إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، ننتقل بعد ذلك للكلام على الحديث الآخر، وهو: دعاء دخول الخلاء.
سبق ما يقوله إذا وضع ثوبَه، يقول: "بسم الله"، وتطرَّقنا إلى قول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث[1]، فجاء الكلامُ على ارتباطه بالتَّسمية، فقال المؤلفُ هنا بأنَّه يقول: "بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبْث -أو الخُبُث- والخبائث" ، فذكر التَّسمية باعتبار أنها ثابتةٌ استقلالاً؛ لأنَّه أراد أن يضع ثوبَه، فإذا أراد أن يدخل الخلاءَ فهو بحاجةٍ إلى ذلك، هذا بالإضافة إلى الرِّواية السَّابقة التي ذكرها الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-، يقول: "بسم الله"، أدخل مُستصحبًا اسم الله، أو مُستعينًا بسم الله، بسم الله أدخل، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
الخبث: بعضُهم يرويه بضمِّ الخاء والباء، وبعضهم يرويه بسكون الباء، مع ضمِّ الخاء: الخُبْث.
والخُبث جمع: خبيث، والخبائث يقولون: جمع خبيثةٍ، هكذا فسَّره كثيرون ممن رواه، وضبطه بالضمِّ: (الخُبُث)، قالوا: ذُكران الشَّياطين، والخبائث يعني: الإناث، هذا ذكره جماعةٌ من أهل العلم.
والخطَّابي -رحمه الله- قال: إنَّه بالضمِّ: خُبُث. مع أنَّ أكثر المحدِّثين يروونه بالسُّكون: (الخُبْث)، لكن الخطابي -رحمه الله- عدَّ ذلك من أغلاط المحدِّثين، فقال: "وعامَّة أصحاب الحديث يقولون: "الخُبْث" ساكنة الباء، وهو غلطٌ، والصَّواب: الخبُث، مضمومة الباء"[2].
فهو يرى أنَّه لا وجهَ له بالإسكان، فيكون عنده المعنى: أنَّه استعاذ بالله من الشَّياطين: من ذكورهم وإناثهم، يعني: استعاذ من جميع الشَّياطين.
هذا كلام الخطَّابي، وهو مشهورٌ، ويُعلل ردّه للإسكان: (الخُبْث) فيقول: يكون المعنى غير مُنسجمٍ، ولا مُتجانسٍ، يعني: إذا قلت: الخبث مصدر، يعني: الشَّر، طيب: والخبائث؟ إناث الشَّياطين مثلاً، أو الشَّياطين؟
يقول: ما في تجانس، الاستعاذة من الشَّر، ومن إناث الشَّياطين مثلاً. لكن لو كان بالضمِّ فيكون استعاذ من الذُّكران، ومن الإناث، يعني: عطف الأعيان من إناث الشَّياطين على الأعيان من الشَّياطين الذُّكور، لكن الخُبث هو الشَّر، وهو معنًى من المعاني، والخبائث ذات. هكذا علَّله.
وردَّ عليه جماعةٌ من أهل العلم: كابن دقيق العيد[3]، والنَّووي[4]، وابن سيد الناس[5]، وقالوا: لا وجهَ لتخطئة المحدِّثين؛ فإنَّ (فُعُلاً) تُخفّف عينُه بالتَّسكين اتِّفاقًا. وهذا ذكره جماعةٌ: كالقسطلاني[6]، يعني يقولون: "لماذا يُخطّأ المحدِّثون في روايتهم بالإسكان: (الخُبْث)؛ فإنَّ العربَ تُخفّف ذلك، فتُسكّن الحرف الثاني بلا إشكالٍ بالاتِّفاق"، وسيأتي مزيد إيضاحٍ لهذا.
والعلماء -رحمهم الله- يقولون: يجوز إسكانُ الباء؛ لأنَّ الخبيثَ إذا جُمِع يجوز إسكان الباء للتَّخفيف، مثل: سُبُل، سبل. كُتُب، كُتْب. رُسُل، رُسْل. بالإسكان، يعني: أنَّه لغة، وأنَّ هذا مشهورٌ ومعروفٌ، ولا يصحّ إنكاره، لكن له أن يقول: أنَّ ترك التَّخفيف أولى. يعني: الضَّم أولى؛ لئلا يشتبه بالخبث الذي هو بمعنى المصدر، يعني: هؤلاء الذين يردّون يقولون: العرب تُخفّف، فيأتي الحرفُ ساكنًا، ويكون ذلك لغةً، فيكون بالتَّحريك والتَّخفيف، فلماذا التَّخطئة؟
هذا بصرف النَّظر عمَّن حمله على معنى المصدر: أنَّه الشَّر، وليس الشَّياطين، يعني بالإسكان؛ ولهذا فإنَّ بعضَهم يقول: إنَّه بالإسكان "الخُبْث" بمعنى المصدر، يعني: الشَّر، طيب، والخبائث؟
عرفنا أنَّ الخطَّابي يُنْكِر هذا، فيقول: كيف نعطف الخبائث وهي: أعيان الشَّياطين، أو نحو ذلك، على معنًى وهو الشَّر؟!
فهؤلاء يقولون: الخُبْث هو الشَّر –بالإسكان-، والخبائث صفة النُّفوس، فيشمل ذُكران الشَّياطين وإناثهم، فالخبائث: النفوس الخبائث من الذُّكران والإناث، فيصير استعاذ من الشَّر كلِّه، ومن النفوس الموصوفة بالشَّر، يعني: استعاذ من الشَّر، ومن الأشرار، على الإسكان، إذا لم يُحْمَل ذلك على أنَّه مجرد تخفيفٍ، أو مجرد لغةٍ، وأنَّ المراد معنى الاسم، وهو الخُبث جمع خبيثٍ، إذا لم نقل بهذا، وقلنا: إنَّ الخبث يعني المصدر، وهو الشَّر، فيكون تعوَّذ من الشَّر والأشرار، من الشَّر وأهل الشَّر، وهذا المعنى أوسع؛ ولهذا فإنَّ صاحب "تيسير العلام في شرح عُمدة الأحكام" لما ذكر أنَّ جماعةً ضبطوه بإسكان الباء، يقول: "ومعناه على هذا يكون الشَّر، وهو معنى جامع، حيث قد استعاذ من الشَّر وأهله، وهم الخبائث، فينبغي للقائل مُراعاة هذا المعنى العامّ"[7].
وبعضهم يقول: إنَّه بالضم "الخُبث" يعني: الشَّياطين، والخبائث يعني: البول والغائط. استعاذ من شرِّ الأول، وضرر الآخر، الثاني، يعني: استعاذ من شرِّ الشياطين، ومن ضرر هذه الفضلات التي لو بقيت واحتبست لهلك. ولكن الأكثر على خلافه.
والشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- يقول: "إنَّه بالضم أفصح، وتُسكن باؤه"[8]. يعني: يجوز الوجهان، وذكر أمثلةً لهذا من اللغة، وأنَّه حينما يكون بالضَّم "الخُبُث" فهو جمع خبيثٍ، والخبائث جمع خبيثةٍ، يعني: من الشَّياطين الذُّكران والإناث، قال: "لأنَّهم يحضرون في الغالب في المواضع القذرة حال قضاء الحاجة، فيستعيذ بالله من شرِّهم جميعًا"[9].
وقال بعضُهم بتسكين "الخبْث" يعني: بمعنى الشَّر والمكروه، والخبائث: الأفعال الخبيثة، والمعنى: أعوذ بالله من الشَّر كلِّه، وأعوذ بالله من الخبائث التي هي الأفعال الخبيثة.
فعلى القول الأول استعاذ من أسبابها، هذا كلام الشيخ -رحمه الله-، الأول ما هو؟ الخُبث، فإنَّ الشياطين هي أسباب كل شرٍّ، فإذا استعاذ منهم استعاذ من أسباب الشَّر. وعلى الثاني يكون قد استعاذ من الشَّر نفسه.
أُكمل الكلامَ في هذا في الليلة الآتية، إن شاء الله تعالى.
وأسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
اللهم اجعل القرآنَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وذهابَ أحزاننا، وجلاء همومنا.
اللهم ذكِّرنا منه ما نُسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنَّا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، برقم (139)، ومسلم: كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم (563).
- "معالم السنن" للخطابي (1/10) (288).
- حيث قال في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (ص38): "الخُبُث -بضم الخاء والباء- جمع خبيثٍ، كما ذكر المصنفُ، وذكر الخطَّابي في "أغاليط المحدثين" روايتهم له بإسكان الباء، ولا ينبغي أن يُعدّ هذا غلطًا؛ لأنَّ "فُعُلًا" -بضمِّ الفاء والعين- يُخفَّف عينُه قياسًا، فلا يتعين أن يكون المرادُ بالخبْث -بسكون الباء- ما لا يُناسب المعنى، بل يجوز أن يكون -وهو ساكن الباء - بمعناه وهو مضموم الباء، نعم مَن حمله وهو ساكن الباء على ما لا يُناسب المعنى فهو غلط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللَّفظ".
- حيث قال في "شرح مسلم" (4/71): "ذا كلام الخطَّابي، وهذا الذي غلَّطهم فيه ليس بغلطٍ، ولا يصحّ إنكاره جواز الإسكان؛ فإنَّ الإسكان جائزٌ على سبيل التَّخفيف، كما يقال: كتب، ورسل، وعنق، وأذن، ونظائره، فكل هذا وما أشبهه جائزٌ تسكينه بلا خلافٍ عند أهل العربية، وهو بابٌ معروفٌ من أبواب التَّصريف لا يمكن إنكاره، ولعلَّ الخطَّابي أراد الإنكارَ على مَن يقول: أصله الإسكان. فإن كان أراد هذا فعبارته مُوهمة، وقد صرَّح جماعةٌ من أهل المعرفة بأنَّ الباء هنا ساكنة، منهم الإمام أبو عبيد، إمام هذا الفنِّ والعُمدة فيه".
- حيث قال في "حاشية السيوطي على سنن النسائي" (1/21): "قَالَ ابنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَحَسْبُكَ بِهِ جَلَالَةً".
- حيث قال في "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (1/233): "نعم صرَّح الخطابي بأنَّ تسكينها ممنوعٌ، وعدَّه من أغاليط المحدّثين، وأنكره عليه النَّووي وابن دقيق العيد؛ لأنَّ "فعلًا" -بضم الفاء والعين- تُخفَّف عينُه بالتَّسكين اتِّفاقًا، وردَّه الزركشي في تعليق العمدة بأنَّ التَّخفيف إنما يطرد فيما لا يلبس: كعنق من المفرد، ورسل من الجمع، لا فيما يلبس: كحمر، فإنَّه لو خُفِّف ألبس بجمع أحمر، وتعقَّبه صاحبُ "مصابيح الجامع" بأنَّه لا يعرف هذا التَّفصيل لأحدٍ من أئمة العربية، بل في كلامه ما يدفعه؛ فإنَّه صرَّح بجواز التَّخفيف في عنق، مع أنَّه يلبس حينئذٍ بجمع أعنق، وهو الرجل الطَّويل العنق، والأُنثى عنقاء بيّنة العنق، وجمعهما عنه بضمِّ العين وإسكان النُّون".
- "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" (ص36).
- "شرح بلوغ المرام" لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (ص2).
- "شرح بلوغ المرام" لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (ص2).