- مقدمة باب فضل الزهد
- قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك وهو باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر، والزهد -كما أشرت في بعض المناسبات- العلماء -رحمهم الله- تكلموا على حده ومعناه بكلام كثير وكأنهم لم يتفقوا على شيء، ولكن من أحسن ما قيل فيه -والله تعالى أعلم- هو أن الزهد أن تكون الدنيا في يدك دون أن تدخل قلبك، هذه حقيقة الزهد، وقد يكون الإنسان منقطعاً من الدنيا لا يملك شيئاً من حطامها، ولكنها تملأ قلبه، فهو متشبث بها، متطلع إليها، يؤملها ويخافها ويسعى من أجلها، فهي غايته وطليبته التي من أجلها يقوم ويقعد، وقد يكون الإنسان بيده كثير من هذا العرض إلا أن قلبه قد فرغ من ذلك تماماً، وصار شغله بطاعة الله والتقرب إليه وإرادة ما عنده، فإذا دخل عليه شيء من هذه الدنيا أو خرج فإن ذلك لا يؤثر في قلبه، فهذا هو الزاهد حقيقة، ولهذا كان من الصحابة من كان يملك الأموال الطائلة ولكن قلوبهم كانت مرتاضة بطاعة الله .
ومن أهل العلم من يقول: إن الزهد هو التقلل من الدنيا، ومنهم من يقول: ترك ما لا ينفع في الآخرة، إلى غير ذلك من الأقاويل وهي وإن كان بعضها مقارباً إلا أن ما ذكرت -والله تعالى أعلم- هو الأقرب وهو الذي ينطبق على حال أصحاب رسول الله ﷺ وهكذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فالنبي ﷺ كان يحب الحلوى، يحب الحلو البارد، وكان يقول: زين لي من دنياكم النساء والطيب[1]، فما كان النبي ﷺ يرفض ذلك ويأباه، وكذلك أيضاً ما أعطى الله الأنبياء، أعطى سليمان ملكاً دعا ربه أن يُعطاه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [ص:35]، وهكذا الله أعطى داود الملك والنبوة، وهذه أمور معلومة معروفة؛ ولهذا كان معنى الزهد هو ما ذكرت، والعلم عند الله ، وإذا عُرف هذا يحتاج الإنسان إلى ملاحظة النفس ومراقبة حركاتها وسكناتها هل هي كذلك، وكثير من الناس قد يبدو عليه التواضع والتقشف في ملبسه ومأكله وفي شأنه كله، وقد يظن من يراه لأول وهلة من الزاهدين، ولكن الواقع أنه لم يفعل ذلك إما لأنه لم يجد، فلو وجد لكان من أكثر الناس توسعاً، واشتغالاً بها، وإما أنه قد وجد ولكنه شحيح، يبخل على نفسه فهو لا يُخرج قليلاً ولا كثيراً، وإذا رأيتَه رأيتَ لباس الذين لا يملكون شيئاً من الدنيا أفضل مما يلبس، ورأيت مراكبهم أفضل مما يركب، ولربما يملك هذا المليارات، وهذا شيء موجود ومشاهد لكنه قد حرم، فهذا لا يقال: إنه زاهد، إطلاقاً.
يقول: قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
هذه واحدة من الآيات التي تصور حال الدنيا وحقيقتها لكل من فتح عين قلبه فأبصر بها حقائق الأمور، ولم ينخدع بظاهر من الأمر وزخرف يغر الناس ويستهويهم، ثم ذلك ما يلبث حتى ينقشع ويزول ويذهب صفوه وبهاؤه وجماله وحلاوته وطلاوته، ثم يتحول إلى شيء آخر، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يصف الدنيا بأنها كالإنسان تمر بالأطوار التي يمر بها الإنسان، وإذا نظرت إلى كثير من الأمور، بل لو نظرت إلى جميع الحطام لرأيته كذلك، الإنسان يبدأ صغيراً، فيشب ويقوى، ثم بعد ذلك يكون كهلاً وتكتمل قواه، ثم بعد ذلك ما يلبث حتى يتحول إلى الضعف والشيبة والعجز وإلى أرذل العمر، حتى إنه لا يسوغ له الطعام فإذا أكله تكدر وتنغص فلا يستطيع أن يصرفه، ولا يستطيع القيام، ولا يستطيع الحركة، ولا مزاولة كثير من الأعمال، وإذا قام بجهد يسير انقلب ذلك عليه بأسوأ الآثار، بعد أن كان شابًّا قويًّا ممتدًّا مفتول العضلات، ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء آخر من الضعف والعجز والوهن، ينوء إذا ما رام القيام ويُحمل، وهكذا تجد المرأة التي لربما تعجب بجمالها وشبابها ونضارتها وزينتها وفتوتها وما إلى ذلك، ثم ما تلبث أن تتحول، يبدأ يذهب هذا الجمال، ويذهب هذا البهاء والرونق، ثم تكون ذات شيبة، ويترهل بدنها ويتحول وجهها إلى تجعد وخطوط لا يصلحها العطّار، فيزهد فيها كل أحد، فلا يرغب راغب بالتزوج منها، وهذه سنة الله في الخلق، لا يمكن أن يبقى أحد من هذا الخلق على حال واحدة، فأين الجميلات عبر القرون المتطاولة؟ وفي قرنك هذا أين الجميلات قبل خمسين سنة، وقبل ستين سنة، وقبل سبعين سنة ممن هن على قيد الحياة الآن؟، هل بقي من جمالها شيء؟ وهكذا إذا نظرت إلى الدور، وإلى المدن تجدها تبدأ في فترة الشباب والنشوء، ثم تكتمل فتعجب الناس ولربما يلهون بها، ويعجبهم ما فيها من الحسن والنظام، ثم بعد ذلك تبدأ في مرحلة الشيخوخة فيُهجر هذا الحي أو هذه المدينة ويزهد فيها أهلها، وينتقلون إلى حي آخر بينما كانت هذه النواحي أو تلك للأغنياء، ثم بعد ذلك يأنف العمال من سكنى تلك الدور التي تركها أولئك، وكانت في يوم من الأيام عامرة بأهلها، ثم تحول كل شيء، وهكذا انظروا إلى أحسن المراكب وإلى أسوأ المراكب وأقدمها، الكل في يوم كان جديداً، ثم بعد ذلك صار قديماً، ولا يمكن أن يوجد قديم من هذا الخلق إلا وله جديد، لا يتحول إلى قديم إلا وقد كان جديداً في يوم من الأيام، وهكذا ما نلبسه أيها الأحبة من الملابس حينما يكون في أوله لربما يعجب الإنسان وينظر إليه ويستحسنه ويتزين به أمام الآخرين، ثم بعد ذلك يتنزه عنه ولا يستطيع أن يقابل به أحداً، هذه طبيعة الحياة في كل شأن من شئونها، فهي كما صورها : كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ تشابك النبات مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ من الحشائش والحبوب والأشجار والثمار حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا يعني: بهجتها بالنبات وَازَّيَّنَتْ بالزهور وصار لها حلة تكسوها من الجمال الذي يستهويها، فيخرج الناس ينظرون إليها ولا يتمالك الواحد منهم حتى يكحل عينه ويطرب نفسه بالنظر إلى هذه المناظر الجميلة التي صارت تكسو الأرض خضرة، ثم بعد ذلك عما قريب يتحول ذلك كله إلى شيء آخر إلى هشيم، يصفرّ ثم بعد ذلك تذروه الرياح ويتحول إلى أرض قاحلة لا نبت فيها، ولربما تحول ذلك النبات إلى لون من المعاناة التي يعانيها أهل تلك الناحية فيتخلصون منها؛ لأنها تؤذيهم لما حصل فيها من يبسها وتغيرها وكراهة منظرها وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا متمكنون منها ومن ثمارها ومحصلون لذلك أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كأن لم تكن غناء كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]، الذين يُعملون عقولهم وينظرون إلى حقائق الأشياء.
وذكر جملة من الآيات، لكن هي تدور حول هذا المعنى، ولذلك أقول: العاقل هو الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء، ينظر إلى الحقائق، ولا يغتر بالمظاهر والأشكال والصور، انظر إلى الحقيقة، ما هي الحقيقة؟، لا تغتر بسيارة تضيع شبابك وأجمل مراحل العمر التي يمكن أن يكوَّن فيها الإنسان ويصير عالماً بمركب يذهب به ويغدو ويجيء، ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء من الحطام يباع في التشليح، ولا يضيع عمر الإنسان في طلب الزيادة والتكثر من هذه الدنيا من أجل جمع حجارة الذهب والفضة فيذهب العمر دون جدوى، ثم ماذا؟، لماذا هذا الاستكثار منها والحرص الزائد عليها، وقضاء الليل والنهار في تحصيلها؟، النهاية ما هي؟ النهاية حفرة كلنا يعرفها ولن يدفع في مقابل هذه الحفرة أو تلك الكسوة التي يكساها في حفرته ريالاً واحداً، يستوي فيها مع أفقر واحد، لا فرق بين أغنى إنسان ولا أفقر إنسان في هذه الحفيرة ولا في تلك الكسوة، فالعاقل لا يغتر، هذه الأجساد التي تنعم وتترف هي من حظ الدود، الأجساد المنعمة، وليست قيمة الإنسان هي طراوة الجسد ولا جمال الصورة، وليست قيمة الإنسان هي جمال الثياب، كما قال القرطبي -رحمه الله: "تبًّا لهمة ترتفع بثوب جميل أو مركب حسن"، الذي ليس له مطلوب ولا همة إلا أن يركب سيارة ذات قيمة عالية ويلبس ثوبًا له قيمة عالية هذه همة تعيسة، وإنما العاقل هو الذي تسمو همته إلى طلب ما عند الله في الحياة الباقية الحقيقية التي لا تنقضي أبداً، فيقضي هذا العمر القصير في ستين سنة أو سبعين سنة أو أقل بقليل أو أكثر بكثير أو غير ذلك فيما يعمر به آخرته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.