- قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ...}
- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...}
إن أكثر ما يوقع الناس في القلق: إنما هو الخوف على آجالهم، والخوف على أرزاقهم، كما يعبرون: الخوف على المستقبل، مع أن هذه القضية محسومة، والنبي ﷺ يقول: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[1].
فلن ينقص من ذلك قليل ولا كثير، ولن يزاد على ما كتبه الله للإنسان، فهنا: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، ودابة هنا نكرة في سياق النفي، وقد سبقت بـ"من"، فنقلها ذلك من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ لا صغيرة ولا كبيرة، كل ما يدب على الأرض يقال له دابة، سواءً كان ذلك من دواب البحر، أو من دواب البر، فإن رزق ذلك على الله .
فإذا اعتقد الإنسان ذلك، وآمن به انكفت نفسه عن الطمع، وحصل له قناعة وعفاف، فلا يتطلع إلى ما في أيدي المخلوقين، ولا تمتد يده إلى شيء لا يحل له من المكاسب.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273].
فهذه الآية ذكرها الله في سياق الثناء على المتعففين، وهذا الباب يتعلق بالقناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة، فهؤلاء الفقراء وهم على الأرجح المراد بهم فقراء المهاجرين، ممن هاجروا من مكة أو هاجروا من غيرها إلى المدينة، ويدخل فيهم أهل الصُّفَّة دخولاً أوليًّا؛ لأنهم كانوا من فقراء المهاجرين، لا يجدون مكاناً يأوون إليه سوى تلك الصُّفَّة في المسجد.
أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، بعضهم يقول: حصرهم العدو، وابن جرير -رحمه الله- يقول: أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أي: أنهم حبسوا أنفسهم، أُحصِرُواْأي: أنهم حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله ، فتفرغوا لذلك، لم يكن لهم عمل آخر، قال: لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ، والضرب في الأرض المقصود به التجارة والتكسب، وطلب الرزق؛ لأنهم شغلوا عن ذلك بغيره.
قال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ يحسبهم الجاهل يعني: الجاهل بحالهم الذي ما عرفهم، فهم لا يسألون، يعني: لا بلسان الحال، ولا بلسان المقال، بلسان المقال أن يسأل، وبلسان الحال أن يقف في طريق الناس، ويتحرى العطية، وما إلى ذلك، فهم لا يفعلون هذا، فالجاهل بحالهم يظنهم أغنياء، لماذا؟ مِنَ التَّعَفُّفِ يعني: من تعففهم لا يطلبون.
قال: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ والسيما: هي ما يظهر على الإنسان، ويدخل في ذلك ما يظهر عليه من رثاثة الثياب، وما يظهر من شحوب الوجه، وما إلى ذلك، فإن هذه الأمور تدل على حال الإنسان، يعني: من كان به فقر يظهر هذا على وجهه، ومن كان به مرض فإن هذا يظهر على وجهه، ومن كان به خوف أو حياء فإن هذا يظهر على وجهه، وهكذا.
فهنا: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ما يظهر على وجوههم وعلى هيئاتهم من آثار الفقر، من شحوب وجه ورثاثة ثوب وقلة حال.
ثم قال: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، الإلحاف: هو طلب لكنه بإلحاح، فهؤلاء لا يسألون الناس ملحفين بمعنى الذي يدعو للإنسان، وتارة يقول: الله يخليك أعطني، وتارة يقول له: لا تمنعني رزقاً، أرجوك أن تساعدني، وتارة بأي طريقة من الطرق، فهذا كله من الإلحاح.
فهنا لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، قد يقول قائل: إن مفهوم المخالفة في الآية أنهم يسألون لكن من غير إلحاح، لكن هذا المفهوم -والله تعالى أعلم- هنا غير مراد؛ لأن النفي في القرآن لأنهم يسألون، لكنهم لا يسألون مطلقاً.
ثم قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، هذا شاهد فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29]، تلومك نفسك إذا احتجت فما تجد، ويلومك الناس من أصحاب الحقوق فلا تعطيهم شيئاً، لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وكل بذل للمال في غير وجه الحق فهو إسراف ولو كان قليلاً، الذي يبذل المال بالمعصية، التوسع في الإنفاق على سبيل التبذير، فهذا من الإسراف، كذلك أيضاً بذل الأموال على سبيل المباهاة والمفاخرة كل هذا من الإسراف، قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا: أي: وسطاً، فسؤال الناس نوع افتقار ومذلة لهم، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، (2/ 725)، برقم: (2144)، بلفظ: فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 531)، برقم: (2742).