبيض مشربًا بحمرة ﷺ.
قال: "فتوضأ، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح...".
يعني: المؤذن كما هو معلوم إذا وصل عند الحيعلتين حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يدير رأسه أو وجهه يمنة أو يسرة ليُسمع من هاهنا، ومن هاهنا، وليَعلم أيضاً من رآه من بعيد لا يسمع صوته أنه يرسل صوته هنا وهنا، فيضع أصبعيه في أذنيه ليكون أقوى لصوته، ومن رآه من بعيد يعرف أنه يؤذن.
يقول: "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا" يعني: يميناً وشمالاً حي على الصلاة، حي على الفلاح.
قال: "ثم رُكزت له عَنَزة" للنبي ﷺ، والعنزة مثل الرمح الصغير، مثل الحربة تركز كسترة من أجل أن لا يمر أحد بين يديه، فيقطع عليه صلاته.
"فتقدم فصلى، يمر بين يديه الكلب والحمار ولا يمنع"[1]، متفق عليه.
يعني: يمر من خلف السترة قطعاً، وإلا فالنبي ﷺ أخبر أنه يقطع الصلاةَ المرأةُ الحائض -يعني البالغة، والكلب، وكذلك الحمار.
عليه ثوبان أخضران، وهذه أيضاً من جميل الثياب، والله قال عن أهل الجنة: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف:31].
فهذه من ثياب أهل الجنة، لكن الذي حث عليه النبي ﷺ هو الأبيض، ولهذا يمكن أن يقال بأن الأبيض هنا في أحكام الدنيا خير من الأخضر، أفضل من الأخضر؛ لأن النبي ﷺ أمر به "البسوا من ثيابكم البياض"، وما قال: الأخضر.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ (4/ 190)، رقم: (3566)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي (1/ 360)، رقم: (503).
- أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب في الخضاب (4/ 86)، رقم: (4206)، والترمذي، أبواب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الثوب الأخضر (5/ 119)، رقم: (2812).