الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى" ختم المصنف -رحمه الله- هذا الباب بهذا الحديث العظيم الذي يرويه أبو هريرة ، عن النبي ﷺ، وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه:
بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض، الفلاة من الأرض هي الأرض التي لا ماء فيها، فسمع صوتاً في سحابة اسقِ حديقة فلان، سمع صوتاً في سحابة، صح عن النبي ﷺ: أن الرعد ملك من الملائكة البرق سوطه والرعد صوته، فالسحاب قد وكل الله به ملائكة يسوقونه حيث شاء الله -تبارك وتعالى، اسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرّة، الحَرّة هي الأرض التي تكسوها حجارة سوداء، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، يعني: الحَرّة يكون فيها مسايل للماء فأحد هذه المسايل استوعب هذا الماء الذي نزل على الحرة فاجتمع في هذا المسيل، فتتبع الماءَ يعني: هذا الرجل جلس يتتبع الماء يريد أن ينظر اسق حديقة فلان باسمه من هو، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته، والحديقة هي المزرعة -البستان- قيل لها: حديقة؛ لأن هذا الإطلاق في الأصل يقال للمزرعة أو البستان المسور الذي عليه سور فهذا السور أحدقَ به من كل جانب فقيل لها حديقة؛ لأن سورها محدق بها، ثم صار بعد ذلك تقال الحديقة لكل مزرعة أو بستان حتى لو ما عليها سور، وأمّا في عرف الناس اليوم فإنهم يطلقون الحديقة غالباً على المتنزه، يعني: ليس البستان الذي فيه الثمر أو المزرعة كما نقول، وإنما المتنزه، المكان الذي فيه خضرة، وفيه زهور ونحو ذلك، وأشجار حتى غير مثمرة يقولون له: حديقة، لكن هذا أصل معنى الحديقة أو أصل الإطلاق، فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بمسحاته، وصله الماء الذي في تلك الحَرّة من ذلك الشراج، يعني: المسيل، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟، هو الآن الذي سمع هذا الصوت بالسحاب وتتبع الماء حتى وصل إلى حديقة هذا، ووجد هذا الإنسان ما يعرف اسمه قال له: يا عبد الله ما اسمك؟ وهذا هو اللائق من الإنسان الذي لا نعرف اسمه أن نقول له ذلك: يا عبد الله؛ لأن هذا يصدق عليه سواء كان مسلماً أو كان كافراً؛ لأن العبودية عبودية قهر وعبودية اختيار، عبودية القهر إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فالكل عبيد الله في هذا الكون حتى الكفار لا يخرجون عن عبودية القهر، هم عبيد لمن؟ هم عبيد لله شاءوا أم أبوا، فيمكن أن تقول له: يا عبد الله إذا ما تعرف اسمه، ويمكن إذا كان مسلماً أن تقول: يا أخي، والله لما حرم التبني، وكان الواحد ينسب إلى من تبناه، فلان بن فلان، زيد بن محمد، قال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، أعدل، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، تقول: يا أخي، وإذا كان مملوكًا وأنت أعتقته تقول: يا مولاي، فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، طيب هذا ليس بمملوك لك -معتَق- ممكن تقول: يا أخي إذا كان مسلماً، أو تقول: يا عبد الله، وهذا أحسن مما شاع عند الناس وذاع اليوم يقولون: يا محمد، لاسيما للأعاجم يقولون لهم: يا محمد، وأصل هذا فيما يبدو أن الناس كانوا يقولون للأعجمي: يا صديق، يا رفيق؛ لأنه يحب ذلك، سابقاً، ثم ابتُذلت هذه العبارات صارت مبتذلة حتى صار أولئك يأنفون منها، بل لربما يرون أن فيها شيئاً من الانتقاص، ولهذا إذا أرادوا أن يكنّوا عن شخص بشيء من الانتقاص قالوا: هذا رفيق، هذا صديق، بمعنى أنه ليس بذاك، نزلوه منزلة هؤلاء الذين ينتقصونهم مع أن الفضل والتفاضل بين الناس إنما يكون بالتقوى، فقد يكون هذا الذي يحتقره أفضل وأكرم عند الله منه.
فالشاهد أنها صارت مبتذلة وصار هؤلاء لربما يغضب بعضهم إذا قيل له ذلك، فصاروا يقولون: يا محمد لمن لا يعرفون اسمه؛ لأن هؤلاء يحبون اسم النبي ﷺ، ولهذا تجد في الأعاجم كثيرًا يسمون بالاسم الأول وحتى في بعض بلاد العرب محمد ثم يذكرون الاسم يقولون: محمد ناصر، محمد صالح، محمد حامد، هو الاسم حامد، صالح، ناصر، لكن الاسم الأول للتبرك، بل في بعض البلاد في غرب إفريقيا كل الأولاد اسمهم محمد لكن هذا محمد الأول، محمد الثاني، محمد الثالث، محمد الرابع، محمد الخامس، ورأينا من الطلاب الذين في الجامعة الإسلامية بهذه الأسماء، الأسرة كلها اسمها محمد لكن يميزونهم بالأول والثاني والثالث والرابع، فصار هذا يبتذل جدًّا اليوم وصار ذلك يقال للمسلم والكافر، وهذا غير صحيح.
فاسم النبي ﷺ ينبغي أن ينزه ويشرف ولا يبتذل هذا الابتذال، فإذا ما تعرف اسمه قل له: يا عبد الله، هو عبد لله ، يا عبد الله، فالشاهد أنه قال: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟، ماذا تصنع بهذه المزرعة؟ فقال: أمَا إذ قلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها، يعني: المحصول، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، والعيال يشمل من يعولهم من زوجة وولد وخادم، قال: وأردّ فيها ثلثه، يعني: يزرع الثلث، انظروا هذا العمل الآن أوصله إلى هذه الحال يسمع صوتاً في السحاب اسقِ حديقة فلان، يسوق الله له الرزق، ولهذا نحن لا نستغرب، أو نعرف ونسمع أحياناً أن سحابة جاءت وأمطرت في ناحية معينة، وباقي البلد ما جاءهم شيء، هذا موجود ونشاهده، ويتكرر، تنزل أمطار كثيرة على قرية، وما جاورها من القرى ما يأتيهم شيء، وهكذا أيضاً أحياناً تحترق، ومعروف هذا، تحترق أسواق بكاملها ويبقى دكان واحد ما يحترق ويُسأل صاحبه يقول: أنا أخرج الزكاة وهذا حصل مراراً، يقول: أنا أخرج الزكاة، وباقي المحلات كلها احترقت، فالله يحفظ أولياءه ويسوق لهم من ألطافه، ومن أبواب الرزق يفتح لهم ما لا يخطر في بال، والأمور كلها بيد الله ، فالمُلك ملكه والخلق خلقه، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، فينبغي للإنسان أن يكون عنده يقين بأن الله يعوضه عما خرج من يده في سبيل الله من نفقة وبر ومعروف، وصلة، فهذا هو الذي ينمي المال ويكثره ويبارك للإنسان فيه، وكلما ازداد الإنسان إمساكاً وتقتيراً وشحًّا وإحصاءً للقليل والكثير كلما صار عيشه في ضيق ونكد، وتذهب من يديه الأموال لا يدري كيف ذهبت، وإذا نظرت ما ترى أشياء حققها، يعني: أين ذهبت هذه الأموال؟ ما ترى في البيت شيء، جاء شيء له حجم مثلاً أثاث أو اشتري أشياء ذات قيمة ونحو هذا، أين ذهبت هذه الأموال؟ أنت يا فلان راتبك خمسة عشر ألفًا ما نرى شيئًا في البيت؟ أين راح؟ نصف الشهر اختفى؟ إذا نزعت البركة ما يبقى شيء، وإذا وجدت البركة بقي كل شيء، فأقول: من أعظم أسباب البركة والنماء والخير أن الإنسان يبذل، يصل الرحم، يتعهد قراباته الذين يحتاجون من الفقراء والمساكين ومن حوله من الجيران، ويحب لإخوانه ما يحب لنفسه، لو كان هو مكانهم كيف يكون حاله، ولو بالشيء اليسير، والحديث الذي كان أمس من تصدق بعِدل تمرة أو بعَدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل، فالشاهد هذه أحاديث ثابتة صحيحة عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فنوقن بهذا، ونوقن بالعوض من الله ، فالله يدعونا إلى الإنفاق والبذل والصدقة والخير.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا وأن يرزقنا وإياكم الثقة واليقين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين، برقم (2984).