الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الحث على الأكل من عمل يده (2-3)
تاريخ النشر: ٢٧ / شوّال / ١٤٢٩
التحميل: 1525
مرات الإستماع: 2353

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال، والتعرض للإعطاء" عرضنا جملة من الآثار المنقولة عن السلف من كلامهم وفعالهم في هذا المعنى، وفي هذه الليلة أذكر أيضاً جملة من هذه الآثار.

ذكر بعضهم وكان عنده كتاب بخط الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال: "كنا عند ابن عيينة سنة، ففقدت أحمد بن حنبل أياماً، فدُللت على موضعه فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في جياد بمكة، فقلت: سلام عليكم، أدخل؟ فقال: لا، ثم قال: ادخل، فدخلت وإذا عليه قطعة لِبْد خلق، فقلت: لمَ حجبتني؟ فقال: حتى استترت، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، قال: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً، فأبى حتى بلغتُ عشرين درهماً، يعني: يقلل من العطاء، فأبى، يقول: فقمت، وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، قال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟، قلت: بلى، يعني: سمع معه الحديث، قال: تُحب أن أنسخه لك؟ قلت: نعم، قال: اشتر لي ورقاً، فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين"[1]، يعني: لم يقبل القرض ولم يقبل الهبة، وإنما بأجرة، كتب له ذلك وأخذ مقابل هذا ما اكتسى به، اشترى إزاراً ورداء، انظروا إلى عزة النفس والعفة والاستغناء عن الخلق.

وعن إسحاق بن راهويه قال: "كنت مع أحمد عند عبد الرزاق وكان معي جارية وسكنا فوق، هذا في اليمن، في رحلته إلى اليمن، وأحمد أسفل في البيت، فقال لي: يا أبا يعقوب هو ذا يعجبني ما أسمع من حركتكم، قال: وكنت أطّلع، يقول: أنظر إلى الإمام أحمد أحياناً فآراه يعمل التِّكك ويبيعها[2]، والتِّكك هي الأحزمة، حزام السراويل، الإمام أحمد يعمل التِّكك ويبيعها ويتقوت بها، نفقته من هذه التكك، وكان إذا ضاق به الأمر آجر نفسه من الحاكة، يعني: من الخياطين ونحوهم فسوى لهم، فلما كان أيام المحنة، لما حصلت الفتنة في القول بخلق القرآن وحُبس وضُرب وصُرف إلى بيته حُمل إليه مال، لما أفرج عنه أُرسل إليه مال فرده وهو محتاج إلى رغيف، ما عنده شيء فقير، فجعل عمه إسحاق يحسب ما يرد فإذا هو نحو خمسمائة ألف، يعني: يرد العطايا وهي بهذا القدر الكبير، قال: فقال الإمام أحمد: يا عم لو طلبناه لم يأتنا وإنما أتانا لما تركناه، يقول: لو كنا نذهب إلى هؤلاء ونطلب ونحتاج إليهم ما أعطونا، ولكن لما تركناه جاء إلينا ومع ذلك كان يعتذر من قبوله، وكان -رحمه الله- يقول: "الغلة ما يكون قوتُنا، وإنما أذهب فيه إلى أن لنا فيه شيئاً، فقلت له: قال رجل: لو ترك أبو عبد الله الغلة، الغلة هي ما يأتي للإنسان من إجارة أو من مزرعة أو نحو ذلك، هذا الرجل يقول: لو ترك أبو عبد الله الغلة، وكان يصنع له صديق له كان أعجب إليّ، يقول: لو أن أحد أصحاب الإمام أحمد يتولى النفقة ويترك الإمام أحمد الغلة، فقال الإمام أحمد: هذه طُعمة سوء، ومن تعود هذا لم يصبر عنه، ثم قال: هذا أعجب إليّ من غيره -يعني: الغلة، وأنت تعلم أنها لا تقيمنا وإنما أخْذها على الاضطرار[3].

يعني يقول: طُعمة سوء أن يأتي أحد أصدقائك لك بالنفقة، وإنما شأن الإنسان أن يستغني عن الناس، وقد رأينا هذا، رأينا من طُلاب العلم للأسف أو من ينتسب لطلب العلم في بعض الجامعات ممن يفدون للدراسة ليس لهم شغل إلا السؤال، يسأل أساتذته ويسأل زملاءه ويذهب إلى هذا وهذا، ويحمل معه أوراقاً ولربما سافر بهذه الأوراق من بلد إلى بلد، أنا عندي ديون وأنا عندي كذا، عندي إيجار بيت، وهذا لا يصلح أن يكون طالب علم أبداً، بل أقبح ما رأيت في هذا رأيت في بعض البلاد بعض من يدرس الصبيان القرآن فسألته: من أين لك النفقة؟ فقال: هؤلاء الأولاد يذهبون في الطرقات ويسألون الناس فما يحصلونه يدفعونه لي مقابل التدريس، قلت: وتأكل من هذه الأوساخ؟!، قال: نحن أدركنا الناس على هذا منذ قرون، معلم القرآن يأخذ من هؤلاء الأولاد، والأولاد يسألون في الشوارع ثم يعطونه، هذا ماذا ترجو أن يخرِّج؟ وماذا ترجو من هؤلاء الطلاب الذين يربيهم منذ نعومة أظفارهم وهو يعلمهم القرآن يخرجون من عنده للسؤال؟!

يقول بعض من لقي الإمام أحمد -رحمه الله: خرج الإمام أحمد مرة إلى اللقاط، يعني: هذا لما تحصد الحبوب يتساقط بعض الحب في الأرض فيأتي الفقراء بعد الحصاد إذا حُصد هذا مثلاً في الصباح يأتي الفقراء في الضحى أو في الظهر بعد الحصاد بعدما يذهب أهل الزرع ويلتقطون الحبات المتساقطة ويجمعونها يصنعون منها خبزة أو شيئًا، هذا اللقاط، فالإمام أحمد كان يخرج إلى اللقاط يلتقط هذه الحبات فيقول: فجاء وقد لقط شيئاً يسيراً فقال له هذا الرجل: قد أكلتُ أكثر مما لقطتَ، فقال: رأيت أمراً استحييت منه، رأيتهم يلتقطون فيقوم الرجل على أربع وكنت أزحف، يعني يقول: رأيت الناس الفقراء يأتون إلى هذا المكان يأخذون المتساقط، طبعاً هذه حبة وهذه حبة ما يستطيع الواحد أن يقوم ويجلس ويقوم ويجلس، فماذا صار يصنع هؤلاء الناس؟ يَحْبون على أربع يعني في الحقل فصار شكلهم صورتهم كأنهم بهائم، حيوانات، الإمام أحمد عنده أنفة وعنده عزة نفس يقول: كنت أزحف، ما يحبو على أربع، كنت أزحف، فرأى أمراً كرهه فرجع ولم يلتقط شيئاً يُذكر.

ومرة خرج والتقط فرجع يقول: رأيت قوماً يفسدون مزارع الناس، فتركهم، يقول الذهبي: وربما نسخ بأجرة، وربما عمل التِّكك، وأجّر نفسه لجمال، وقال مرة لابنه صالح: كانت أمك في الغلاء تغزل غزلاً دقيقاً فتبيع الأستار بدرهمين أو نحوه فكان ذلك قوتنا[4]، يعني: يقتاتون من هذا، من هذا الغزل، وهذا إمام الدنيا، من منا لا يعرف الإمام أحمد -رحمه الله-؟!.

ويقول أيضاً الذهبي -رحمه الله- في ترجمة محمد بن يعقوب الأصم يقول: "كان حسن الخلق، سخي النفس، وربما كان يحتاج إلى الشيء من معاشه فيكتب للناس، يمتهن صنعة الوراقين، يكتب لهم ويأكل من كسب يده"[5]، وهكذا أيضاً ذكر في ترجمة ابن المقرون البغدادي، يقول: وأقرأَ الكتابَ العزيز ستين عاماً، يُقرئ القرآن، وكان محققاً لحروفه، عاملاً بحدوده، يأكل من كسب يده ويتعفف، ويتعبد، ويأمر بالمعروف ولا يخاف في الله لومة لائم، أين هذا من الذي لا يقرئ إلا ويشترط عليهم كم تدفع؟ الختمة بألفين، تبغى من وجه، أو تبغى من طريق، أو تبغى من السبعة، أو من العشرة؟، كل شيء له تسعيرة، حامل القرآن يكون أرفع نفساً وأعلى همة من هذا، ما يليق، كونه يُعطَى شيئًا من غير طلب يحتمل، والتعفف عن هذا أفضل، كان السلف لا يقبلون شيئاً ممن علّموه حتى الماء لمّا يُحضَر لهم، لعلي أتكلم عن هذا في مناسبة من المناسبات، الماء يُحضر للواحد منهم فيقول: لا، أنت ممن سمع منا الحديث.

والسمعاني -رحمه الله- يذكر في كلامه عن ابن الصابوني -رحمه الله- وهو إمام من أئمة أهل السنة والجماعة ذكر أوصافاً له حسنة وقال: كان حسن السيرة بكتاب الله، يأكل من كد يده[6].

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/ 192).
  2. المصدر السابق (11/ 193).
  3. المصدر السابق (11/ 320).
  4. المصدر السابق (11/ 324).
  5. المصدر السابق (15/ 455).
  6. المصدر السابق (20/ 355).

مواد ذات صلة