الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلم يزل الحديث متصلاً بقوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وبينا أن الجملة الأولى تتعلق بالأعمال، وأن الجملة الثانية تتعلق بالعاملين.
قوله ﷺ: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله أي: من جهة القصد، أنه يريد بهذه الهجرة ما عند الله -تبارك وتعالى، فيترك الأهل والوطن والعشيرة لله، وفي الله، رجاء ما عند الله، فهذا تكون هجرته شرعية وصحيحة، ويؤجر عليها، وتكون من أجل الأعمال وأفضلها، ولهذا حكم لها بذلك، فقال: فهجرته إلى الله ورسوله.
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها يعني: أنه هاجر من أجل تجارة، أو من أجل وظيفة، أو من أجل مطامع دنيوية، أو امرأة ينكحها يعني: يتزوجها، فإن كان قد هاجر من بلد إلى بلد من أن أجل أن يتوصل بذلك إلى تزوج امرأة، سواءً كانت قد اشترطت عليه ذلك، كأن تقول: لا أقبل التزوج منك حتى تهاجر، فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، من أجل أن يتزوجها، ليحقق شرطها، فهذه ليست بهجرة شرعية، ولا يؤجر على ذلك.
وهكذا كل مطلب من المطالب الدنيوية، إذا كان هو المقصود بالعمل، فإن الإنسان لا يؤجر على ذلك، ولا يكون عمله بذلك صالحاً، وغاية ما هنالك أن من الأعمال ما يكون مباحاً، يعني: قال ﷺ: فهجرته إلى ما هاجر إليه فلو أنه انتقل من أجل تجارة، أو انتقل من أجل امرأة يتزوجها، فهذا لا يؤجر، لكن هل يقال: بأنه يأثم بهذا القصد؟ الجواب: لا؛ لأن هذا من المطالب المباحة، لكن لو أنه هاجر رياءً وسمعة، فإنه يأثم، ويكون عليه من الوزر ما عليه؛ لأن ذلك من الإشراك والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]، وقد أدخل بعض أهل العلم الشرك الأصغر والخفي في هذا العموم إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وإن أقروا بأنه لا يخلد في النار، ولكن لا يكون مما يغفر بالحسنات، أو ما إلى ذلك، ولكن قد ينغمر في الموازين بحسنات عظيمة، أو يحصل للإنسان مصائب عظيمة، أو يكون هذا الإنسان ممن ترجحت كفة حسناته.
يقول الله -تبارك وتعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8]، المقصود أن مقاصد العاملين تتنوع، وبناءً عليها يحصل الثواب أو العقاب أو قبول الأعمال، أو رد الأعمال، أو يكون العمل لا له ولا عليه، وقد ذكرت في بعض المناسبات هذه الأقسام:
فأعلى المراتب: أن يتمحض القصد لله -تبارك وتعالى- أي: يكون مخلصاً، لا يلتفت مع ذلك إلى شيء مما يجوز الالتفات إليه، ولا ما لا يجوز الالتفات إليه، ما يجوز الالتفات إليه، مثل لو أنه حج، وهو يريد ما عند الله ، ويريد العبادة والتقرب إلى الله، وفي الوقت نفسه يريد بهذا العمل التجارة.
والله يقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة:198] يعني: التجارة في الحج، وهكذا لو أنه غزى يريد ما عند الله، لإعلاء كلمة الله، ويقصد مع ذلك أمراً مباحاً وهو الغنيمة، فهذا لا إشكال فيه، لكن المرتبة العليا أن يريد ما عند الله، ولا يلتفت إلى شيء سواه.
المرتبة الثانية: أن يريد ما عند الله، ويلتفت على سبيل التبع، وليس بالقصد الأول، إلى أمر يجوز الالتفات إليه من هذه الأمور المباحة، كالذي يصوم يريد ما عند الله، ويريد أن يصح بدنه، يمشي إلى المسجد يريد ما عند الله، ويريد بهذا المشي الرياضة مثلاً، وهكذا في أمثلة كثيرة.
يزكي المال يريد ما عند الله، ويريد أن يزكو هذا المال وينمو، يصل الرحم، يريد ما عند الله، ويريد أيضاً أمراً آخر وهو أن ينسأ له في أثره، فإن هذه الأمور تترتب على صلى الرحم، أو على هذه الأعمال، فهذا يجوز، ولكن المرتبة الأولى أعلى، فهاتان مرتبتان العمل معهما صحيح، ومقبول، ولكن إحدى المرتبتين أعلى من الثانية.
المرتبة الثالثة: أن يريد بهذا العمل أمراً دنيوياً، هذا الذي الورد في الحديث أراد بهذا العمل أمراً دنيوياً مباحاً، كالذي يهاجر ليتزوج امرأة، أو يهاجر من أجل أن يتجر، من أجل مكاسب دنيوية من أجل مال، فهذا لا يؤجر على العمل المعين.
المرتبة الرابعة: هي أن يعمل العمل يريد وجه الله، ويلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه، وهو الرياء والسمعة، فهذا يرد معه العمل إن كان من أوله، يعني: من ابتداء العمل النية مخلوطة، فإن طرأت النية الفاسدة أثناء العمل، فإن دفعها صح العمل، على الأرجح من أقوال أهل العلم، فإن استرسل معها أبطل عمل المكلف، كان عمله باطلاً، فهذه المرتبة الرابعة.
المرتبة الخامسة: أن يتمحض العمل للدنيا، المكاسب والتجارات، هذا في جميع الأعمال لا يريد إلا الدنيا، فهذا نسأل الله العافية يصدق عليه قول الله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، كل الأعمال لا يريد بها إلى الدنيا، كل الأعمال، يصلي ليثبت عدالته، ولتقبل شهادته، وسمع أن هذه الصلوات من هذا الكلام الذي يروج للناس للأسف، فتفسد به مقاصدهم، الآن تؤلف كتب وتقام دورات، إنه الشحانات الكهربائية، وإذا سجد امتصتها الأرض، هو يريد يحط يضع جبهته على الأرض من غير الصلاة، وتمتص هذه الشحنات الكهربائية بدون صلاة، لماذا تفسد مقاصد الناس، ويعبدون للجسد، وللمطالب الدنية الدنيوية، فيقال لهم مثل هذا الكلام، وأنه إذا خرج صلاة الفجر غاز الأوزون، غاز الأوزون لازم يصلي! يمكن يفتح النافذة ويشم غاز الأوزون وهو في بيته، لا يحتاج أن يخرج إلى المسجد، وها هم يخرجون يمشون في أماكن المشي والرياضة وما أشبه ذلك من الفجر، ويشمون غاز الأوزون، نحن نخرج تعبداً لله، ونسجد تعبداً لله، ولا نحتاج أن نؤلف كتباً، وأن ندعو الناس إلى مثل هذه المطالب المادية الجسدية، فالتعبد ليس لتعمير الأجساد، فيكون الإنسان عبداً لجسده، وإنما يكون عبداً لله، بعمارة القلب بالإيمان، هذا الصحيح.
على كل حال فهذا الذي لا يريد بأعماله إلا الدنيا، هذا يصدق عليه آية هود هذه، وآية الإسراء مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:18].
والله يقول في سورة آل عمران: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، فهذه ثلاث في كتاب الله -تبارك وتعالى-.
بقي مرتبة أخيرة وهي: أن يتمحض العمل للرياء، كل الأعمال، ابتداء من الإيمان، دخل بالإيمان رياءً وسمعة، وكل أعماله رياء، الصلاة رياء، والصيام يسمع به، والأذكار رياء، وقراءة القرآن رياء، وكل شغله رياء، نسأل الله العافية، فهذا عمله باطل، وتجارته خاسرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، ذكر منهم القارئ والمجاهد والمنفق، أبو هريرة قرأ هذه الآية مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود: 15]، عند هذا الحديث، وبكى بكاءً شديداً، ومعاوية بن أبي سفيان حمل ذلك يعني ما في هذه الآية آية هود على الرياء وأهل الرياء[1].
فالمقصود أن لا شك أن من تمحضت أعماله، حتى الدخول في الإيمان، نسأل الله العافية، للرياء والسمعة فصفقته خاسرة.
ولهذا قال: أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هجر إليه، والله يعلم خفايا النفوس، وما في القلوب، وما يدور فيها، وما يقع فيها من الخواطر، ولا ينفع عنده التجمل بالظاهر، مع فساد البواطن، ولذلك ينبغي على العبد أن يراجع نفسه دائماً، ولا يتكلم بكلمة، ولا يزاول عملاً حتى يحضر فيه نية صحيحة.
وكان السلف يلاحظون هذا المعنى، وكانوا يعتبرون العناية بهذا الجانب من أشد الأشياء؛ لأن القلب يتقلب، يتحول، ويتقلب دائماً، ولا يتوقف من الخواطر، والإرادات، والمقاصد، وما إلى ذلك.
ولهذا بعضهم كان يدعى أحياناً ليصلي على جنازة أو نحو ذلك فيقف ينتظر قليلا، ويسأل عن هذا، فيقول: حتى أحضر نية، ما ذهبت لأنك قلت لي: تعال، وجئت مجاملة أو تسجيل حضور.
نحن أحياناً ما نسأل أنفسنا لما نذهب للصلاة على الجنازة تأتينا رسالة في الجوال: فلان توفي، ونعرفه، فقد نذهب لتسجيل الحضور، إني حضرت، أنا موجود، وإذا ما رأوه، لكثرة الناس، لربما قال لهم: أنا جئت اليوم، صليت عليه في المسجد، وجئت للمقبرة.
وإنما لكل امرئ ما نوى، فلماذا يفسد الإنسان أعماله، لماذا لا يحضر نيته، وقل مثل ذلك في الصدقات، وفي قراءة القرآن والذكر وما إلى ذلك، والكتابات، فهذه الكتابات التي يكتب فيها الآن من يحسن، ومن لا يحسن في هذه الوسائل والوسائط الجديدة، يكتب في تويتر، يعلق في المنتديات، لماذا تكتب؟
كتابته أسرع من نيته لكثرة ما يكتب، تكتب لماذا؟ تسجيل حضور، تبحث عن إعجاب الآخرين، يفتح كل قليل، بعد قليل، ثم ينظر ماذا قيل عن كلامه هذا الكلام الممتاز الجديد الرائع في نظره هو.
وأحياناً لا يعرف يكتب إملاء، وهو يعتقد أنها درر ونفائس، وهو لا يفرق بين الظاء والضاد، ولا بين التاء المربوطة، ولا التاء المفتوحة، ويعلق على العلماء، ويعلق على كلام الناس القامات، ويقول: حرية التعبير، وحرية الرأي.
الإنسان يحتاج أنه يقلب الأمر مدة أيام حتى يحضر نية في سطر يكتبه، وهؤلاء كتابتهم تسبق نسأل الله العافية، ولذلك قيل: بأن الألسن المطلقة، الألسن المشرعة، لا يمكن أن تكون مزمومة بزمام العقل، أو أنها مرتبطة بالمقاصد الطيبة الصحيحة، فهؤلاء ألسنتهم تسبقهم، ولذلك يصدر منهم من الخطل، والخطأ، والشطط، والغلط أشياء كثيرة جداً، لا يمكن أن تحصر، والسبب أن هذا اللسان منفلت، غير مزموم، وغير مخطوم، فلسانه يسبق عقله، ومن كان لسانه يسبق عقله، ماذا تتوقع أن يأتي منه من الآراء السديدة، والأقوال الحميدة؟ لا يكون هذا إطلاقاً.
ولذلك أقول: يحتاج من الإنسان يحضر نيته في كل شيء، في كل الأعمال والمزاولات، حتى الأشياء المباحة، هذا يدرس، وهذا يدرس، كل يوم يذهبون في الصباح، لو كان هذا له نية لارتفع أعلى المراتب في طلب العلم، من أجلّ الأعمال وأفضلها.
مسكين من يدرس السنين الطويلة على أساس يأكل عيش، فبئس ما حصل وقصد، فقد يكون عليه أوزار إذا كان العلم من العلم الشرعي، من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة[2].
فالمسألة ليست سهلة، وما يضر الإنسان يحضر هذه النية، ويتغير حاله وجديته وسلوكه.
نسأل الله أن يصلح أقوالنا، وأعمالنا، وقلوبنا، وأن يرزقنا وإياكم نية صالحة، في كل شيء، والله أعلم.
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة (4/ 591)، رقم: (2382).
- أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى (3/ 323)، رقم:(3664)، وابن ماجه، كتاب الإيمان، باب الانتفاع بالعلم والعمل به(1/ 92)، رقم: (252).