الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، يعني: أتحمل إساءتهم وهم يمعنون في الإساءة والتعدي والجهل، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، تسفهم المل: يعني: الرماد الحار، وهذا أمر لا يطاق ولا يحتمله الإنسان، فهو يتأذى به غاية التأذي، يعني: كأنك تطعمهم الرماد الحار، إما باعتبار ما يلحقهم من الإثم؛ بسبب ما يقابلون به هذا الإحسان والصلة، فهم يأثمون بسبب إساءتهم وعدوانهم ابتداءً فضلاً عن أن يكون ذلك مقابل الصلة والإحسان، وإما أن يكون فكأنما تُسِفُّهم المَلّ بمعنى أن هذا التصرف يحرجهم غاية الإحراج، فحينما تقابل إساءة المسيء بالإحسان يعرق جبينه، وهذا ليس لكل أحد، من الناس من يكون صفيق الوجه، لا يؤثر فيه الإحسان ولا يستحي، بل لربما ظن أن هذا الإحسان الذي يُبذل إليه أنه حق له، هو من حقوقه المكتسبة، وأن هذا الإنسان أيضاً مع ذلك مقصر في أداء هذه الحقوق التي يجب أن يؤديها له، هكذا يتصور، فهو يرى أن الآخرين مهما بذلوا إنما يؤدون بعض حقه عليهم، أما هو فلا تسأل عن حاله وتقصيره وإساءته، وهذا موجود في الناس، ولذلك فإن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن معنى فكأنما تُسِفُّهم المَلّ أي: ما يلحقهم بسبب ذلك من الإثم؛ لأنهم عصوا الله -تبارك وتعالى- بهذا، حيث قطعوا الرحم، والرحم كما سبق تأخذ بالعرش يوم القيامة وتقول: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فيقول: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟[2]، والنبي ﷺ أخبر أنه لا يدخل الجنة قاطع[3]، فهذا الحديث تطمين لكل من وصل رحمه فقُطعت، قطعوه، فهو لا يبالي؛ لأن أمر المسلم لله، فهو يعمل لله، ويصل الرحم لله، ويتصدق ويحسن إلى الآخرين لله، لا ينتظر منهم الجزاء ولا العطية ولا الشكور، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يضره أن يقابَل إحسانه بالإساءة، ومن ثَمّ فإنه يستمر على الإحسان، ولا ينقطع؛ لأن الذي ينقطع من كان أمره لغير الله ؛ لأنه يريد ما عند الآخرين، فحينما لا يقابَل بما أراد وما ظن وما توقعه من الإحسان فإنه ينقطع ويقابِل لربما الإساءة بالإساءة.
فالناس على ثلاث درجات:
منهم من يحسن إلى من أساء إليه.
ومنهم من يحسن إلى من أحسن إليه.
ومنهم من يعرض عمن أساء إليه.
وإن شئت أن تزيد جعلتها على خمس درجات، كالذي يعرض عمن أحسن إليه أيضاً، والذي يسيء إلى من أساء إليه، فصارت خمسًا، فأعلاها هو ذلك الإنسان الذي يحسن إلى من أساء إليه، وهذا غاية الكرم والجود والإحسان والصبر والبذل والتحمل ويدل على أن تربية هذا الإنسان تربية عالية جدًّا، لا تؤثر فيها إساءة هؤلاء الناس، ولا يهتز، فهي تربية متجذرة قوية أصيلة، بعيداً عن النفاق الاجتماعي والمجاملات وما إلى ذلك؛ لأن هذا مقام لا يمكن للإنسان أن يصبر عليه إن كانت أخلاقه من باب المجاملة مثلاً، أبداً.
ثم تأتي المراتب بعد ذلك، وأسوأ هذه المراتب هو عكس هذا من يسيء إلى من أحسن إليه، وهذا يوجد للأسف في الناس، لكنه قليل، فالكريم إذا أحسنت إليه ملكته، ولو كان الإحسان يسيراً، واللئيم إذا أحسنت إليه ازداد عتوًّا وتمرداً، فلا يزيده الإحسان إلا بغياً.
يقول النبي ﷺ: ولا يزال معك من الله ظهير عليهم أي: معين ونصير، ما دمت على ذلك، هذا يدل على أن الإنسان الذي يحسن إلى الذين يسيئون إليه أن الله يعينه وينصره ويقويه ويشد أزره، فمن أراد أن يكون له من الله ظهير فعليه أن يكون كذلك، نحن نقول: الإنسان لا يتطلب أناسًا يسيئون إليه، لكن:
ليس يخلو المرءُ من ضدٍّ ولو | حاولَ العزلةَ في رأسِ جبلْ |
لابد من الإساءة، لابد من أن يلقى الإنسان ما يلقى، فإذا لقي ذلك يتذكر هذا المعنى، وهذه حقيقة الصلة، وهو أرفعها، وقد ثبت أنه ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي يصل رحمه إذا قطعت[4]، أما الذي يحسن إلى الذين يحسنون إليه فهذا إحسان وبر، لكنه ليس كما ذكر في مثل هذه الصفة.
وكما قيل:
ليست الأحلامُ في حال الرِّضا | إنما الأحلامُ في حال الغضب |
كثير من الناس إذا كان في مقام يُحسن إليه وكذا يظهر إحسانه، وابتسامته، وأخلاقه الجميلة، فإذا وجد من يسيء إليه قابل الإساءة لربما بأكثر منها.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يلهمنا رشدنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1982)، برقم: (2558).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد: 22]، (6/ 134) برقم: (4830)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1980)، برقم: (2554).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1981)، برقم: (2556).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، (8/ 6)، برقم: (5991).