الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "علامات حب الله تعالى للعبد" أورد المصنف -رحمه الله- قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقد تكلمنا على هذه الآية.
ثم أورد قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، ثم ذكر صفتهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] فذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية أربعة أوصاف لهؤلاء الذين يحبهم ويحبونه، والمؤمن ينبغي أن يتتبع هذه المعاني في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ من أجل أن يتخلق بهذه الأخلاق التي يحب الله أهلها ففي هذه الآية هؤلاء الذين يحبهم ويحبونه:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بمعنى أنهم يتواضعون لأهل الإيمان، ويلينون لهم بجانبهم فلا يتعالون عليهم، ولا يحصل منهم أذى وتسلط وقهر على أهل الإيمان، فلا يكونون من أهل الشدة في تعاملهم معهم، وفي المقابل أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فهم لا يتذللون لأعداء الله ، وإنما يكونون أعزة بحيث إنه يشعر بأن إيمانه وإسلامه ودينه يرفعه، وأن دينه يجعله بمنزلة فوق هؤلاء، فهو ليس بصغير ولا حقير ولا قزم بجانبهم كما يظنه كثير من الناس ممن ينظرون إلى ظاهر من الحياة الدنيا.
فأقول: المؤمن عزيز؛ لأنه معتز بالله -تبارك وتعالى، فمن كان يريد العزة فالله أخبر عن مصدرها بأنها لله ولرسوله وللمؤمنين، فعلى قدر ما يكون عند المؤمن من الإيمان على قدر ما يكون عنده من العزة، وكما ذكرنا من قبل أن: "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، فالمؤمن يكون عنده من العزة على قدر ما يكون عنده من الإيمان، فأما الكافر فلا إيمان له، ومن ثَمّ فإنه لا عزة له، وكلما نقص إيمان العبد كلما نقصت عزته حتى يصير ذليلاً؛ ولهذا حتى المؤمن الذي قد ذلت نفسه بسبب تتبعه لأهوائها وشهواتها ودنس نفسه بالعمل بمساخط الله ومعاصيه يكون له من الذل بقدر ما عنده من الانحراف والتقصير، ولهذا قال بعض السلف عمن يعصون الله قال: "إنهم وإنْ هملجتْ بهم البراذين -البراذين كانت مراكب الكبراء في ذلك الوقت- وطقطقت بهم المراكب فإن الذلة لا تفارق وجوههم، أو لا تفارقهم"، وهذا شيء مشاهد، وقد قال بعض السلف: "من طال قيامه بالليل حسن وجهه بالنهار"[1]، والمقصود أن أعمال الإنسان تؤثر فيه فيظهر ذلك في بهائه وهيبته، ولهذا كان بعض السلف إذا دخل على بعض الملوك هابه، حتىقال بعضهم: "ما دخل عليّ قط إلا خُيل إليّ أنه سبع يريد أن يلتهمني"، قالها بعض ملوك مصر في الإمام عبد الغني المقدسي -رحمه الله.
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ يجاهدون في سبيل الله، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فإن الإنسان الذي ضعف يقينه أو عنده تردد إذا حصل من الناس تشجيع له وذكر له وإطراء وما أشبه ذلك نشطت نفسه وأقدم على العمل، وإذا حصل منهم لوم تجاهه أو عتاب أو انتقاد أو نحو ذلك فإنه ينكسر وينثني ويرجع عما هو فيه من العمل ولو كان الله يحب ذلك ويرضاه، فقال: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، هذه الأوصاف أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، فالله -تبارك وتعالى- قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فالعبد يسأل ربه دائمًا أن يهديه وأن يصلح قلبه، وأن يوفقه لما يحب ويرضى، وأن يجعله من أوليائه المتقين، ولا يشمت بأحد من الناس مهما كان عمله، وإنما إذا رأى مبتلى قال ما شُرع له أن يقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً، أما الشماتة بالناس فإن ذلك لا يليق، وموسى ﷺ لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67].
لو شاء ربُّكَ كنتَ أيضًا مثلَهم | فالقلبُ بين أصابعِ الرحمنِ. |
فنسأل الله ألا يزيغ قلوبنا، وأن يهدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن يصلح أعمالنا وأحوالنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، برقم (1333)، وقال الشيخ الألباني: "موضوع"، في السلسلة الضعيفة، برقم (4644).