الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن النماذج التي نقلت من أحوال السلف في باب "الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء": ما جاء عن سنان بن مُشبع قال: "رأيت أبا الحُسين المقدسي برأس عين"، ورأس عين هذا مكان شمال الشام ويُنسب إليه الإنسان أحياناً يقال: الرسعني، وممن يُنسب إلى هذا المفسر المعروف الحنبلي، يقول: رأيت أبا الحُسين المقدسي برأس عين في موضع عرياناً قد اتزر بقميصه ومعه حمار، والناس قد تكالبوا عليه، فقال: تعال، فتقدمت فأخذ بيدي وقال: نتواخى؟، قلت: ما لي طاقة، قال: أيش لك في هذا؟، وآخاني، وقال لواحد من الجماعة: حماري يحتاج إلى رسن، يعني: يحتاج إلى حبل يُربط أو يُشد به بحيث إنه يسهل قياده، يقول: فقالوا ثمنه أربعة فلوس، فأشار إلى موضع في الحائط وقال: إني قد جزت هاهنا وخبأت ثَمّ أربعة فلوس اشتروا لي بها حبلاً، ثم قال: أريد أن تشتري لي بدينار سمكاً، فقلت: كرامة، يعني: حاضر، ومن أين لك الذهب؟ يعني: من أين لك الدنانير نشتري لك السمك، فقال: بلى معي ذهب كثير، قلت: الذهب يكون أحمر؛ لأنه كان يحمل خلف الحمار في عربة علفاً أو نحو هذا حشيشاً، قال: أبصِرْ تحت الحشيش، فأخذت الحشيش فخرج دينار فاشتريت له به سمكاً فنظفه وشواه ثم قلاه، ثم أخرج منه الجلد والعظام وجعله أقراصاً وجففه وتركه في جرابه ومضى"[1].
الشاهد أنه كان يأكل من كسبه بحيث لا يقبل من أحد شيئاً، وهكذا ما نُقل عن الشيخ رسلان بن يعقوب الجعبري أنه كان نشاراً في الخشب، فقيل: إنه بقي سنين يأخذ أجرته ويدفعها لشيخه أبي عامر، وشيخه يطعمه، وقيل: بل كان يقسم أجرته فثلث يتصدق به، وثلث لقوته، وثلث لباقي مصالحه[2]، وكان لعدي بن صخر الشامي غُليلة يزرعها، أي: أرض يزرعها صغيرة في الجبل ويحصدها ويتقوت، وكان يزرع القطن ويكتسي منه، ولا يأكل من مال أحد شيئاً، وهكذا جاء رجل إلى ابن الخُطيئة بمئزر وحلف بالطلاق ثلاثاً لابد أن يقبله فوبخه على ذلك، وقال: علقْه على هذا الوتد، مسمار في الجدار، علقِ الإزار على هذا، فلم يزل على الوتد حتى أكله العُث وتساقط، أكله العُث دويبة صغيرة تعبث بالثياب وتتلفها، وكان ينسخ بالأجرة، وكان له على الجزية في السنة ثلاثة دنانير، وقد عرض عليه غير واحد من الأمراء أن يزيد في عطائه فما قبل، وقد دخل ابن الخُطيئة الشام وسكن مصر وتزوج وكان يعيش من الورق يكتب للناس، وعلَّم زوجته وبنته الكتابة فكتبتا مثله فكان يأخذ الكتاب ويقسمه بينه وبينهما، فينسخ كل منهم طائفة من الكتاب فلا يُفرق بين الخطوط إلا في شيء نادر، يعني: خطوطهم متقاربة كأن الذي كتبه واحد، وكان مقيماً[3]، إلى آخره.
فالحاصل أن هذا الرجل كان يكتسب من الكتابة ونسخ الكتب للناس.
وهكذا ما جاء أيضاً عن أبي حكيم النهرواني أنه كان من أهل القناعة ويقتات من الخياطة، فيأخذ على القميص حبتين فقط، ولقد جهد جماعة في إغضابه فعجزوا، وكان يخدم الزَّمْنَى -يعني الناس مثل المشلول، والعجائز- بوجه طلق[4]، وهكذا أيضاً كان أبو النجيب عبد القادر بن عبد الله مُطرِحاً للتكلف في وعظه بلا سجع، وبقي سنين يستقي بالقربة بالأجرة، ويتقوت ويؤثر من عنده[5]، يعني: يكتسب من حمل الماء للناس بالقرب.
وكان لنور الدين محمود وهو القائد الكبير المعروف وهو ملك كان له عجائز فكان يخيط الكوافي، يعني: الطواقي، ويعمل السكاكر، والسكاكر ما نسميه نحن المزلاج الذي يوضع خلف الباب، يعمل السكاكر فيبيعها له أولئك العجائز سرًّا ويفطر على ثمنها[6]، وهو ملك من الملوك.
ويقول بعضهم: كنت أرى من يأتي الشيخ يحيى القرطبي فيُعطيه شيئاً ملفوفاً بورقة أو نحو هذا، ويذهب، يعني: الشيخ يُعطِي لشخص شيئاً معيناً دائماً، يقول: ثم تقصينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة، بمعنى أن ذلك الرجل كان يشتري الدجاجة ويأتي بها إلى هذا الشيخ، فهذا الشيخ يتولى الطبخ بأجرة لهذا الإنسان، فكل يوم يأتي في هذا الوقت ويجد هذه جاهزة فيأخذها ويعطيه أجرته فيأكل من ذلك[7].
هذا كله مستخرج من كلام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" في تراجم هؤلاء العلماء والعباد والصُلحاء، وهذا هو الشاهد: مهما استطاع الإنسان أن يأكل من عمل يده ولا يحتاج إلى الناس لا من هداياهم ولا من عطاياهم فضلاً عن سؤالهم والافتقار إليهم، والتطلع إلى ما في أيديهم، فيكون فقر الإنسان إلى الله ، وكما قلت: هذه المعدة صغيرة بهذا الحجم تقريباً فيمكن أن تُسد بتمر، بخبز، وشربة ماء، ولا يحتاج الإنسان أن يجعل آماله بعيدة فيما لا يدخل تحت يده ولا يقدر عليه وليس في كسبه، ثم بعد ذلك يتوسع فيضطر إلى الديون أو يُضطر إلى الحاجة فيذل نفسه إلى الآخرين، والله المستعان.
فكم من إنسان قد جمع الكثير ومات وما أكل منه شيئاً، ولو تفكر الإنسان فيما يأكله لو وضعت أمامه ألوان الموائد فإنه شيء يسير لا يتجاوز ذلك المقدار الذي أكله لربما أفقر الناس في بيته، ولكنها النفس لا يشبعها شيء.
أسأل الله أن يغنينا وإياكم عن خلقه أجمعين، ويرزقنا وإياكم العفاف والغنى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (20/ 381).
- المصدر السابق (20/ 380).
- المصدر السابق (20/ 345).
- المصدر السابق (20/ 396).
- المصدر السابق (20/ 477).
- المصدر السابق (20/ 537).
- المصدر السابق (20/ 548).