الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث في هذا الكتاب المبارك باباً بعد باب يتصل بنفع المسلمين، وتقديم العون لهم، فالباب الذي كنا نتحدث عن بعض ما يتعلق به من المعاني هو باب في قضاء حوائج المسلمين، وذكر المصنف فيه حديثين، والباب الذي بعده هو باب الشفاعة وذكر فيه حديثين -أيضًا، والحديث عن الشفاعة هو حديث -أيضًا- عن قضاء حوائج المسلمين، فهذا من ذكر الخاص بعد العام، والمقصود بالشفاعة: أصلها كما هو معلوم مأخوذ من الشفع، وهو يقابل الوتر، فكأن صاحب الحاجة كان منفرداً بحاجته فشفعه غيره؛ ليتقوى به في تحصيلها، فبدلاً من أن كان منفرداً انضم إليه غيره، فكان ذلك أقوى وأدعى إلى تحصيل مطلوبه، أو الخلاص من الأمر المكروه، ولهذا يقال: إن حقيقة الشفاعة هي: الانضمام إلى الغير في تحصيل النفع أو دفع الضر، هذا يقرب المعنى، وما يذكره أهل العلم -رحمهم الله- في معنى الشفاعة يدور حول ما ذكرت -والله تعالى أعلم.
وذكر آية في صدر هذا الباب على عادته -رحمه الله- في تصدير الأبواب بآي القرآن، وهي قوله -تبارك وتعالى: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا [النساء:85].
والشفاعة من أهل العلم من يقول: إنها لا تكون إلا في الخير، وعلى هذا يكون قوله -تبارك وتعالى: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً من باب الصفة التي توضح الواقع، كقوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، فهي صفة كاشفة تكشف عن حقيقة الشيء، ليست قيداً يخرج بعض الأفراد الذين لا يتصفون بهذا، فكل طائر يطير بجناحيه، وكذلك فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79] ، فهنا إذا قلنا: إن الشفاعة لا تكون إلا في الخير أصلاً يكون قوله: "شفاعة حسنة" من باب الأغلب، مثل أن نقول: الصراط المستقيم، الصراط أصلاً هو الطريق المستقيم، فالطريق المستقيم يقال له: صراط، ولا يقال للمعوج: صراط، فيكون قوله: الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، صفة توضح حقيقة الأمر الواقع الذي لابد منه أصلاً في كونه صراطاً، وإذا قلنا: إن الشفاعة تكون في الحسنة والسيئة يكون هذا القيد مؤثرًا، تكون صفة حقيقية، ولذلك قال بعده: وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا أي: نصيب، والذين يقولون: الشفاعة لا تكون إلا في الأمور الحسنة قالوا: هذا فقط من باب ما يسميه أهل البلاغة بالمشاكلة، وفيه نظر -والله تعالى أعلم.
والإنسان قد يشفع في الخير، وقد يشفع في الشر، فالله -تبارك وتعالى- جعل للشافع في الخير نصيبًا من هذه الشفاعة، ونكَّره نَصِيبٌ، والتنكير أحياناً يفيد التعظيم، كما في قوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، فلفظ التجارة نُكر لتعظيمه، ويدل أحياناً على التحقير، قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أي: اليهود، فقوله: حَيَاةٍ نُكر للتحقير، أي: أقل ما يصدق عليه الحياة يتسمك بأهدابها ولو كان الموت أفضل منها ألف مرة، ولو كانت في غاية الإذلال، المهم أنه يبقى حيًّا، فهنا يكون له نصيب من هذه الشفاعة؛ لأنه كان سبباً توصل به المشفوع له إلى الخير، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه..[1]، وذلك لأن الشافع أعان على تحقيق هذا، فصار له نصيب، فهذا يدل على فضل الشفاعة في الخير، وأن الإنسان يؤجر على ذلك، كما أنها من مكارم الأخلاق، ومما تقتضيه المروءات، وهي زكاة للجاه، فالمال يزكى بالمال، والجاه والمنزلة تزكى بالشفاعة، فإذا كان الإنسان له قدر ومنزلة ويأتيه الناس أصحاب الحاجات والضعفاء، هذا يريد أن يكتب ورقة، وهذا يريد أن يكلم له فلاناً من الناس، وهذا يريد أن يذهب معه، فإنه يسعى بحاجاتهم، بشرط أن لا تكون هذه الشفاعة سيئة؛ لأن الله قال: وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا، أي: نصيب أيضاً، فالكفل هو: النصيب.
والشفاعة السيئة تكون إذا شفع له بأمر محرم، إما محرم بذاته كأن يشفع له مثلاً ليُدخل إلى البلد خمراً، كأن يكلم شخصًا يعمل في الجمارك ويقول: أدخِلْ لي هذا الخمر مثلاً، أو المسكرات بأنواعها -المخدرات، أو يشفع عند إنسان يعرف السحر، ويقول: اعمل له سحراً بالمجان؛ لأنه فقير ومسكين، هذا لا يجوز، شفاعة سيئة، فهو في ذاته محرم، أو كان التحريم يرجع إليه بسبب ما يحصل من الضرر للغير، إما الضرر العام، أو الضرر الخاص، الضرر العام مثل لو أنه شفع لإنسان ليس بأهل لعمل أو لوظيفة أن يوضع فيها، فهذا إنسان فاشل، فإذا وضع في هذا المكان سوف يضر الناس، ونكون قد وضعنا الإنسان غير المناسب في مكان ليس بأهل له، وهذا لا يجوز، أو يكون الضرر خاصًّا مثلا أناس منتظرون يطلبون رقماً في الهاتف، ولا يوجد أرقام ولا خطوط، وجاء إنسان يعرفه فأعطاه رقمَ واحدٍ وفي الانتظار عشرات، هذا لا يجوز، وأحياناً للأسف يكون الإنسان ذاهبًا للحج أو للعمرة، ويُعمل له هذا، لكن متى يجوز أن يعمل له هذا؟ إذا كان هذا الإنسان عنده ضرورة فإنه يدبر له حجزًا بأي طريقة، وذلك لأنه متوقف عليه أمر ومصلحة ضرورية كبرنامج دورة، أو شيء ينتفع به العامة، وليس مجرد ذهاب وزيارة أو عمرة، فممكن أن يقدم هذا ويجعل له أفضلية، لكن أن يقدم لأجل المعرفة فلا، ولا تضيع آخرتك من أجل دنيا غيرك، وهذا من أسوأ الأشياء، كن واضحًا وصريحًا، وشجاعًا، وتعتذر بكل لباقة وتقول: هذا لا أستطيعه.
ولذلك كثير من الناس يقدَّم على غيره و ليس بأهل، يأتي ويقول: من طرف فلان، أهلاً بك ومرحباً وبفلان، حتى إذا لم تأتِ من طرفه إذا كنا نستطيع أن نحققه لك سيحصل لك، أما إذا جئت وأنت لست بأهل فلو جئت بأهل الأرض لا يمكن أن يجري هذا بأيدينا، ونضر بآخرتنا لأجل أن نرضي فلانًا من الناس، فهي لغة غير جيدة، وكثير من الناس يستعمل هذا، أنا جئتُ من طرف فلان، وإذا جئتَ من طرف فلان! حتى لو جاء هو رددناه مع احترامنا للجميع، فهذه الأمور احفظوها: لا تضر آخرتك من أجل دنيا غيرك، فإذا لم يكن فيه ضرر على الناس ومؤهلاتهم متساوية فهنا يجوز؛ لقول النبي ﷺ: اشفعوا تؤجروا[2]، وهذه شفاعة حسنة جائزة، يؤجر الإنسان عليها، ولماذا يبخل الإنسان بمثل هذا المعروف الذي لم يخسر منه شيئًا؟ ولذلك فإن أولائك الذين لا يشفعون إلا بمقابل يقول: أنا أشفع لك، أنا عندي علاقات، وأعرف ناسًأ في الجهة الفلانية، والجهة الفلانية، لكن بالمبلغ الفلاني، نقول: هذا لا يجوز؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ بإسناد حسنه الألباني -رحمه الله: أن الهدية على الشفاعة باب من الربا[3]، لأن الشفاعة مما تقتضيه المروءات ومكارم الأخلاق، فلا تَضِيق أخلاق الناس فلا يشفع الواحد منهم إلا بمقابل، ومن أهل العلم من يقول: إن الناس إذا ضنوا بهذا وساءت أخلاقهم وعُدمت المروءات فلم يشفع أحد منهم إلا بمقابل فإن هذا يكون جائزًا من باب: جواز الدفع وحرمة الأخذ، يجوز للدافع ويحرم على الآخذ، لكن ينبغي أن يتورع الإنسان ويتنزه من هذا كله، وينبغي لمن كان عنده قدرة على نفع المسلمين أن ينفعهم، ولا يضره هذا شيئًا، ولا يأخذ مقابلًا؛ لأن هذا كسب قبيح، وذهاب للمروءة، هذا ما يتعلق بالشفاعة الحسنة، والشفاعة السيئة المحرمة، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2060)، رقم: (2674).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (2/ 113)، رقم: (1432).
- أخرجه أحمد، (36/ 588)، رقم: (22251)، وصححه الألباني في المشكاة، رقم: (3757).