الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «ليس على أبيك كرب بعد اليوم»
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3393
مرات الإستماع: 11819

ليس على أبيك كرب بعد اليوم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أنس قال: لمّا ثَقُل النبي ﷺ جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه. فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه! يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه! يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه! فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟! رواه البخاري.

هنا ضبطها ثَقُل النبي ﷺ، والذي يحضرني أنه لما ثُقِل برسول الله ﷺ بضم الثاء، يعني: اشتد عليه وطأة المرض، وسكرات الموت، ثُقِل برسول الله ﷺ أي: كان في حال الاحتضار، وما يعانيه الإنسان من سكرات الموت.

يقول: جعل يتغشاه الكرب، والكرب: هو الشدة، فقالت فاطمة -رضي الله عنها: واكرب أبتاه، فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة -رضي الله عنها: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟[1] رواه البخاري.

الشاهد من إيراد هذا الحديث في باب الصبر أن النبي ﷺ وهو أكرم الخلق على الله، فهو خليل الرحمن، ومع ذلك كان ينزل به ﷺ من الشدة، والبلاء، والمرض ما يزيد على غيره من الناس، حتى إنه ﷺ لما قيل له: إنك لتُوعَك، أخبرهم أنه يضاعف له ذلك، فيصيبه من الألم والشدة ضعف ما يصيب غيره من الناس[2].

ولهذا قال ﷺ: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدد عليه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه"[3]، أو كما قال ﷺ.

فشدة البلاء وشدة المرض، وشدة المصيبة لا تعني هوان العبد على ربه -تبارك وتعالى، وإنما الله يشدد عليه في البلاء ليرفعه في الدرجات العالية في الجنة، وليحط عنه الخطايا، ولذلك نهى النبي ﷺ عن سب الحمى، وأخبر أنها تنفي الذنوب وتحطها كما ينفي الكير خبث الحديد[4].

ولذلك ينبغي للإنسان إذا أصابه المرض أن لا يجزع ولا يتسخط ولا يضجر، ولا يرى منه ربه شيئاً يكرهه، وإنما يكون حامداً ذاكراً شاكراً، يحتسب ذلك عند الله ، والله يجزيه عليه أفضل الجزاء.

وكان النبي ﷺ مع شدة ما كان ينزل به صابراً، ولم تحتمل فاطمة -رضي الله تعالى عنها، فقالت: واكرب أبتاه.

فلم يتضجر ﷺ ولم يتسخط، ولم يتبرم، وإنما صبر واحتسب، ولهذا هون عليها ﷺ وسلاها بقوله ﷺ: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، وذلك يعني أن الإنسان يتسلى، فهي مدة قصيرة جداً، ثم بعد ذلك يئول إلى رضا الله ، وإلى جناته، وإلى نعيم مقيم، فإذا عرف الإنسان قصر المهلة والمدة وأن ذلك شيء عابر يطوف به، ثم بعد ذلك يصير إلى رضوان الله والأجر والمثوبة فإن ذلك يهوّن عليه ما نزل به من البلاء.

المشكلة أن يكون البلاء متعاقباً متتابعاً، يلاقي الإنسان ما يلاقيه من الشدة، والمرض، ويضجر، ولا ينفعه الضجر، ثم يئول إلى سخط الله وعذابه ومقته، هذا هو الشيء الصعب، غاية الصعوبة على النفوس.

قالت: "واكرب أبتاه" وهذا ليس من الضجر، إنما هي كلمة قالتها في مثل ذلك الموقف دون رفع صوت، ولا نياحة، ولا إظهار للضجر.

فقال ﷺ: ليس على أبيك كرب بعد اليوم يهون عليها، ويخفف عنها، مع أنه يعاني ما يعاني، وقد قال ﷺ: إن للموت سكرات[5].

وكان ﷺ يُغشى عليه ثم يفيق، ويغشى عليه ثم يفيق، وأمرهم ﷺ أن يصبوا عليه من سبع قرب من سبع آبار من آبار المدينة، فالمقصود: أنه عانى ﷺ ما عاناه من الشدة عند الموت، فما يلاقيه الإنسان من الشدة عند الموت لا يدل على انحطاط مرتبته، وهوانه على ربه، بل يكون ذلك رِفعة لدرجاته وتكفيراً لسيئاته.

قالت: "يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه" ليس ذلك أيضاً من النياحة، إنما النياحة هي رفع الصوت بالبكاء، وفاطمة لم يصدر عنها -رضي الله تعالى عنها- شيء من ذلك، إنما قالت مثل هذه المقولة، فإذا قال الإنسان ذلك من غير رفع للصوت، ولا ضجر فإن ذلك ليس من النياحة في شيء.

هل تجوز مخاطبة الميت؟ قالت: يا أبتاه، وأبو بكر كشف عن وجهه ﷺ وقبله بين عينيه، وقال: طبت يا رسول الله حياً وميتاً[6].

فهذا من مخاطبة الميت، فما الذي يصح من ذلك؟ وما الذي يمنع منه؟

يقال: في مثل هذا المقام لا بأس بذلك، كأن تقول: السلام عليك يا رسول الله، إذا زرت قبره، أو مات لك ميت فقلت: نرجو لك الخير عند الله ، نرجو أن تكون من عباد الله الصالحين، أو لطالما كنت واصلاً للرحم، عاطفاً على الفقراء، متقرباً إلى الله، قواماً لليل، صواماً للنهار، هذا لا إشكال فيه، ولا بأس به.

والذي يمنع من مخاطبة الميت: أن تعرض عليه مشاكل الأمة مثلا، أو يعرض عليه الإنسان مشاكله، أو نحو ذلك وإن كان يقصد أن الله هو الذي يجلو عنه ذلك ويرفعه، نقول: لا تشرع مخاطبة الميت.

وينبغي للناس أن يلجئوا إلى الله ، وأن يجتهدوا في العمل الصحيح الصالح، لدفع ما نزل بهم من الكربات والبلاء، لا أن يعرضوا مشاكلهم على النبي ﷺ ويخاطبوه بذلك.

فهناك فرق بين أن تقول: رحمك الله، لقد كنت واصلا للرحم، وبين أن تقول: يا فلان نزلت بنا شدائد، ونزلت بنا كروب بعدك، ونزلت بنا مصائب، ونزلت بنا أمراض، ومات فلان، وتفرقت الأسرة، فهذا لا يصلح.

ففاطمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "يا أبتاه، أجاب رباً دعاه" وكما قال رسول الله ﷺ: إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده[7].

وكان يقول ﷺ عند النزع: الرفيق الأعلى[8].

قالت: "أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه" فإذا سأل الإنسان ربه فإنه يكون عالي الهمة، ويقول: اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى، والفردوس أصله في كلام العرب هي الجنة، البستان الذي فيه من كل الثمر، من كل أنواع الثمار الموجود في البساتين.

قالت: "يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه" النعي: أصله بمعنى الإخبار بموت الميت، أي: نرفع خبر موت رسول الله ﷺ إلى جبريل الذي كان يأتيه بخبر السماء، ويتردد عليه، كأنها تقول: نخبره بموت رسول الله ﷺ.

حكم النعي في الشرع

والنعي نوعان: نعي محرم، ونعي جائز، والنعي المحرم هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، لا من أجل الصلاة عليه، وإنما فقط على سبيل المباهاة والمفاخرة، ولا يبعد منه ما يحصل في الصحف اليوم من النعي على سبيل المباهاة والمفاخرة.

فلما دفن قالت فاطمة -رضي الله عنها: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟

قالت ذلك من شدة ما تجد، وإلا هي تعلم أن هذا هو العمل المشروع في حق النبي ﷺ وفي حق غيره، وقد علم ذلك أصحابه ﷺ وتلقاه الناس قبل ذلك، كما حصل في قصة ابنيْ آدم، فهذه هي سنة الحياة، أو سنة الله في خلقه، أن يتدافنوا، ولا يُترك الميت عرضة للآفات وما أشبه ذلك، وإنما يكرم بدفنه، ويعجل له في ذلك، ومَن دفنه فإنه يؤجر على هذا العمل.

هذا، وأسأل الله أن يلحقنا به ﷺ، وأن يحشرنا في زمرته، وأن لا يفتنا بعده، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 

مواد ذات صلة