الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير أورد المصنف -رحمه الله-:
"ما سئل شيئاً"، فـ "شيئاً" نكرة في سياق النفي فهي للعموم، بمعنى: أنه ما سئل ﷺ شيئاً قليلاً ولا كثيراً ولا جليلاً ولا حقيراً "فقال لا"، فكان لا يرد ﷺ سائلاً حتى إن رجلاً سأله رداءه فأعطاه إياه، وهو ﷺ أحق بقول القائل:
ما قال لا قطُّ إلا في تشهده | لولا التشهدُ كانت لاؤه نعمُ |
فرسول الله ﷺ كان أجود بالخير من الريح المرسلة[2]، والريح المرسلة معلوم أنها تسوق المطر فينزل على الأرض القفر، وينزل على الأرض المُربعة، وهكذا يكون أهل الجود والبذل يُعطي دون أن يدقق ويُنقر هل هذا الإنسان يستحق أو لا يستحق؟ لأن باب الصدقة أوسع من باب الزكاة، والنماذج والأمثلة كثيرة جدًّا التي تدل على هذا المعنى من حال النبي ﷺ ومن حال أصحابه ومن حال سلف هذه الأمة إلى يومنا هذا، نعرف ونقف على نماذج فذة في هذا الباب، الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- جاءه رجل من بعض البلاد الإفريقية فسأله عباءته -البشت، ومعلوم أن هؤلاء لا يلبسون هذا وليس من زيهم، فقال له: نعطيك أفضل من هذا، نعطيك جديداً، قال: لا، أريد هذا الذي عليك، فخلعه وأعطاه إياه، وسأله آخر أيضاً أحد طلبة العلم قال: أريد منك هدية، فأخذ الشيخ رداءه وكان جديداً من أجود الأنواع فأعطاه إياه، فعلى كل حال هذا باب واسع، وسيأتي نماذج من أحوال السلف في هذا، وقد تحدثت فيه في رمضان قبل سنوات سبعة عشر يوماً بعد صلاة العصر، أُورد نماذج من أحوال هؤلاء الباذلين المنفقين، فالنبي ﷺ كانت هذه حاله.
ما من يوم يصبح العباد فيه، يعني: كل يوم بلا استثناء؛ لأن "يوم" نكرة في سياق النفي، ما من يوم.
يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفًا، والمقصود بالمنفق هنا من ينفق في الأمور الواجبة والأمور المستحبة فيدخل في ذلك الزكاة والنفقة على الأهل والعيال وما إلى ذلك، وهكذا النفقة المستحبة هي داخلة في هذا.
ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفًا، هنا الدعاء عليه بالتلف قد يكون معناه أعطه تلفاً في نفسه، يحتمل أن يكون أعطه تلفاً في ذلك المال، وقد يكون المقصود أعطه تلفاً يعني: في حاله وعمله بحيث إنه لا يُحصّل مطلوباً، فلا يبارك له في عمل ولا في سعي ولا في بذل، ولا في طلب رزق، فيكون حاله إلى تلف، فيحتمل هذا وهذا، لكن قوله: اللهم أعطِ ممسكاً تلفًا، هل يدخل في ذلك النفقات المستحبة أيضاً بحيث يُدعى على الذي ينفق في سبيل الواجبات ولكنه لا ينفق في سبيل المستحبات يدعى عليه بالتلف؟ هذا لا يخلو من إشكال، فيمكن أن يحمل ذلك على الواجبات أي الذي يمسك عن النفقة الواجبة مثل الزكاة والنفقة على الأهل والعيال ويقتر عليهم وما أشبه هذا، ويمكن أن يُحمل ذلك -وهذا له وجه جيد من النظر- على من كانت هذه صفته، يعني: يقال فلان ممسك أي: شحيح لا يَخرج من يده شيء، فتكون هذه صفته لا أنه في ذلك اليوم ما أنفق لسبب أو لآخر لذهول أو انشغال لكنه من شأنه الإنفاق، فيكون الدعاء عليه بهذا الاعتبار، أعط ممسكاً تلفًا، يعني: من كانت هذه صفته وهذا حاله وهذا ديدنه لكن يحسن بالإنسان إذا أراد أن يُبارك له في ماله كما يدل عليه الحديث الآخر الذي بعده.
وكثير من الناس يظن أنه إذا أنفق نقص ماله، وهذا غير صحيح، إذا أنفق الإنسان في الوجوه الصحيحة من الواجبات والمستحبات فإن ذلك يكون سبباً لرزق يسوقه الله إليه أنفِقْ يا ابن آدم يُنفَقْ عليك، يُنفَق، هذا مبني للمجهول، أي: أن الله ينفق عليك، فهي مخلوفة يعوض الإنسان عنها، فمن أراد أن يبارك له في ماله فعليه أن يُراعي هذه المعاني أنفق يُنفق عليك، اللهم أعطِ منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفا، وهكذا أيضاً لا تُحصِي فيُحصِي الله عليكِ، ولا تُوكِي فيُوكِي الله عليكِ[3]، هذه ثلاث قواعد هي سبب لتكثير الرزق ونمائه والبركة فيه وسعة عطاء الله على العبد، لا تُحصِي ولا تُوكِي فيوكي الله عليكِ، بمعنى أن الإنسان لا يجلس يعد عدًّا دقيقاً كم ذهب وكم خرج وكم يبقى وكم الميزانية للشهر؟ وإذا صرف ريالا كم تنقص؟ وكذا واسمعي يا امرأة ليس لك في هذا الموسم -الشتاء- غير أربعمائة ريال أنت وأولادك، نظام، طيب قد يحتاجون أكثر يا أخي!،البسوا ثياب العام، الولد يفصل هذا ويقصر الثوب ويطوّل هذا وخلاص، الولد الكبير هو الذي يُشترى له فقط؛ لأنه ما في شيء بحجمه وإلا كانت ثياب الأب تُقصر له، وهكذا، هذا لا إشكال فيه الإنسان لا يكون مسرفاً لكن أيضاً لا يكون الإنسان مقتراً،لا يكون مقتراً بحيث يحسب هذا يعرف ما يخرج من ريال وما يدخل، وكم نقص وكم الميزانية خلال هذا الأسبوع أو خلال هذا الشهر، وأين ذهبت الخمسون هذه؟ وأين ذهبت العشرة؟ وإذا حسب الإنسان بهذه الطريقة فهذا سبب للمحق، وتجد من هم بهذه المثابة دائماً في أزمة ينتظر متى نهاية الشهر ويسير على الصرافات، يتأكد هو الراتب نزل أو ما نزل، الأسواق فارغة في وسط الشهر، إذا جاء آخر الشهر الهيئة ما يلاحقون من كثرة المنكرات، من كثرة المتسوقين، طيب والسبب لماذا ما تسوقوا في نصف الشهر؟ ما عندهم، أين تذهب أموالهم الزوجة موظفة أو مدرسة وهو أيضاً كذلك، هي أربعة عشر وهو أربعة عشر، هذه كم؟ ثمانية وعشرون، نصف الشهر ما في شيء، أين تذهب؟ لا تُحصِي فيُحصِي الله عليكِ، ولا تُوكِي فيُوكِي الله عليكِ، أنفِقْ يا ابن آدم يُنفَقْ عليك، اللهم أعط منفقاً خلفًا، وأعط ممسكاً تلفًا، راعِ هذه اللهم أعط منفقاً خلفًا، وأعط ممسكاً تلفًا، تُوكِي يعني تغلق الشيء الصُّرة مثلاً أو الإناء إغلاقه وإحكام الإغلاق ونحو ذلك، فلا يخرج منه شيء، يصرّ هذا المال ويحبسه فلا يُخرج منه شيئاً، هذا حال الإنسان البخيل فيعد القليل والكثير لا يَخرج من يديه شيء، وهذا تتعجب أحياناً ناس يملكون الملايين وما نسمع من إشكالات ومن أسئلتهم وكذا وكذا تقول المرأة: يعني أقام الدنيا ولا أقعدها من أجل خمسين ريالا أنه فقدها، واتهمني أني أخذتها، كيف عرف أنها نقصت خمسين؟ الإنسان عادة لا يعرف أنها نقصت خمسين ولا ألفًا ولا خمسمائة، يعني: كيف يعرف أن خمسين ريالا نقصت مما في جيبه؟ شيء هائل، وملايين! فالإنسان لا يكون بهذه المثابة، ولا يكون مضيعاً ولا يُسرف ولا ينفق المال في غير وجوه الحق، لا نقصد هذا المعنى، ولكن أيضاً لا يكون الإنسان في وجوه الخير وجوه البر، النفقة على الأهل والعيال مقترًاولا يتوسع جدًّا، كما قال الله : وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29].
هذا، وأسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما أعطانا، وأن يعيننا على أنفسنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:6-11] اللهم أعط منفق مال خلفا، برقم (1442)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك، برقم (1010).
- رواه البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم (5352).
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، برقم (1433).