الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الجود والكرم والإنفاق" جاء أن معاوية بن عبيد الله الأشعري -رحمه الله- كان ينفق في كل يوم كُرَّ دقيق ويتصدق به، فلما وقع الغلاء تصدق بكُرَّين، وكتب مالك إلى الليث، مالك بن أنس كتب إلى الليث بن سعد: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر، وكانوا يصبغون به الثياب، فبعث إليه بثلاثين حِملاً عصفراً فباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة([1]).
وكان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة، يعني: يشتغل بها في التجارة، وقال: "ما وجبت عليّ زكاة قط"، وأعطى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى مالكًا ألف دينار، وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وجارية تسوى ثلاثمائة دينار([2]).
وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنًا لي عليل واشتهي عسلاً، فأمر لها بعسل كثير يبلغ عشرين ومائة رطل([3])، وكان يقول: "ما وجبت عليّ زكاة منذ بلغت([4])، واشترى قوم منه ثمرة فاستغلوها فاستقالوه، فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس، فأمر لهم بخمسين دينارًا، فقال له ابنه الحارث في ذلك، فقال: اللهم غُفرًا إنهم كانوا أمّلوا فيها أملا فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا"([5]).
ويقول ابنه شعيب: "خرجت معه حاجًّا فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، قال: فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه"([6]).
وصحبه عبد الله بن صالح عشرين سنة قال: "كان لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض"([7]).
ويقول كاتبه أبو صالح: كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث، يعني لم يأذن لهم ولم يحدثهم بحديث رسول الله ﷺ، والإمام مالك كانوا يسمعون منه الحديث والفقه والعلم، فقال أبو صالح: ما يشبه هذا صاحبَنا، يعني ما يشبه الليث، الليث بابه مفتوح، قال: فسمعها مالكفأدخلنا، وقال: "من صاحبكم؟"، قلت: الليث، قال: تشبهونا برجل كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ منه ما بعنا فضلته بألف دينار!([8]).
وجاء عن عبد الله بن أبي أيوب قال: "وصل عمارة بن جعفر أبي بثلاثمائة ألف درهم، وذكروا أن جماعة أتوا عمارة بن جعفر ليشفعوا في بر قوم فأمر لهم بمائة ألف درهم، وكان كثير الأموال والنعم([9]).
يقول الإمام أحمد -رحمه الله- حينما ذكر خالد الطحان: "بلغني أنه اشترى نفسه من الله ثلاث مرات"([10])، يعني يتصدق بديته، وقال أيضاً: "اشترى نفسه من الله أربع مرات، فتصدق بوزن نفسه فضة أربع مرات"([11]).
وذكر بعض أصحاب ابن المبارك -رحمه الله- الذين صحبوه من مصر إلى مكة أنه كان يطعمهم الخبيص وهو صائم، وخرج ابن المبارك إلى المصِّيصة فصحبه جماعة فقال لهم: "أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم"، يقول: "أنتم لا تريدون أن أحدًا يحسن إليكم، يا غلام هات الطَّست، فألقى عليه منديلا، ثم قال: يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه، يعني ضعوا النفقات التي معكم في هذا الطست، فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، ما معهم إلا القليل، فأنفق عليهم إلى المصيصة"، ثم قال: "هذه بلاد نفير فنقسم ما بقي، فجعل يعطي الرجل عشرين دينارًا"، فيقول: يا أبا عبد الله إنما أعطيتُ عشرين درهماً، فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته؟"([12]).
ويقول صاحبه منصور بن دينار: إن عبد الله بن المبارك كان يتصدق لمقامه في بغداد كل يوم بدينار"([13]).
هذه بعض النماذج، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) انظر: تاريخ دمشق (50/ 372)، وتهذيب الكمال (24/ 274)، وسير أعلام النبلاء (7/ 211).
([2]) حلية الأولياء (7/ 322), وتاريخ دمشق (50/373).
([3]) حلية الأولياء (7/ 320)، تاريخ دمشق (50/ 373)، وسير أعلام النبلاء (7/ 211).
([4]) سير أعلام النبلاء (7/ 211).
([5]) انظر: تاريخ دمشق (50/377)، ووفيات الأعيان (4/131)، وتهذيب الكمال (24/275)، وسير أعلام النبلاء (7/ 212).
([6]) انظر: تاريخ دمشق (50/371)، ووفيات الأعيان (4/131)، وتهذيب الكمال (24/273)، وسير أعلام النبلاء (7/ 212).
([7]) انظر: تاريخ دمشق (50/ 369)، وتهذيب الكمال (24/ 275)، وسير أعلام النبلاء (7/ 212).
([8]) سير أعلام النبلاء (7/ 216).
([9]) المصدر السابق (7/ 293).
([10]) تهذيب الكمال (8/ 102)، وسير أعلام النبلاء (7/ 295).
([11]) تهذيب الكمال (8/ 102)، وسير أعلام النبلاء (7/ 295).
([12]) سير أعلام النبلاء (7/ 368).
([13]) المصدر السابق (7/ 382).