الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الأمر بالمحافظة على السنة، وآدابها أورد المصنف -رحمه الله- قول الله -تبارك وتعالى-: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
الله -تبارك وتعالى- يقسم في هذه الآية فَلَا وَرَبِّكَ والمعروف أن (لا) هذه التي تكون مع القسم أنها تكون لتوكيد القسم كقوله لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ فهي تأتي لتوكيد القسم.
وبعض أهل العلم يقولون بأن (لا) هذه تتعلق بمقول قبلها، أو بمقدر قبلها، أو نحو ذلك، لا لما تقولون لا لما تدعون، أو نحو ذلك يعني أنها على بابها في النفي.
وبعضهم يقول إنها على بابها في النفي بمعنى أن هذا أمر لا يحتاج إلى أن يقسم عليه؛ لأنه من الوضوح بمكان لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ نفى القسم؛ لأن هذا أمر ظاهر، لا يحتاج إلى قسم.
على كل حال هنا قال: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ نفى عنهم الإيمان حتى تتحقق هذه المذكورات في هذه الآية حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا فهذه ثلاثة أمور، فالتحاكم إلى النبي ﷺ هذا واجب لا يصح الإيمان إلا به.
والله -تبارك وتعالى- هنا ينفي الإيمان، وظاهره أن النفي نفي لصحته، وليس من قبيل النفي لكماله؛ لأن من يرفض التحاكم إلى الشرع من يرفض التحاكم إلى النبي ﷺ فذلك ليس بمؤمن، فالتحاكم إليه -عليه الصلاة والسلام- تحاكم إلى شرع الله -تبارك وتعالى- تحاكم إلى الكتاب، والسنة هذا واجب يجب على كل مسلم، ولا يصح الإيمان إلا بذلك.
فهؤلاء الذين يعلنون أنهم يرفضون التحكيم لشرع الله ويعادون من يدعو إلى ذلك، وهؤلاء الذين يجدون غضاضة حينما يدعون إلى شرع الله ليحكم بينهم، أو هؤلاء الذين يخوفون الأعداء من اليهود، والنصارى من أهل الإيمان أنهم يريدون أنهم ينوون أنهم سيطالبون بتحكيم شرع الله هؤلاء ليسوا من أهل الإيمان أصلاً، هذا الذي يقول: نرفض تحكيم الشريعة، لا نقبل بتحكيم الشريعة هذا كافر مرتد عن الإسلام، ليس بمسلم، ولا يتصور الإيمان أصلاً من مثل هؤلاء، فهم كفرة، فجرة أعداء لله، وأعداء لرسله -عليهم الصلاة والسلام- وينبغي أن يوضع الحق في نصابه، وأن تعرف الأشياء، وأن يعرف حال هؤلاء الناس كيف يدعون الإيمان، وهم يخوفون اليهود والنصارى من شرع الله وتحكيم الشريعة، وأسماءهم محمد، وعبد الله، وزيد، وصالح، وخالد، وما إلى ذلك.
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وليس ذلك فقط ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ يعني: لا يكون في نفوسهم غضاضة، ولا يكون فيها ضيق مما حكم به الشرع، يعني: قد يتحاكمون فإذا حكم الشرع بينهم، وجدوا في أنفسهم انقباضا، فهؤلاء يجب أن تكون صدورهم منشرحة، وقلوبهم مطمئنة بحكم الله؛ لأنه هو الحق، وأن هذا الحكم هو الذي مبناه على العلم الكامل، والحكمة التامة، فيطمئن الإنسان إلى أن هذا هو الحق، فلا يكون في صدره غضاضة، ولا ضيقا، ولا تبرما من حكم شرع الله -تبارك وتعالى-.
وأيضًا أمر ثالث: قال: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا يعني قد يتحاكم، ولكنه في النهاية يرفض هذا الحكم يقول: لا نسلم به، نحن نرفض هذه النتيجة، نرفض هذا الصك الذي صدر، أو هذا الحكم الذي صدر، وفيه نصوص واضحة، وصريحة من الكتاب والسنة، فمثل هذا لا يصح الإيمان ممن كان بهذه المثابة، يجب عليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، كما قال الله : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لا يكون للمؤمن أي خيار غير هذا، سمعنا وأطعنا.
أما الذي يقول: لا، وهذه أحكام كانت قبل أربعة عشر قرنًا لبيئة بدوية، ولا تصلح للقرن العشرين، وما إلى ذلك، فهذا لا يكون من أهل الإيمان بحال من الأحوال.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] أحسن عاقبة، هو خير من كل وجه، خير لكم في الدنيا، خير للأفراد الذين وقع لهم هذا الحكم، وخير للمجتمع، خير للأمة، وأحسن عاقبة.
أما إذا كان التحاكم إلى غيره فإن ذلك يكون مضيعًا لضرورات الناس الخمس، وما يتبع ذلك من حاجياتهم، وتحسينياتهم تضيع الأديان، وتضيع النفوس، وتضيع العقول، وتضيع الأعراض، وتضيع الأموال.
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب، وهو للوجوب هنا قطعًا، ثم علقه بهذا التعليق بهذا الشرط إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن إيمانكم بالله أن يكون الله -تبارك وتعالى- هو الذي يحكم بينكم، والله يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فالتشريع هو من حق الله وحده، ولا يجوز للناس أن يتخذوا مجالس تشريعية بأي اسم كانت، إنما المشرع هو الله، ومن جعل من نفسه مشرعًا، أو سمى نفسه بذلك، أو نحو هذا فهو مضاد لله -تبارك وتعالى- قد تعدى، وظلم، وتجاوز طوره، تعدى حده.
ثم قال النووي -رحمه الله: قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة، يعني فردوه إلى الله يعني إلى كتابه، والرد إلى الرسول ﷺ يعني الرد إلى سنته، وكتاب الله موجود، ومحفوظ، وسنته محفوظة كذلك، قد ميز الجهابذة من العلماء الصحيح من السقيم، وتكلم النقاد في هذا بما هو معروف، واعتنوا به غاية العناية.
وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ أي أن طاعة النبي ﷺ هي طاعة لله .
قال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني هؤلاء الذين يقولون نحن نقبل ما ذكره القرآن، ما نص عليه القرآن، هذا يقوله بعض من يسمون أنفسهم اليوم بالتنويرين، ويقوله بعض الليبراليين، وتقوله طائفة منحرفة في بلاد الهند، يقال لهم: القرآنيون، فمثل هؤلاء يقولون: نحن هذه السنة لا نقبل بها، ويذكرون في ذلك شبهات، ويوجد مواقع في الإنترنت، ويوجد حسابات في توتير، وفي وسائل الاتصال الحديثة تشكك في سنة رسول الله ﷺ.
ولربما سمعت بعض هؤلاء المنحرفين يتكلم عن هدايات القرآن، وعن أنوار القرآن، وعن أن هذا الكتاب فيه كل ما يحتاج إليه، وفيه الهداية للبشرية، تقول: ما شاء الله، فتح الله على قلبه، وما عرف إلا بمعاداة الدين، وأهله!
فما الذي حصل الآن، ما الذي تغير، ما الذي جد عندك، ثم إذا استرسل في الكلام؛ بدأ يذكر لحنًا يعرف به نفاقه، فيبدأ يتكلم، ومن ثم فإننا لسنا بحاجة إلى أي شيء آخر غير القرآن، يريد بذلك الطعن في السنة، ورد سنة رسول الله ﷺ.
ثم السنة هي شارحة للقرآن، يريدون أن يشرحوا القرآن هم بأفهامهم، ولذلك يقولون نحن بحاجة إلى كتابة أصول الفقه من جديد، أصول الفقه، نحن نقول: الأمر للوجوب، هم سيقولون: لا، الأمر ليس للوجوب، حينما يقال مثلاً: بأن النهي للتحريم، يقولون: لا، حينما يقال مثلاً: بأن المطلق يحمل على المقيد، العام على الخاص، هم يقولون: لا، فنحن نقرأ قراءة أخرى جديدة، قراءة تفسيرية بحسب أفهامنا، ومعطيات العصر، فيطوعون القرآن لشهواتهم، وأهوائهم، وضلالاتهم، وانحرافاتهم فهذه دعوة خطيرة، ومثل هؤلاء الذين يتكلمون بهذه القضايا نحن نسأله سؤالا بسيطا ما نحتاج ندخل معه في نقاش عميق، نقول: أنت تصلي، أو لا تصلي؟!
إذا قال: أنا لا أصلي نقول: أنت كافر، وحديثنا معك في قضايا أخرى، فإذا قال: أنا أصلي، نقول: كم تصلي من فرض؟! المغرب كم تصليها ركعة؟ العشاء كم تصليها ركعة؟ الظهر كم تصليها؟ إلى آخره، فإذا قال: أنا أصلي خمسة فروض، وأصلي المغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربعا نقول من أين هذا لا يوجد في القرآن، من أين أخذت هذا؟
لا بد أن يقول: أخذته من السنة، نقول: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فالشاهد أن مثل هؤلاء الذين يقولون نأخذ من القرآن، الله -تبارك وتعالى- يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ويخالفون هنا مضمن؛ لأنه عدي بعن مضمن معنى ينحرفون، ونحو ذلك أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فتنة في الدنيا.
الإمام مالك -رحمه الله- لما جاءه رجل، وقال أريد أن أحرم من المسجد، ومعروف أن ميقات أهل المدينة قريب جدًا بناحية المدينة الآن تعداها البنيان، فقال له الإمام مالك: تحرم من الميقات إني أخشى عليك فتنة! قال: وأي فتنة، إنما هي أميال قليلة! فقرأ هذه الآية فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لاحظ في قضية إحرام قبل الميقات، يريد أن يتقرب إلى الله أكثر، أن يحرم من المسجد النبوي، فأجابه إمام دار الهجرة -رحمه الله- بهذا الجواب.
فكيف بالذي يريد أن يلغي السنة بكاملها، ويعمل بأهوائه؟!
قال: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا، أو في الآخرة.
وقال مخاطبا لأمهات المؤمنين وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ لما أمر الله أمهات المؤمنين بالقرار في البيوت، قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ تجلس ماذا تفعل؟!
تشتغل بما ينفعها وَاذْكُرْنَ وهذا الذكر يشمل الذكر القلبي في القلب، بالتفكر في المعاني، وإعمال الذهن فيها، وكذلك أيضًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ الذكر باللسان، بالتلاوة، وبالقراءة وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يتلى، وجاء بالفعل مبنيا للمجهول، سواء ما يتلوه جبريل -عليه الصلاة والسلام- على النبي ﷺ أو ما يتلوه رسول الله ﷺ أو ما يتلوه غيره، يعني: مما يتلوه أزواجه مثلا، أو غير ذلك مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ وأضاف البيوت إليهن باعتبار أنهن المنتفعات بها؛ وذلك لأن النساء ملازمات للبيوت، قارات في البيوت، وإلا فالبيت للنبي ﷺ وقد مضى الكلام على هذا فمكان المرأة إنما هو بيتها وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
قال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ والحكمة ما هي؟!
هي السنة، فهذا هو كلام الله واضح لا لبس فيه.
والآيات في ذلك كثيرة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.