الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب القناعة والعفاف (4-5)
تاريخ النشر: ٢١ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 1467
مرات الإستماع: 1919

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فمن أحوال السلف في باب التقلل من الدنيا والعفاف ما جاء في أخبار الإمام أحمد -رحمه الله، وقد ذكرت منها طائفة في الليلة الماضية وبقي بقية.

يقول الميموني: كان منزل أبي عبد الله ضيقًا صغيرًا، وينام في الحر في أسفله.

وقال لي عمه: ربما قلتُ له فلا يفعل، ينام فوق.

يعني: يطلب منه أن ينام في مكان آخر.

يقول: وقد رأيت موضع مضجعه[1].

يقصد أنه في حال من التواضع والبساطة.

وجاء عن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري قال: قال لي الأمير: إذا حل إفطار أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد- فأرني.

قال: فجاءوا برغيفين، فأريتُه الأمير فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يعفه[2].

إذا كان هذا يكفيه فلا يجيبنا، إنسان يعيش على رغيفين.

ويقول محمد بن القاسم: دخلت على ابن أسلم الكندي، قبل موته بأربعة أيام بنيسابور، فقال: يا أبا عبد الله، تعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير، قد نزل بي الموت، وقد منّ الله عليّ أنه ما لي درهم يحاسبني الله عليه.

ثم قال: أغلق الباب، ولا تأذن لأحد حتى أموت، وتدفنون كتبي، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثًا غير كسائي ولِبدي، وإنائي الذي أتوضأ فيه، وكتبي هذه، فلا تكلف الناس مئونة، وكان معه صرة فيها نحو ثلاثين درهمًا، فقال: هذا لابني أهداه قريب له، ولا أعلم شيئًا أحلَّ لي منه؛ لأن النبي ﷺ قال: أنت ومالك لأبيك[3].

وقال: أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه[4]. فكفنوني منها...[5] إلى آخر ما ذكر.

ويقول صفوان بن سليم: "إذا أكلت رغيفًا سد بطني، وشربت كوزًا من ماء، فعلى الدنيا وأهلها العفاء"[6].

يقول: ماذا أحتاج بعد ذلك؟ يعني: الجوع يُطرد برغيف أو برغيفين، مع كوز من ماء.

وأما إبراهيم الحربي -رحمه الله- فأخباره عجيبة، وكان مما ذكر، يقول: ما شكوت إلى أهلي وأقاربي حُمى أجدها.

يقول: "لا يغم الرجل نفسه وعياله".

وهذه جيدة مفيدة أن الإنسان إذا تعب أو مرض فما الحاجة لأن يحمّل تبعة ذلك الآخرين، يعني: بعض الناس يأتي من العمل أحيانًا متعبًا مرهقًا، فإذا جاء قلب حال بيته وأهله، فحمّلهم هذه المتاعب، وجعل ذلك سببًا لإساءة خلقه معهم، والصَّلف والأذى، ونحو ذلك.

وما أجمل كلمة سمعتها من أحد الشباب قبل أيام، رأيته يأتي من عمله إلى عمل آخر مباشرة، وأحيانًا بثياب العمل، والعمل طويل من الصباح الباكر إلى العصر، والإنسان يرهق، عمل مرهق، عمل مهني، ويأتي بثياب المهنة أحيانًا، ولكنه في غاية الحيوية، فقلت له: ما تتعب؟! فقال: الإنسان إذا تعب لماذا يجعل تبعة ذلك على الآخرين؟

وهذا جيد للغاية في التعامل مع الناس؛ لأن الكثيرين -أيها الأحبة- لا يتفطنون لهذا المعنى، فإذا دخل بيته فإن أهله يتوجسون ماذا سيأتيهم منه؟ وكم سمعت من أحوال وأحوال يشكو رجالٌ، أو شباب، وأطفال ونساء، يشتكون ممن يعولهم، من أبيهم أو من أخيهم الأكبر، أنه إذا دخل هو بحسب حاله في عمله، إذا كان الحال قد راقت له جاءهم بشيء من الانبساط، وإذا كان قد عانى أو لاقى ما لاقى في عمله جاءهم بحال أخرى، يشتم هذا، ويضرب ويسيء، ويُسمعهم ما يكرهون.

وهذا خطأ، احرص دائمًا أن لا تجعل أتعابك على الآخرين، أيضًا بدلا ما يكون التعب على واحد يصير على خمسة أو عشرة، والنفوس يحصل لها من الانجذاب والتأثر بمن يقابلها كثيرًا كما نشاهد، يأتي شخص أحيانًا إلى المجلس فيتكهرب المجلس، ويتغير ويصيب الناسَ شيء من الوجوم، ونحو هذا.

يقول: "ما شكوت إلى أهلي وأقاربي حُمى أجدها"

يقول: "لا يغم الرجل نفسه وعياله" هو مغتم وأيضًا يزيد فيحمّل ذلك عياله، ومن أعجب ما سمعت في هذا قبل يوم أو يومين: قديمًا قبل أشهر أرسلت إحدى الأخوات رسالة تقول: إنه وُجد عندها ورم وتبين أنه ورم سرطاني، فتقول: لكن لا أريد أن أخبر والديّ بذلك، من أجل ألا أدخل عليهما الغمّ، فهل يلحقني شيء شرعًا؟، فنصحتها أن تذهب وتعالج، وأن الغمّ الذي يدخل الآن أسهل من الذي يدخل بعدما يتطور المرض، ويُعرف ولابدّ، ثم بعد ذلك يقال: مرحلة متقدمة مالها علاج، فالآن أفضل، انقطعت مدة شهور، ثم بعد ذلك قبل يوم أو يومين أرسلت رسالة وقالت: ذهبت فقالوا: في المرحلة الثالثة الآن الورم وانتشر، وهي لا زالت تقول: هل تخبر بهذا أبويها أو ما تخبرهم؟! مراعاة لقلوبهما، انظر إلى هذا الحد! مع أن الكثيرين لو قيل له: فيك ورم لربما سقط عندهم في المستشفى، ما يستطيع أن يمشي من شدة ما يصيبه من الهلع والجزع.

يقول إبراهيم الحربي -رحمه الله: "لي عشر سنين أبصر بفرد عين -يعني بعين واحدة، ما أخبرت به أحدًا، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين"، أين الفيتامينات، والنشويات، والسكريات؟ وكم رطلٍ تأكل من اللحم!.

يقول: "إن جاءتني بهما أمي أو أختي، وإلا بقيت جائعًا إلى الليلة الثانية، وأفنيت ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو بناتي به، وإلا بقيت جائعًا" يعني: ما يطلب أيضًا، من الناس من يقيم الدنيا ولا يقعدها لو تأخر موعد الطعام.

يقول: "والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة، وقام إفطاري في رمضان هذا بدرهم ودانقين ونصف".

هذا الإمام إبراهيم الحربي وما ضره ذلك.

ويقول أيضًا: "ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئًا" أطبخة في زمانهم كيف لو جاء الآن؟! وُجدت ألبومات ومجلدات في أنواع الطبخات وموائد مليئة بالأنواع.

يقول: "ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيء من عشِيٍّ إلى عشِيٍّ، وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لُعقة بِن، أو باقة فجل.

ويقول: "ما تَروَّحتُ ولا رُوِّحتُ قط، ولا أكلت من شيء في يوم مرتين"[7] والله المستعان

هذه نماذج وبقيت أخرى، أكتفي بهذا اليوم، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ويرزقنا وإياكم القناعة والرضا والعفاف، وشكر النعم، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (11/ 325).
  2. المصدر السابق (11/ 326).
  3. أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده (2/ 769)، رقم: (2291).
  4. أخرجه النسائي، كتاب البيوع، باب الحث على الكسب (7/ 241)، رقم: (4452)، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحث على المكاسب (2/ 723)، رقم: (2137).
  5. سير أعلام النبلاء (12/ 199-200).
  6. المصدر السابق (13/ 155).
  7. المصدر السابق (13/ 367).

مواد ذات صلة