الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الورع وترك الشبهات" قال عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله: قدم سفيان الثوري البصرة، والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان فأجر نفسه لحفظ ثماره، فمر به بعض العَشّارين.
سفيان الثوري -رحمه الله- إمام في العلم، والحديث والسنة والورع والفقه، وهو إمام الدنيا، هو أعلم أهل زمانه.
فذهب يحرس هذا البستان متنكراً، فمر به بعض العَشّارين، يعني: الذين يأخذون العشور، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أرطب البصرة أحلى أم رطب الكوفة؟، قال: لم أذق رطب البصرة؛ لأنه حارس على هذا البستان، قال: ما أكذبك، البر، والفاجر، والكل يأكلون الرطب الساعة، يعني: هو في وقت الصيف، ورجع إلى العامل، يعني: رجع إلى مديره، فأخبره ليُعجِّبه، يقول: رأيت رجلا يدعي هذه الدعوى العريضة، أنه لم يذق رطب البصرة، وهو حارس بستان، فقال: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنتَ صادقاً فإنه سفيان الثوري.
يعني: صاحب هذا الورع من سيكون؟، فخذه لتتقرب به إلى أمير المؤمنين، فرجع في طلبه فما قدر عليه[1]. يعني: اذهب من أجل أن تسعى به عند السلطان ليعطيك شيئاً؛ لأن السلطان كان يطلبه.
أيضاً كان رجل يسمع عند حماد بن سلمة، فركب إلى الصين، فلما رجع أهدى إلى حماد هدية، فقال له حماد: إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها منك حدثتك، قال: لا تقبلها وحدثني[2].
بمعنى أنهم كانوا يتحرجون من أخذ شيء يمكن أن يكون عوضاً عن تعليمهم العلم وإقرائهم للقرآن، وتحديثهم بحديث رسول الله ﷺ، إنما يريدون أجر ذلك من الله .
وهذا عبد الرحمن بن القاسم -رحمه الله- لربما جاءه بعض الشبان يطلبون الحديث، فيقول لهم: تعلموا الورع[3].
وكان ابن عيينة يقول: الورع طلب العلم الذي يعرف به الورع[4].
يعني: لا يمكن أن يتورع الإنسان حتى يطلب العلم، ولكن الناس منهم من يطلب العلم فيكون ذلك سبيلاً إلى الحيل والبحث عن المخارج التي يستحل بها بعض ما حرم الله ، ومنهم من يحمله ذلك على الورع.
يقول سحنون -رحمه الله: نزلنا بمسجد ببعض مدائن الحجاز فنمنا، فانتبه ابن القاسم مذعوراً، فقال لي: يا أبا سعيد رأيت الساعة كأن رجلاً دخل علينا من باب هذا المسجد، ومعه طبق مغطى وفيه رأس خنزير، أسأل الله خيرها.
فما لبثنا حتى أقبل رجل معه طبق مغطى بمنديل، وفيه رطب من تمر تلك القرية، فجعله بين يدي ابن القاسم، وابن القاسم هذا من أئمة المالكية، وقال: كل، قال: ما إلى ذلك من سبيل، يعني لا يمكن، قال: فأعطه أصحابك، قال: أنا لا آكله أعطيه غيري؟، فانصرف الرجل، فقال لي ابن القاسم: هذا تأويل الرؤيا، وكان يقال: إن تلك القرية أكثرها وقف فغُصبت[5].
وهذا وكيع بن الجراح -رحمه الله- وصل إنساناً مرة بصرة دنانير؛ لكونه كتب من محبرة ذلك الإنسان وقال: اعْذِر، فلا أملك غيرها[6].
وضع القلم -العود- في المحبرة ليكتب، وشيء يسير تافه لا يذكر، ولهذا الرجل الذي استأذن الإمام أحمد في مثل هذا، فقال له الإمام أحمد -رحمه الله: خذ فهذا ورع لا يصلح لمثلي ومثلك، يقوله الإمام أحمد تواضعاً. فمن كمل ورعه كالإمام أحمد ووكيع بن الجراح، وأمثال هؤلاء فله أن يتنزه من هذه الأشياء البسيطة، لا يكتب بقلم المكتب، ولا يأخذ ورقة من أوراق المكتب لعمل شخصي، أو لكتابة شخصية، أو نحو ذلك، لكن المضيع المفرط الذي يأكل الحرام عياناً، ولا يبالي، مثل هذا يقول: أنا أتورع لا أكتب بقلم المكتب رقم هاتف أحد، أو أمرًا شخصيًّا، فهذا ورع بارد بهذه الحال.
يقول: أنا ما أضع هاتف الجوال الشاحن في المكتب من أجل أن هذا شيء شخصي لي، نقول: لا بأس هذا لمن كمل ورعه، أما الذي يأكل الحرام الواضح الصريح، ولا يبالي، ولا يأتي إلا بنصف الدوام، ويخرج قبل منتصفه، ويكتب الساعة التي خرج فيها غير صحيحة، ويقول: أنا أتورع لا أضع الفيش، فهذا ورع بارد.
يقول يوسف بن أسباط -رحمه الله: يجزئ قليل الورع والتواضع من كثير الاجتهاد في العمل[7].
وكان يقول: إذا رأيت الرجل قد أشِرَ وبطِرَ فلا تعظه، فليس للعظة فيه موضع، لي أربعون سنة ما حك صدري شيء إلا تركته[8].
طبعاً قضية أنه لا يؤمر ولا يُنهى لا يوعظ هذا الذي قد أشِرَ وبطِرَ فيها نظر -وإن كان هذا ليس موضوعنا- لأن الله يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
الإنسان مأمور أن يأمر وينهى ويعظ ويذكِّر، والقبول على الله ، فهذا واجب يجب على الإنسان أن يقوم به.
وأهل القرية الذين ذكر الله خبرهم -أصحاب السبت- لما قال لهم من قال: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، مَعْذِرَةً، يعني: نفعل ذلك إعذاراً إلى الله.
ومن العجائب -أذكر هذا على سبيل الاستغراب- أن بشرًا المرِّيسي وهو رئيس من رؤساء البدع، من رءوس أهل الضلالة معروف، إمام في البدعة، في ترجمته أنه كان ورعاً، حتى ترجم له بعض المعتزلة، قال: بلغ من ورعه أنه كان لا يطأ أهله ليلاً مخافة الشبهة، يخشى أنها ليست امرأته، ولا يتزوج إلا من هي أصغر منه بعشر سنين، مخافة أن تكون رضيعته[9].
حتى لو كانت أصغر بعشر سنين يمكن أن ترضعها أمه، فتكون أختاً له، فهذا ورع بارد، الأنبياء ما فعلوا هذا، ولا فعله الصحابة ، لا يطأ أهله ليلاً، ولا يتزوج إلا من هي أصغر منه، وهو رأس في البدعة والضلالة، ويتورع من هذا!.
وقدم زكريا بن عدي فكلموا له، يعني: هو كان فقيراً ومحتاجاً، فكلموا له من يستعمله على قرية في الشهر بثلاثين درهماً، يعني: يولَّى ولاية صغيرة، ويعطى هذا الراتب في الشهر ثلاثين درهمًا، وهو شيء يسير، فرجع بعد شهر، وقال: ليس أجدني أعمل بقدر الأجرة[10].
يقول: الأداء الذي أقوم به، مستوى الأداء لا يكافئ الأجرة، وترك العمل واعتذر منه، فهذا غاية الورع.
وهذا سليمان الشاذكوني قال: يُشبَّه علي بن المديني بأحمد بن حنبل؟ هيهات، ما أشبه السُّكَّ باللّكِّ، والسُّكُّ نوع من الطيب، واللّك بالفتح: صبغ أحمر يصبغ به، وبالضم: عصارته.
يعني: هذا يشبه لون الطيب، لكنه مجرد صبغ، وذاك طيب.
فقال: ما أشبه السُّكَّ باللّكِّ، لقد حضرت من ورعه شيئاً بمكة، أنه أرهن سَطلاً عند فامِيٍّ، يعني: عند بائع الحمص، أرهن سطلا من أجل أنه إذا أكل يدفع له الثمن فأعطاه رهناً وهو السطل، فأخذ منه شيئاً ليقوته، يعني: ليأكل منه، فجاء فأعطاه فكاكه، قال: هات السطل وأحضرت لك الآن ثمن ما أخذت منك من الطعام، فأخرج إليه سطلين، البائع أخرج سطلين، فقال: انظر أيهما سطلك، وهما متشابهان، فقال: لا أدري، اشتبه عليه سطله بالسطل الآخر، لا أدري أنت في حل منه، ما أراد أن يأخذ أحدهما لئلا يكون ليس له، أنت في حل منه، وما أعطيتك -يعني: من الثمن، خذ الثمن، وخذ السطل، ولم يأخذه، يقول هذا الرجل الفامي الذي يبيع الفوم: والله إنه لسطله، يقول: أنا أعرف، وإنما أردت أن أمتحنه فيه، أردت أن أختبر ورعه[11].
وقال محمد بن طارق البغدادي للإمام أحمد: أستمد من محبرتك؟ يقول: فنظر إلي، وقال: لم يبلغ ورعي وورعك هذا، وتبسم[12].
يقول: لم نصل إلى هذا المستوى أن تستأذن من شيء تافه لا قيمة له.
وقال خطاب بن بشر: سألت أحمد بن حنبل عن شيء من الورع، فتبين الاغتمام عليه إزراءً على نفسه[13].
يعني: كان يحقر نفسه، يرى أنه أين هو من أهل الورع، كأنه يقول: أنا لست بأهل أن أُسأل عن هذه المسائل الدقيقة.
وسمعه المروذي ذكر أخلاق الورعين، الإمام أحمد يذكر أخلاق الورعين، فقال: أسأل الله ألا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟![14].
هذا الإمام أحمد، وأخباره في الورع مستفيضة، ومن شاء فليراجع سيرته في سير أعلام النبلاء يرى عجباً، وبقيت أشياء أتركها في ليلة قادمة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (7/ 259).
- المصدر السابق (7/ 449).
- المصدر السابق (8/ 196).
- المصدر السابق (8/ 465).
- المصدر السابق (9/ 123- 124).
- المصدر السابق (9/ 159).
- المصدر السابق (9/ 171).
- المصدر السابق (9/ 170).
- المصدر السابق (10 /200-201).
- المصدر السابق (10/ 443- 444).
- المصدر السابق (11/ 203).
- المصدر السابق (11/ 225).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (1/ 226).