الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب استحباب العزلة عند فساد الناس (2-2)
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 1815
مرات الإستماع: 5715

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "استحباب العزلة عند فساد الناس أو خوف الفتنة في الدين" أُوردُ ما بقي من الآثار المنقولة عن السلف في هذا الباب، قال ابن عون:" لما وقعت الفتنة زمن ابن الأشعث خف مسلم بن يسار فيها، وأبطأ الحسن، فارتفع الحسن، واتَّضَع مسلم"[1]، يقول الذهبي: "إنما يُعتبر ذلك في الآخرة، فقد يرتفعان معًا"[2].

ويقول أبو حمزة الثُّمالي: "كنت عند إبراهيم النخعي، فجاء رجل فقال: يا أبا عمران، إن الحسن البصري يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقال رجل: هذا من قاتل على الدنيا، فأما قتال من بغى فلا بأس، فقال إبراهيم: هكذا قال أصحابنا عن ابن مسعود، فقالوا له: أين كنت يوم الزاوية؟، قال في بيتي، قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي، قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع عليٍّ، فقال: بخٍ، بخٍ، من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله؟"[3]، يعني أين كنت يوم الزاوية، ويوم الجماجم؟، يعني الأيام التي وقعت فيها الحرب بين ابن الأشعث والحجاج.

وكان منصور بن المعتمر يأتي زبيد بن الحارث فكان يذكر له أهل البيت، يعني أهل بيت النبي ﷺ؛ ليحرك عواطفه من أجل أن يدخل في بعض الحروب، ويعصر عينيه، يعني يتكلف البكاء، يقول: ظُلموا، وما أشبه ذلك، يريده على الخروج مع علي بن أبي طالب ، فقال زبيد: ما أنا بخارج إلا مع نبي، وما أنا بواجده"[4].

وعن أبي بكر بن عياش قال: "دخلت على أبي حصين الأسدي وهو مختفٍ من بني أمية، فقال: إن هؤلاء   -يعني بني أمية- يريدوني على ديني، والله لا أعطيهم إياه أبداً"[5]، يعني اعتزل واستخفى، فهم يريدون منه أن يدخل معهم في بعض أمرهم.

ويقول أبو بكر بن عياش: "سألت أبا إسحاق السبيعي: أين كنت أيام المختار؟ قال: كنت غائباً بخرسان"[6]، وذكرت لكم طرفاً من خبر المختار.

ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن -يعني حركة النفس الزكية في المدينة- في أواخر القرن الثاني الهجري، أو بداية القرن الثالث لزم ابن أبي ذئب بيته إلى أن قُتل محمد، يعني محمد بن عبد الله بن حسن خرج على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فوقعت أمور، وحوصرت المدينة، وحفروا خندقًا؛ من أجل أن لا يدخلها جيش أبي جعفر، حتى إنهم لمّا حفروا وجدوا بعض الآثار من حفر الخندق الذي كان في زمن النبي ﷺ، فاستبشروا وتفاءلوا، ثم وقع ما وقع، وقُتل كثير من أهل المدينة.

وعن سفيان الثوري قال: "ما رأيت للإنسان خيراً من أن يدخل جحرًا"[7]، يعني ينأى بنفسه عن الفتن، وكان يقول: "لولا أن أُستذَل لسكنت بين قوم لا يعرفونني"[8].

وكان داود الطائي من كبار أئمة الفقه والرأي، برع في العلم بأبي حنيفة، ثم أقبل على شأنه، ولزم الصمت، وآثر الخمول، وفر بدينه، آثر الخمول يعني ترك الشهرة، سأله رجل عن حديث فقال: دعني أبادر خروجَ نفسي، وكان الثوري يعظمه ويقول: أبصر داودُ أمرَه، حتى قيل: إنه غرّق كتبه، وسأله زائدة عن تفسير آية فقال: يا فلان، انقطع الجواب، قال الذهبي: "حرَّب نفسه ودرّبها حتى قوي على العزلة"[9].

يقول أبو أسامة: "جئت أنا وابن عيينة إليه، فقال: قد جئتماني مرة فلا تعودا"[10]، وهؤلاء أئمة ابن عيينة، وقيل: كان إذا سلم من الفريضة أسرع إلى منزله"[11]، هو اختار هذا لنفسه، لكن من الناس من يكون فيه نفع للناس ويحتاجون إليه فالخلطة خير له، وسيأتي في الباب الذي بعده ما يدل على هذا.

وقيل لسليمان الخوّاص: "قد شكوْك أنك تمر ولا تسلم، قال: والله ما ذاك لفضل أراه عندي، ولكني شِبه الحُشِّ إذا ثوَّرتَه ثار، وإذا جلستُ مع الناس جاء مني ما أريد وما لا أريد"[12]، في هذه الحالة يقال: يعتزل خيرٌ له، وقد لا يكون كذلك لكنه قد يقوله تواضعاً.

والحُشُّ -أعزكم الله- هو موضع قضاء الحاجة، إذا ثوَّرتَه ثار يعني إن تركتَه سكنت رائحته، والأذى الذي فيه، فإذا حركتَه ظهر الأذى، يقول: "وإذا جلستُ مع الناس جاء مني ما أريد وما لا أريد"، يقول: لا أمسك لساني ولا أسيطر على نفسي، فتقع مني أشياء لا أريد أن تقع.

ويقول بشر بن منصور: "أقِلّ من معرفة الناس، فإنك لا تدري ما يكون، فإن كان -يعني فضيحةً- غداً كان من يعرفك قليلًا"[13].

وقيل للفضيل: "ما الزهد؟ قال: القنوع، قيل: وما الورع؟ قال: اجتناب المحارم، قيل: وما العبادة؟ قال: أداء الفرائض، قيل: وما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان"[14].

يقول الذهبي: "هكذا هو، فقد ترى الرجل ورعاً في مأكله، وملبسه، ومعاملاته، وإذا تحدث يَدخل عليه الداخل من حديثه، فإما أن يتحرى الصدق فلا يَكْمل الصدقُ، وإما أن يصدُق فينمق حديثه؛ ليمدحه الناس على الفصاحة وإما أن يُظهر أحسن ما عنده ليُعظَّم، وإما أن يسكت في موضع الكلام ليُثنى عليه، ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة"[15].

وأحسن من هذا أن يُحسن الإنسان نيته وعمله، وأن يخالط الناس وينفعهم، ومن كان لا يستطيع أن يتخلص من أذاهم له، أو من أذاه لهم إلا باعتزالهم فيعتزلهم، يصلي مع الجماعة، ويكف الناسَ من شره.

يقول بشر بن منصور: "ما جلست إلى أحد فتفرقنا إلا علمت أني لو لم أقعد معه لكان خيراً لي"[16]، بمعنى أن الإنسان قد يتزين في حديثه، قد يتزين في مجلسه، قد يأتي بأفضل ما عنده فيعجب الناس به، وبتفكيره ونظره وحسن نظره في الأمور، أو ما شابه ذلك؛ ولهذا الإمام أحمد قيل له: "إن فلاناً يريد أن يلقاك، قال: وما يفعل باللقاء؟! يأتي بأحسن ما عنده وآتي بأحسن ما عندي"[17]، يعني يتزين لي وأتزين له.

فالإنسان لابدّ له من مخالطة ومن مصاحبة، والناس ثلاث دوائر، الدائرة الأولى: هم خاصة الخاصة، من كان فيه كمال مروءة، وعبادة، وخلق، ودين، وعقل، والدائرة الثانية: هم من تربطك بهم رابطة، زملاء في العمل، زملاء في برنامج، في مدرسة، طلاب معك في الفصل، إلى آخره، فتؤدي معهم هذا العمل، والبقية عموم المعارف السلام عليكم، وعليكم السلام، كيف الحال؟ طيب، إن شاء الله أنك بخير، في أمان الله.

فقد تكتشف أن واحدًا ممن جعلته في الدائرة الأولى أنه لا يصلح بعد المخالطة والمعاشرة، فتبعده للدرجة التي يستحقها، رقم اثنين أو رقم ثلاثة، قد يغضب، لكن ليس لأحد أن يفرض عليك صحبة بالقوة، لاطِفْ ولا تسيء ولا يصدر منك إساءة ولا جرح لمشاعر أحد لكن من لا يصلح لك تنحيه للمرتبة التي يستحقها، قد يتغير الناس، قد تصحب طالب علم فيه صفات جيدة إلى آخره، تغيّر، فممكن أن يكون في عموم المعارف أو فيمن تربطك بهم صلة عمل، أو نحو ذلك، لكن لابدّ للإنسان من خلطة، والعاقل ينوع في هذه الخلطة بحسب حاجته، فمن الناس من يخالطهم فيكونون مثل الملح في الطعام، فيَذهب عنه شيءٌ من السآمة والملل، وما تورثه ضغوط الحياة، فيهم دعابة لطيفة مع أدب، ما يحتاج إليه في بعض الأحيان، ومن الناس من تستفيد معه دائمًا لعلمه وخلقه ودينه، ومن الناس من إذا رأيته أظلم قلبك، فهم جذام القلب، وحمّى الروح، فيختار الإنسان لنفسه، ويحاول أن ينفع الناس قدر المستطاع، ولكن يحتاج أن يكون له أوقات يخلو بها بنفسه، وينظر بعمله، وحاله، ويزداد من العلم، ورضا الناس غاية لا تدرك.    

يقول الفضيل: "تَباعَدْ من القُرّاء، فإنهم إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك، وإن غضبوا شهدوا عليك، وقُبل منهم"[18].

هذا ليس دائماً، ليس هكذا كل الناس، لكن الشوكاني نقل عن بعض شيوخ اليمن في ترجمته أنه كان يقول: "الناس إما علماء أهل رسوخ، فهؤلاء يتأدبون بآداب الخلاف، وإما عوام فهم تبع لأهل العلم، والمشكلة أين؟ في الوسط هؤلاء الذين لم يتزبّبوا بعدُ، وسط، مِن هؤلاء الذين يطيرون، ليسوا عوامَّ وليسوا بعلماء، فقد يختلفون على أدنى الأشياء، على المسائل الاجتهادية ويطيرون بها ويجعلون من هذه القضايا محل ولاء وبراء وخصومة، وحب وبغض، فإذا خالفهم أحد ممن يحبونه في مسألة اجتهادية، أو في ثناء على أحد من الناس، أو نحو ذلك لربما جعلوه أسوأ من الشيطان الرجيم، ولربما رُمي بكل آفة وبلية من زندقة وضلال، وإذا أحبوه جعلوه العلّامة، الحبر، الفهامة، وغير ذلك من الأوصاف التي لا يستحقها، ومن بالغ في مدحك فلا تأمن أن ينقلب فيبالغ في ذمك، والاعتدال في الأمور مطلوب.      

يقول زيد بن أخرم: "سمعت عبد الله بن داود يقول: من أمكن الناس من كل ما يريدون أضروا بدينه ودنياه"[19]، وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: "أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكانًا لا يكون فيه أحد من الناس"[20].

ويقول الميموني: "قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي"[21].

وذُكر أن الإمام أحمد خرج إلى حاتم الأصم ورحب به، وقال له: كيف التخلص من الناس؟ قال: "أنت تعطيهم مالك، ولا تأخذ مالهم، وتقضي حقوقهم، ولا تستقضي أحدًا حقك، وتحمل مكروههم -يعني تتحمل المكروه، -ولا تكرهم على شيء، وليتك تسلم، ولن تسلم"[22].

وجاء عن عبد القادر الجيلاني أنه قال: "أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول، لا أرى الخلق ولا يروني، ثم قال: أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يدي أكثر من خمسمائة، وتاب على يدي أكثر من مائة ألف -قد يكون في هذا مبالغة-، وهذا خير كثير، وترِد عليّ الأثقال -يعني المصائب والهموم- التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض وأقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني"[23].

وقال: "إذا وُلد لي ولد أخذته على يديّ، وأقول: هذا ميت، فأُخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثر عندي موته شيئًا"[24].

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (4/ 513).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (4/ 526).
  4. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (19/ 473)، وسير أعلام النبلاء (5/ 297).
  5. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (19/406)، وسير أعلام النبلاء (6/ 138).
  6. سير أعلام النبلاء (5/ 397).
  7. المصدر السابق (6/ 640).
  8. المصدر السابق (6/ 649).
  9. المصدر السابق (7/ 92).
  10. المصدر السابق.
  11. المصدر السابق (7/ 93).
  12. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (72/ 251)، وسير أعلام النبلاء (7/ 230).
  13. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 120)، وسير أعلام النبلاء (7/ 353).
  14. سير أعلام النبلاء (7/ 400).
  15. المصدر السابق (7/ 401).
  16. المصدر السابق (7/ 353).
  17. لم أجد له مصدراً.
  18. سير أعلام النبلاء (7/ 405).
  19. تاريخ دمشق (28/ 31)، وسير أعلام النبلاء (8/ 92).
  20. سير أعلام النبلاء (11/ 226).
  21. المصدر السابق.
  22. انظر: تاريخ بغداد وذيوله (8/ 237)، ووفيات الأعيان (2/ 27)، وسير أعلام النبلاء (11/ 487).
  23. سير أعلام النبلاء (15/ 184).
  24. المصدر السابق.

مواد ذات صلة