الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الإصلاح بين الناس أورد المصنف -رحمه الله-:
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فأبو معيط هو أبان بن ذكوان، وأم كلثوم هذه -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- هي أول امرأة هاجرت بعد صلح الحديبية.
وكان من بنود الصلح أنه لا يأتي أحد من مكة إلى المسلمين في المدينة إلا ويرد إلى أهل مكة، وفي بعض الروايات أنه لا يأتي رجل.
فجاءت هذه المرأة مهاجرة، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: إنها جاءت على قدميها من مكة إلى المدينة.
فلما جاءت جاء في أثرها أخواها، عمارة والوليد، يطلبان إرجاعها بمقتضى العهد، وكان العقد والعهد مع المشركين في صلح الحديبية قد أقر ونفذ، فجاءت بعده.
فعلى رواية "أنه ما يأتي رجل" فالنساء غير داخلات أصلاً، ولهذا ما ردها النبي ﷺ عليهم، وأنزل الله الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ... [الممتحنة:10].
آية الامتحان نزلت بسببها، وعلى رواية "أنه ما يأتي أحد من مكة إلى المدينة" فإن النساء داخلات في هذا، فتكون هذه الآية: إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ناسخة لما ثبت بالسنة من إرجاعهن بمقتضى العقد، فيكون هذا مثالا على نسخ القرآن للسنة.
وعلى كل حال النبي ﷺ ما أرجعها -رضي الله تعالى عنها- فبقيت، وزوّجها النبي ﷺ مولاه زيد بن حارثة .
وهي امرأة قرشية شريفة من بني أمية، وزوّجها مولاه، وهذا يدل على أن التفاضل إنما هو بالتقوى، فحتى المرأة القرشية -وقريش هم أشرف العرب نسباً- يزوجها النبي ﷺ من مولاه وهو عبد معتق زيد بن حارثة، ثم بعد ذلك طلقها زيد بن حارثة ثم تزوجها بعده الزبير بن العوام، ثم بعد ذلك طلقها، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف حتى مات عنها، ولها منه أربعة، ثم بعد ذلك تزوجها عمرو بن العاص، وبقيت عنده شهراً واحداً ثم توفيت -رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ولها عشرة أحاديث، هذا الحديث الوحيد في الصحيحين.
يَنمِي بمعنى: يوصل ويبلّغ خيرًا، وهذه إحدى الأحوال التي يجوز فيها الكذب، الإصلاح بين الناس.
الكذب حرام، ومن صفات المنافق، كما سبق: إذا حدث كذب[1].
ولكن يجوز الكذب في هذه الحال، وهي للإصلاح بين الناس، يأتي إنسان لاثنين متخاصمين، ويقول لأحدهما: إن فلاناً يثني عليك، ويحبك ويذكرك بالخير، ولم يحصل هذا لكنه يمني ينقل له مشاعر طيبة، وكلاماً ما قيل، لم يقله ذلك الإنسان، لكن يقول: فلان سمعته يثني عليك، ويذكرك بالخير ويحبك، ويقدرك، ويحب مصاحبتك، ومجالستك، وما أشبه ذلك، ومن طبع الإنسان أنه إذا سمع مثل هذا الكلام فإن نفسه ترتاض.
يعني: لو أتيت لإنسان مثلاً وجابهته بكلام شديد، وعيب وإقذاع، وقلت له: أنت كذا، وأنت كذا، حتى لو كان لربما من أهل الحلم فإنه لربما يصيبه نفور وانقباض في أقل الأحوال من هذا الكلام الذي سمعه، لكن حينما تأتي لإنسان ثائر تتلهب مشاعره، وتقول له: أنت إنسان فيك كذا من الصفات الطيبة، وفيك كذا من الصفات الطيبة، وأنا أحب الجلوس معك، وأحب مصاحبتك، وأنا أفرح برؤيتك، وأنا أسعد بكذا، تجد أنه يطأطئ رأسه شيئاً فشيئاً، ويذهب الذي في نفسه، ويكون متهيئاً للقبول وللسماع.
فالمقصود أن الإنسان حينما يكون وحَرُ الصدر قد بلغ غايته عنده من الوحشة لخصومة بينه وبين آخر فيأتي إليه إنسان، ويقول له: فلان يقول كذا وكذا وكذا، فإن ذلك يكون سبباً لاستمالة قلبه، وإزالة أسباب الكراهية والنفور والعداوة بين المسلمين، فهذا أمر جيد، فهذه حالة يجوز فيها الكذب.
والحالة الثانية والثالثة تأتي بإذن الله .
فيَنمِي خيراً أو يقول خيراً، متفق عليه، وفي رواية لمسلم بزيادة قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس...[2].
يعني: في الكذب، الكذب حرام، إلا في ثلاث، (تعني: الحرب)، كما قال النبي ﷺ: الحرب خدعة[3].
فتأتي للكفار كما فعل نعيم بن مسعود جاء للأحزاب، وفرقهم بهذه الطريقة، وقال لهم: هؤلاء اليهود سيطلبون منكم رهائن، يعني: من أبنائكم، وجاء إلى هؤلاء، وقال: تعيبكم العرب، وإن هؤلاء قد غدروا، حتى فرق شملهم.
وهكذا أيضاً ما حصل حينما أراد أبو سفيان أن يرجع بعد غزوة أحد، أرادوا أن يستأصلوا المسلمين، فجاءهم من قال لهم مثل هذا، قيل: هو نعيم بن مسعود، وقيل: غيره، وقال: إن الرسول ﷺ قد جمع جيشاً لكم، وإن أصحابه الذين قد تخلفوا عنه قد ندموا، ولا أراكم ترتحلون من هذا المكان إلا وقد طلع عليكم أولهم، فخاف أبو سفيان، وخشي أن يتحول الانتصار إلى هزيمة، وبادر بالرجوع إلى مكة، فالحرب خدعة لا إشكال في هذا، هذه هي الحالة الثانية.
قالت: أو الإصلاح بين الناس، وهي الحالة المذكورة آنفاً، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
هذه هي الحالة الثالثة، وذلك فيما يكون من شأنه أن يؤلف بين القلوب، ويجمع الشمل، ويجلب المودة، فالكلمة الطيبة صدقة.
فالرجل بدلاً من أن يعيب امرأته، وأن يغمزها، وأن يتكلم في ثلبها، يتكلم بالكلام الحسن، يثني على لباسها، وعلى أخلاقها، وعلى حسنها وجمالها، ويذكر من محبته لها، وأنها من أحب الناس إليه، وقد تكون ليست كذلك، قد لا يحبها، وقد لا يكون ملبسها أو هيئتها حسنة في نظره، ولكنها حينما تسمع هذا الكلام تسر به.
وهكذا حديث المرأة لزوجها، فإنها تذكر أنها تحبه، وأنها ما رأت مثله لا في الجمال، ولا في الفعال، ولا في الكرم، ولا في المروءة، ولا في الرجولة، ولا في الشجاعة، والشهامة، وقد لا يكون كذلك، لكن الرجل حينما يسمع هذا الكلام يمتلئ قلبه اطمئنانا، وارتياحاً، ومحبة، وإيثاراً لهذه المرأة التي أضفت عليه هذه الأوصاف.
فهذا مطلوب شرعاً؛ لأنه يجمع القلوب، ومن شأنه أن يلم به شعث الأسرة، لكن نحن نسمع مشكلات كثيرة عجيبة جدًّا سببها الكلام، الرجل يقول لامرأته: أنت انظري إلى شعرك، انظري إلى هيئتك، انظري حتى ذوقك في اللباس، وذوقك في الطعام كله رديء، وكذا، ثم تقول له: انظر أنت الآن لا تحسن أن تتكلم كلمتين، ولا تحسن كذا، وانظر إلى كذا، وانظر إلى كذا، وانظر إلى هيئتك في كذا، وتقارنه لربما ببعض من يخرج في القنوات، تقول: أين أنت من هذا؟ وأين أنت من هذا؟ وانظر إلى وجهك في المرأة، وانظر إلى...
فهذا مباشرة يرمي عليها الطلاق، ويقول: لا يمكن أن أبقى مع امرأة مثل هذه، كلام جارح تقوله المرأة أحياناً لزوجها، ويقوله الرجل أحياناً لامرأته، كلام يجرح، ونسمع أشياء الإنسان لا يستطيع أن يحكيها، مجرد حكاية لا نستطيع أن نقولها لشدتها وقسوتها، وقوتها، حتى لو بقي عقد الزوجية، كيف يبقى؟، وما مشاعر هذا الزوج وقد سمع هذه الكلمات الجارحة من امرأته، معناها أنها لا تراه، ولا أدنى الأشياء، تحتقره غاية الاحتقار، فما قيمة البقاء معها؟ وما قيمة العيش والحياة مع امرأة تحمل له هذه المشاعر السيئة؟
لكن وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83]، وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53]، الإنسان يتكلم بالكلام الطيب الذي يدفع به الشر، وأسباب الشر، وتُستجلب به المودة، وتزال به الوحشة، ووحر الصدر، وتُسل به السخائم.
حينما يتكلم الإنسان بمشاعر جيدة نحو الآخرين فهذا ليس من الكذب، لكن ليس معنى ذلك أنه يفجعها، يدخل على امرأته، ويقول من باب المزاح: أبوك قد مات، أخوك قد مات، فتفجع وتولول، فيقول: لا، أردت فقط المداعبة، ويجوز أن الرجل يكذب على امرأته، لا، ليس هذا هو الكذب المقصود في الحديث.
المقصود الكذب الذي يستجلب المودة، وتقوى به رابطة عقد الزوجية، أمّا أنه يكذب عليها في أمور أخرى، أو يأخذ مالها، ويكذب عليها، هذا لا يجوز، يضيع مالها، ثم يقول: والله ضاع مني المال، من غير تفريط، ويختلق أعذارًا، ويختلق أشياء، هذا الكلام لا يجوز، الكذب حرام، ومن النساء من تشتكي أنه يأخذ من ذهبها، ويأخذ من مالها، وإذا سألته قال: لا أدري، ما رأيته، هذا لا يجوز.
فالحاصل أن هذه الحالات الثلاث هي التي يجوز فيها الكذب فقط، وما عدا ذلك فهو حرام، لا يجوز، ومن اضطر إلى شيء من هذا فالمعاريض فيها مندوحة عن الكذب.
والمعاريض هو أن يتكلم الإنسان بكلام يحتمل معنيين، ولكن يريد به معنى آخر غير الذي قد يتبادر إلى ذهن السامع، تقول له مثلاً: هل رأيتَ فلاناً؟ وهو لا يريد أن يقول: إنه رآه، فيقول: لا، ما رأيته، يعني: ما ضربته على رئته.
رأيته، وكليته، وكبدته، يعني: ضربته على رئته، وضربته على كليته، وضربته على كبده، تقول ما رأيته يعني: ما ضربته على رئته، هذا يجوز، إذا اضطر الإنسان، فهذه معاريض، وليست كذبًا، لكن إذا أكثر منها كما يفعل بعض الناس كلما كلمته ما تدري معاريضه من ظاهر الكلام من غيرها، فهذا يعتبر كذابًا، كلما تسأله عن أي شيء يعطيك معاريض، فهذا لا يوثق به ولا يصدق.
لكن قد يحتاج الإنسان نادراً إلى المعاريض، يتخلص فيها، مثلاً يأتي إنسان ليقترض من إنسان لا يريد أن يقرضه؛ لأنه لا يرجع ما اقترض مثلاً، فيقول: والله ما بيدي شيء، نعم يده فارغة ما فيها شيء، والله ما بيدي شيء.
يقول: فلان، أين هو؟ تقول: والله فلان ما هو بهنا، لكن أن يكون هذا ديدن الإنسان وخلقه، وعادته المطردة فهذا غير صحيح، لكن نادراً لو احتاج لو اضطر ففي المعاريض مندوحة عن الكذب.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (1/ 16)، رقم: (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (1/ 78)، رقم: (58).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه (4/ 2012)، رقم: (2605).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة (4/ 64)، رقم: (3030).