الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله ﷺ: كل أمتي معافى، حمله بعض أهل العلم على أن المعافاة هنا من ذم الناس وعيبهم وإساءتهم إليه ووقيعتهم في عرضه، فإذا جاهر فإنه تناله ألسنتهم ولربما حصل له شيء من التعدي من جهتهم بأنواعه المختلفة، هكذا فسره بعض أهل العلم.
والحديث يحتمل أن يكون المراد معافى من العقوبة، ولكن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن ذلك معناه أن كل من يعمل الذنوب من غير مجاهرة أنه في عفو، وهذا ليس بمراد، والله تعالى أعلم.
ولهذا فسره من فسره من أهل العلم فقال: معافى يعني: أن عرضه مصون، محفوظ وله حرمته فلا يصل إليه أحد بأذية، غيبة، أو نحو ذلك، ثم فسر النبي ﷺ المجاهرة بذكر صورة من صورها، وإلا فلها صور كثيرة، ولهذا قال: النبي ﷺ: وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، فدل على أن للمجاهرة أنواعا متنوعة.
قوله: يعمل الرجل بالليل عملاً وهذا ليس بلازم، وإنما ذكْرُ هذا يمكن أن يكون باعتبار أنه الغالب، وإلا فإن الإنسان قد يعمل عملاً بالنهار، ولا يطلع عليه أحد، ثم يخبر عنه بالنهار، أو يخبر عنه بالليل، فيكون مجاهراً.
وكذلك أيضا غير هذه الصورة من المجاهرة أن يعمل الرجل المنكر أمام الناس، يعني هذا يعمل المنكر بعيدًا عن أنظارهم فيستره الله ثم يأتي ويخبر ويقول: فعلت البارحة كذا وكذا، فالذي يفعل مكاشرة، مجاهرة، لا يستتر، هذا أوضح وأشد في الذنب، كالذي يجلس أمام الناس ويدخن، وجالس في السيارة ويخرج يده وفيها السجارة، بكل وقاحة وقلة حياء لا من الله، ولا من الناس، أو يجلس في مكان انتظار، أو في مطار ويجلس يدخن أمامهم، هذه مجاهرة، كل أمتي معافى إلا المجاهرين، ولا يشترط في المجاهرة أن يعملها سرا ثم يأتي ويخبر الناس، لا، هذا يفعل ذلك مكاشرة أمامهم، ولا يبالي بهم ولا يستحي منهم، بل هو مستخف بهم بهذا العمل.
وكذلك من يفجر أمام الناس، ومن يفعل أمورًا لا تليق أمامهم، كل ذنب يفعله الإنسان أمام الملأ فإنه داخل في المجاهرة، كل ما لا يتوارى به الإنسان، هذا الذي يأتي ويمر في الطرقات ويقف عند الإشارة والمعازف معه كأنه جالس في مرقص، هذه مجاهرة، ومن أعظم المجاهرة ومن أقبحها.
الذي يأتي ويحلق لحيته في مكان عام أمام الناس وهم داخلون وخارجون، هذه مجاهرة، وقل مثل ذلك فيمن يجر ثوبه، ويخرج به أمام الناس، فهذه مجاهرة بالمعصية، الذي يذهب ويشاهد صورًا ويتصفح مجلات سيئة في السوق أمام الناس، فهذا مجاهر.
ومن المجاهرة: أن يُخرج هذا في كلام يقوله في شريط، أو في مقابلة في قناة فضائية، أو يكتب هذا في الانترنت، أو في صحيفة، ويُخرج هذه الأشياء، والمعاصي والذنوب من ضمن أعماله التي يتزين بها أمام الناس، فهذا كله من المجاهرة، فالمجاهرة: من الجهر الذي يقابل الإسرار والخفاء بالشيء.
هذا الذي قال فيه النبي ﷺ ما قال، لماذا خصه النبي ﷺ سواء عمله سرًّا ثم أخبر الناس، أو أنه عمله أمامهم؟.
لأن هذا مستخف بحق الله لا يبالي، يعني: المؤمن إذا عمل ذنباً يخاف ويستحي من الله ، ويختفي، فلو فاتته صلاة الجماعة لا يستطيع أن يرى الناس ذاك اليوم حياء من الله، فهذا حذيفة بن اليمان خرج ورأى الناس قد صلوا فاختفى، فسأله بعض الناس، فقال: لا أستطيع أن ألقى أحداً.
يستحي من الله ويستحي من الناس أن تفوته صلاة الجماعة، أو تفوته صلاة الفجر، وجهه يظلم سائر ذلك اليوم؛ حياء من الله كيف وقع هذا؟ مع أن النبي ﷺ يقول: أما إنه ليس في النوم تفريط[2].
فكيف بالذي لا يبالي بهذا إطلاقاً؟ بل يخبر الناس أنه لا يصلي إلا إذا أراد أن يذهب إلى العمل، ويتحدث بهذا، فهذا يدل على ضعف الإيمان عند الإنسان.
المؤمن إذا عمل الذنب يستحي من الله ويخشى أن يفضحه الله -تبارك وتعالى- وأن يظهر ذلك للناس، فهو وجل خائف، أما هذا الذي يذهب ويأتي معه كاميرا، ومعه سيدي، ومصور أعماله وسيئاته وذنوبه بكل صراحة، رأينا أناسًا في المطارات تظن أنهم لم يعرفوا الله ، فهذا معه امرأة لا تحل له، يضاحكها وتودعه إلى آخر لحظة، حتى يدخل الصالة الداخلية، من الذي أحل له ذلك؟!.
فالحاصل أن المجاهر مستخف بالله، لا يبالي، ومستخف بعباد الله، يفعل المعصية وكأنه يقول لهم: لا شأن لكم بي، من أنتم حتى أختفي بهذه المعصية وأستتر؟ هذه حقيقة الحال، فلو كان يستحي منهم ما فعل هذا أمامهم، ولو كان يعرف حقهم وقدرهم ما فعل هذا أمامهم، ولذلك تجد الإنسان الذي يستحي من الناس وفطرته ما زالت حيه لا يجرؤ أن يفعل ما لا يليق أمام الآخرين، ترى الولد -مثلاً- الذي يريد أن يدخن لا يجرؤ على هذا إطلاقا في البداية ويختفي غاية الاختفاء، ويحاول أن لا توجد منه رائحة، بل ويتعاطى أشياء تذهب الرائحة، فإذا وُقف عليه يومًا وهو يدخن فإنه يكون في غاية الحرج والحياء، ومع الأيام يذهب حياؤه شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك لا يبالي بأحد، يرحل الحياء الذي في قلبه من هؤلاء الناس.
ومن أكبر الأسباب الداعية للوقوع في مثل هذا هو تتابع الذنب، أول مرة تجده له حرارة في القلب، وأثر شديد، ثم يكون في المرة الثانية أضعف، المرة الرابعة الخامسة، ثم بعد ذلك كما قال النبي ﷺ في حديث حذيفة : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها -يعني تقبلها- نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًّا كالكوز، مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه[3]، مثل الجَرّة المنكوسة لا يمكن أن تحمل الماء في داخلها، وأبيض كالصفاة لا تضره معصية ما قامت السماوات والأرض، وهذا شيء مشاهد.
فلو أن أحدًا من الناس أغراه زملاؤه أن يذهب معهم إلى مكان لا يليق الذهاب إليه، فذهبوا به إلى بلد، ودخلوا به مرقصًا، لا شك أن هذا سيحرج حرجاً شديدًا، بل قد لا يستطيع أن يرفع رأسه من الأرض، ويشعر أن الجميع ينظرون إليه، لكن المرة الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، ثم يصير هو الذي يقوم ويتكلم ويضع الوردة في جيب الراقصة -أعزكم الله، ولا يبالي، لكن أول مرة لم يكن كذلك، فهذه الأمور أيها الأحبة تأتي بسبب تتابع الذنوب على القلوب، فيفسد بذلك القلب ويتبلد حسه، ثم بعد ذلك لا يبالي بالناس، ولا يبالي بمعصية الله ولا يتحرك له ساكن بسبب هذه القضية، وهذا معنى قول الله : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، فتكون طبقة على القلب يقال لها: الران، فتغلِّفه، فما يشعر ولا يحس، يصير قلبًا متصلبًا، لا يدخل فيه شيء يؤثر فيه، يسمع المواعظ، يسمع القرآن لا يتأثر، قلبه عليه طبقة، فهذه تحتاج إلى شيء من المعالجة من أجل أن يُصقل القلب، ويرجع إلى حالته الأولى.
يقول النبي ﷺ: وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.
هذا الحديث ما علاقته بباب ستر عورات المسلمين؟.
العلاقة بينهما من جهتين:
الجهة الأولى: أنه إذا طلب ستر عورات الناس، فكذلك أيضاً الإنسان يستر نفسه، إذا كان مطالبًا بستر عورات المسلمين فهو مطالب أن يستر نفسه أيضًا.
الجهة الثانية: أنه إن كان يحرم عليه أن يكشف ستر الله عليه، مع أن هذا أمر يتعلق بذاته، لا يتعلق بمظلمة للخلق، ولا بأعراضهم، فكذلك أيضاً يحرم عليه أن يهتك ستر المسلمين، ويتكلم في أعراضهم ويفضحهم ويقول: فلان رأيته يفعل، وفلان رأيته يقارف كذا وكذا، وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز.
فأقول: ينبغي للإنسان أن يراجع قلبه عند فعل الذنب، وينظر هل يتحرك أو لا يتحرك؟، هل يجد حرجاً وحياء؟، لأن هذه كلها مؤشرات ودلائل تدل على حياة القلب، وعلى مرضه أو موته أحياناً.
نحن نعرف أن الإنسان إذا أحس بمرض في قلبه أنه يذهب إلى الأطباء ووجهه يتقلب وينظر ماذا يقولون، وما الذي يظهر بالأشعة والتقرير، هل عنده تصلب في الشرايين؟ هل هو بداية أعراض معينة لمرض في القلب؟، وتجده يطبق ما يقوله له الطبيب مائة بالمائة ويتلقفه بكل تلهف، حتى لو منعه أشهى طعام لديه يتركه ويتحمل ويصبر، كل هذا من أجل مرض عضوي، ولن يموت قبل يومه.
ونحن نشاهد هؤلاء الذين يُعنون عناية كبيرة بأجسامهم ويمشون في اليوم مسافة طويلة عشرة كيلو مترات، أو ثمانية كيلو مترات، من أجل المحافظة على أبدانهم، وهذا لا إشكال فيه، لكن مع ذلك رأينا بعضهم يموت بسبب جلطات متتابعة، وكنا نراه يجوب الحي كل يوم.
قيل لابن عباس: الهدهد يقال: إنه يرى الماء تحت التربة، كيف يضع له الطفل الصغير الفخ ويصيده؟، فقال: إذا جاء القدر عمي البصر، فإذا جاء الأجل لا يستطيع أحد رده.
رأيت رجلاً دفن ابنه، وكان هذا الابن قد أصيب بحادث سيارة، فبرئ الولد من المرض ثم جاءته أشياء أخرى وتجاوزها، ثم بعد ذلك مات، لماذا؟، قدر الله .
فالإنسان يعتني ببدنه عناية كبيرة، ويترقب ماذا قال الطبيب، ولكنه بالمقابل إذا مرض القلب بالمرض الآخر الذي قد يورده النار لا يلتفت إليه، ولا يفكر به، وإذا وجد من ينصحه، ويقول له: اترك كذا، وافعل كذا، ربما يتخذه عدواً.
فلو قلت لأحد: يا فلان ما رأيناك صلاة الفجر، حاربَ المسجدَ بقية الفروض كلها، وكأنه يقول: بأي حق يقول لي هذا الكلام؟، لماذا؟ هذا ينصحك، وهذا أعظم من كلام الطبيب في الكلام على المرض العضوي الذي تتلقفه تلقفًا بكامل حواسك، ولكنها الغفلة التي تجعلنا بهذه المثابة.
نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يصلح أعمالنا وقلوبنا وأحوالنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، (8/ 20)، برقم: (6069)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، (4/ 2291)، برقم: (2990).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، (1/ 473)، برقم: (681).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، (1/ 128)، برقم: (144).