الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل البكاء من خشية الله أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن الشِّخِّير وهو العامري البصري، روايته عن رسول الله ﷺ في الحديث قليلة، عد له بعضهم ستة أحاديث، وبعضهم أوصلها إلى تسعة.
يقول: أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المِرجل من البكاء[1] حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
لجوفه أزيز: يعني لصدره أزيز، والأزيز هو صوت بكائه ﷺ كأزيز المرجل، يعني: كالصوت الذي يصدر من القِدر إذا استجمعت غليانًا، وصارت تغلي، يكون لها صوت، فهذا الصوت يصدر من جوفه -عليه الصلاة والسلام- من البكاء.
وكما مضى أن بكاءه ﷺ كان بهذا الأدب، وبهذه الطريقة من غير رفع للصوت، كما قد يفعله بعضهم.
يقول: وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ لأبيِّ بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك....
وأبيُّ بن كعب سبق الكلام على ترجمته، أو على شيء منها، وهو من أئمة القراءة، ومن علماء الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
قال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة: 1]، قال: وسماني؟ قال: نعم، فبكى أبيٌّ[2] متفق عليه، وفي رواية: فجعل أبيٌّ يبكي[3].
قوله ﷺ : إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذا فيه مزية ومنقبة عظيمة جدًّا لأبي بن كعب أن الله ذكره، وأمر نبيه ﷺ وهو أشرف الأنبياء أن يقرأ عليه هذه السورة.
والناس كثير منهم لو قيل له: إن فلانًا قد ذكرك في مجلسه بخير، أو إن فلانًا يبلغك السلام، أو نحو ذلك، لربما يسر بهذا، ويأنس به.
الله -تبارك وتعالى- العظيم الأعظم يأمر نبيه ﷺ أن يقرأ على أبي بن كعب باسمه هذه السورة العظيمة.
وهذه السورة قد اشتملت على أصول الإسلام العظام، ومن تأمل الآيات التي اشتملت عليها هذه السورة عرف ذلك.
قال: وسماني؟ يعني بالاسم، بمعنى أنه لم يقل الله لرسوله -عليه الصلاة والسلام-: اقرأ هذه السورة على أحد أصحابك مثلاً، أو على رجل من أصحابك، وإنما ذكره باسمه، خصه، قال: نعم فبكى أبيٌّ، وفي الرواية الأخرى: فجعل أبيٌّ يبكي.
وهذه أبلغ فهي تصور الحال التي أثرها هذا المقال، وهذا هو الشاهد في هذا الباب أن أبي بن كعب - بكى، وهذا البكاء يحتمل أن يكون فرحًا، فيدخل في أحد الأنواع التي ذكرناها من قبل وهو البكاء من شدة الفرح.
والله يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
فالشاهد أن هذه هي الأمور التي يشرع الفرح بها، وقد يكون هذا الفرح من باب الإشفاق أنه لا يقوم بحق هذه النعمة مثلاً، أو يكون ذلك من باب الخشوع والإخبات، والتذلل والتعظيم لله -تبارك وتعالى- حيث ذكره، كل هذا يحتمل.
وأصحاب النبي ﷺ كانوا يتأثرون، وكانوا يبكون.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قلوبًا خاشعة، وأعينًا باكية من خشيته.
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة (1/238)، رقم: (904)، والنسائي، باب البكاء في الصلاة (3/13)، رقم: (1214)، وأحمد (16312)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/316).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب (5/36)، رقم: (3809)، ومسلم، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل، والحذاق فيه، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه (1/550)، رقم: (799).
- أخرجه مسلم، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل، والحذاق فيه، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه (1/550)، رقم: (799).