الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(80) آخر التعليق على حديث واجعل لي نورا كلمة " وسبعا في التابوت "
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2152
مرات الإستماع: 2175

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لا زال الحديثُ -أيّها الأحبّة- مُتَّصلاً بقول النبي ﷺ: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، وعظِّم لي نورًا[1].

يقول في هذه الرِّواية: قال كُريب: "وسبعًا في التَّابوت، فلقيتُ بعض ولد العباس فحدَّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين".

فقوله هنا: قال كُريب: "وسبعًا في التَّابوت"، يعني: لما ذكر هذه الخصال: في قلبي، وفي بصري، وفي سمعي، عن يمني، ويساري، وفوقي، وتحتي، وأمامي، وخلفي، وعظّم لي نورًا، وسبعًا –أي: من الخصال- في التَّابوت. ما المراد بالتَّابوت هنا؟

التَّابوت الأقوال المشهورة فيه ثلاثة، ونُعْرِض عمَّا عداها:

فأول ذلك أنَّ المقصودَ به: الصّدر الذي هو وعاء القلب، فيكون كما يُقال لمن يحفظ العلم: علمه في التَّابوت. يعني: أنَّ علمَه في التَّابوت مُستودع، يعني: محفوظٌ في صدره. وهذا قال به جماعةٌ: كابن بطَّال[2]، والدَّاوودي[3]، ونقله النَّووي[4] -رحمه الله-، وذكر أنَّ المراد سبعُ كلمات في قلبي، يعني: غير المذكورات، ولكن نسيتُها. وبعضُهم على هذا القول: أنَّه شُبّه الصَّدر بالصندوق الذي يُوضَع فيه المتاع.

الثاني: يقول: المقصود بالتَّابوت الصّندوق فعلاً، يعني: أنها مكتوبة في ورقةٍ في كتابٍ، وموضوعة –مُستودعة- في التَّابوت، وُضِعَتْ في صندوقٍ، حُفظت فيه هذه السّبع، في هذا الصّندوق، لم يحفظها في قلبه، وإنما أودعها هذا الصّندوق، أودع فيه الورقة، أو الجلد الذي كُتِبت فيه في هذا الصّندوق.

وهذا قال به ابنُ الجوزي[5]، وحكاه أيضًا بعضُهم عن الدَّاوودي[6]، يعني: في صحيفةٍ في تابوتٍ عند بعض ولد العباس. ويُؤيّد هذا ما جاء في رواية أبي عوانة بسند حديث الباب: قال كُريب: "وستةٌ عندي مكتوبات في التَّابوت"[7]، فهذا يُوضح المراد: أنَّها مكتوبةٌ بصحيفةٍ وُضِعَتْ في هذا الصُّندوق، وليس المقصودُ به القلب.

القول الثالث: هو ما ذكره القرطبي في "الـمُفهم"[8]، وذكره آخرون: بأنَّ المراد بالتَّابوت الجسد، يعني: أنَّ السبع المذكورة تتعلَّق بجسد الإنسان، بخلاف أكثر ما تقدّم فإنَّه يتعلق بغير ذلك من المعاني والجهات، وإن كان السّمع والبصر من الجسد، فذكر في الحديث الجهات السّت، وذكر كذلك السّمع، والبصر، والقلب، فما الذي يبقى؟

يبقى العصب، واللَّحم، والدَّم، والشّعر، والبَشَر. فهذه: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، هذه خمسٌ، قال: "وذكر خصلتين" يعني: نسيها الرَّاوي.

فهنا حينما يقول: "وسبعًا في التَّابوت" أورد في هذه الرِّواية خمسًا منها؛ ما يتعلَّق بالعصب واللَّحم والدَّم والشّعر والبشر، هذه خمسٌ، فتبقى اثنتان، فيكون المجموعُ سبعًا، التي هي في التَّابوت لم يذكرها لكُريب، هنا يقول: "فلقيتُ رجلاً من ولد العباس"، مَن القائل الذي يقول: "فلقيتُ رجلاً من ولد العبَّاس"؟

فحديث مسلم هذا عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباسٍ قال: بتُّ ليلةً. ثم يقول سلمةُ بن كهيل: قال كريب: "وسبعًا في التَّابوت، فلقيتُ". مَن الذي يقول: "لقيتُ"؟ هل هو سلمة بن كُهيل أو كُريب؟

بعضُهم يقول: سلمة. وبعضُهم يقول: كُريب.

ابن بطَّال يقول: ليس القائلُ هو كريبًا، وإنما سلمة بن كُهيل الذي يرويه عن كُريب[9].

والحافظ ابن حجر[10] يقول: هذا يحتمل، مع أنَّ ظاهر رواية أبي حُذيفة أنَّ القائل هو كُريب، وهنا رواية أبي حُذيفة: قال كُريب: "وستةٌ عندي مكتوبات في التَّابوت"، "ستةٌ عندي"، "قال كريب"، فهذا ظاهر هذه الرِّواية.

وأمَّا ولد العبَّاس هذا مَن المقصود به؟

القسّطلاني[11] من شُرَّاح الصَّحيح يقول: هو علي بن عبدالله بن عباس، وهو أحد رواة هذا الحديث كما في بعض طُرقه؛ لأنَّه هو الذي عدَّ له الباقي، يقول: "فلقيتُ بعض ولد العباس، فحدَّثني بهنَّ"، فذكر الخمس، يقول: "وذكر خصلتين" يعني: ذكر له السَّبع، فاستحضر منها خمسًا، ونسي اثنتين، ما هما؟

يقول في هذه الخصال في رواية مسلم، قال في آخرها في إحدى الرِّوايات: "واجعل لي في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا"[12]، فبعض أهل العلم قال: هما الخصلتان الـمُشار إليهما لما قال: "وذكر خصلتين"، ما هما؟

قال: "واجعل لي في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا"، فهذا يدل عليه ظاهر هذه الرِّوايات.

وبعضُهم –كالدَّاوودي- يقول: الخصلتان هما: العظم والمخّ[13].

وبعض الشُّرَّاح -شُرَّاح الصَّحيح كالكرماني- يقول: الشَّحم والعظم[14].

والحافظ ابن حجر[15] -رحمه الله- يستدرك على الكرماني وعلى الدَّاوودي القائل بأنَّه العظم والمخ، والكرماني القائل بأنَّه الشَّحم والعظم، يعني: لا يرى أنَّ ذلك هو المعني.

وأمَّا ابن بطال -وهو أيضًا أحد شُرَّاح الصَّحيح- يقول: "قد وجدتُ الحديثَ من رواية علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه قال. فذكر الحديثَ مُطوَّلاً، وظهرت منه معرفة الخصلتين اللَّتين نسيهما، فإنَّ فيه: "اللهم اجعل في عظامي نورًا، وفي قبري نورًا"[16].

الحافظ ابن حجر يقول: "الأقرب أنَّ المراد: اللِّسان والنَّفس: "في لساني نورًا، وفي نفسي نورًا"، وهما اللَّذان زادهما عُقيل، يعني: أحد رُواة الحديث، عُقيل بن خالد يقول في روايته عند مسلم: وهما من جملة الجسد"[17].

فابن حجر يُشير إلى قول مَن قال بأنَّ التَّابوتَ هو الجسد، يقول: "وينطبق عليه التَّأويل الأخير للتَّابوت"، وبذلك جزم القُرطبي في "المفُهم"[18]، ولا يُنافيه ما عداه، يعني: أنَّ غيره يحتمل.

وعلى كل حالٍ، هذا ما يتَّصل بهذه الرِّواية، وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على هذا الحديث.

أسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، وأن يُفقِّهنا في الدِّين.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (11/117- 118).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  11. انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (7/73).
  12. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
  13. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/118)، و"فتح المنعم شرح صحيح مسلم" (3/556).
  14. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/118)، و"فتح المنعم شرح صحيح مسلم" (3/556).
  15. "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  16. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/118).
  17. انظر: "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" (3/556).
  18. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (2/395).

مواد ذات صلة