الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنُواصل الحديث عمَّا ابتدأناه من الكلام على ما جاء في قراءة آية الكرسي في الصَّباح والمساء، وسبق ذكر بعض الرِّوايات التي فيها خبر الشَّيطان الذي جاء يحثو من الطَّعام عن جماعةٍ من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، وأنَّ هذه الرِّوايات منها ما جاء في حديث أبي هريرة المشهور في الصَّحيح من أنَّه قال له: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آيةَ الكرسي[1]، هذا هو المشهور.
وجاء في روايات أخرى الإطلاق من غير تقييدٍ، وجاء في بعضها أنَّه يقرأ ذلك في الصَّباح والمساء، وجاء في بعضها أنَّه إذا قرأها في بيته فإنَّ ذلك يكون طردًا للشَّيطان من هذا البيت، إلى آخر ما ذكرنا.
وأنَّ حديثَ أبي هريرة جاء في روايةٍ في لفظٍ عند النَّسائي في "السنن الكبرى" بما هو قريبٌ من ذلك السياق الذي أورده البخاري -رحمه الله-، إلا أنَّ فيه ما ذكرتُه من الفروقات؛ من أنَّ النبي ﷺ قال له: تريد أن تأخذه؟، قال: نعم، قال: قل: سبحان مَن سخَّرك لمحمدٍ ﷺ...، إلى أن قال: خلِّ عني. ووعده بأن يذكر له كلمات، قال: إذا قلتهنَّ لم يقربك ذكرٌ ولا أنثى من الجنِّ. قلتُ: وما هؤلاء الكلمات؟ قال: آية الكرسي، اقرأها عند كلِّ صباحٍ ومساءٍ[2].
هذا هو الشَّاهد في الباب، كذلك في حديث أبي أيوب الأنصاري ، وذكرتُ طرفًا من خبره، وفيه: "إني ذاكرةٌ لك شيئًا –يعني: الغول تُخاطبه-، آية الكرسي اقرأها في بيتك؛ فلا يقربك شيطانٌ، ولا غيره"[3]. فهذا عند الترمذي، وقال: "حسنٌ غريبٌ"، وقال عنه الشيخ الألباني: صحيحٌ لغيره[4].
فهذه الرِّوايات أوردها الحافظُ ابن حجر[5] وسكت عنها، وسكوته عنها يدلّ على أنها من قبيل المقبول عنده، فلو صحَّ ذلك –يعني: ما جاء فيه التَّقييد بأنَّه في الصباح والمساء- فعندئذٍ تكون من جملة الأذكار التي تُقال في الصباح والمساء، وإن لم يصحّ ذلك فلا إشكالَ؛ إذ إنَّ آيةَ الكرسي تُقرأ بعد كل صلاةٍ كما مضى: لم يمنعك من دخول الجنَّة إلا الموت[6]. اللهم إلا عند مَن ضعَّف هذا الحديث، هذا الحديثُ فيه كلامٌ معروفٌ، وقد أشرتُ إليه في موضعه.
فالذين يُضعِّفون حديثَ قراءة آية الكرسي بعد كلِّ صلاةٍ هؤلاء هنا لا بدَّ من ثبوت هذا الحديث، أو هذه الرِّواية التي تذكر الصباح والمساء في قراءة آية الكرسي.
كذلك أيضًا عند مَن يُصحح حديث قراءة آية الكرسي دُبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ، المرأة إذا كان عليها العذرُ لا تُصلِّي، فهنا هل تقول ذلك في جملة أذكار الصَّباح والمساء أم لا؟
فإذا صحَّت هذه الرِّوايات التي فيها هذا التَّقييد أو الزِّيادة بذكر الصَّباح والمساء فلا إشكالَ، إذا صحَّت وما يتعلق بالشَّواهد، يعني: حينما يُقال: هذا حسنٌ لغيره، أو صحيحٌ لغيره، باعتبار الشَّواهد، كما في حديث البخاري، لكن ليس فيه هذا التَّقييد بذكر الصَّباح والمساء، فقد يصحّ أصلُ الحديث، أو يُحكم عليه بأنَّه حسنٌ، لكن من غير الزِّيادات التي لا يشهد لها الحديث الآخر، أو الأحاديث الأخرى.
والحديث الأول الذي ذكرناه من حديث أبي بن كعب : "أنَّه كان لهم جرنٌ فيه تمرٌ، وكان أبي يتعاهده، فوجده ينقص فحرسه، فإذا هو بدابَّةٍ تُشبه الغلام المحتلم، فسلمت، فردّ عليها السَّلام، فقال لها: مَن أنتِ: أجنٌّ أم إنسٌ؟ قالت: جنٌّ. قال: فناوليني يدك. فإذا يد كلبٍ، أو قال: فناولني يدك. فإذا يد كلبٍ، وشعر كلبٍ، قال: هكذا خُلق الجنّ؟ قال: لقد علمت الجنّ ما فيهم أشدّ مني ..."[7]، إلى آخر الحديث، وفيه أنَّه قال له هذه الآية -آية الكرسي- دلَّه عليها، يعني لما سأله: ما الذي يمنعنا منكم؟ فما الذي يُجيرنا منكم؟ فذكر آيةَ الكرسي، وليس فيه ذكر الصَّباح والمساء، لكنَّه جاء في بعض الألفاظ.
والجرن هو المكان الذي يُوضَع فيه التَّمر، أو يُجفف فيه التَّمر، والدَّابَّة هنا التي قال: تُشبه الغلام المحتلم، يعني: في قدرها، وحجمها كحجم الغلام البالغ، وأمَّا الإجارة لما سأله: ما الذي يُجيرنا منكم؟ يعني: ما الذي يقينا ويحفظنا منكم؟
فهذه الأحاديث بمجموعها -سواء حديث أبي هريرة الذي في الصَّحيح، أو ما جاء في غيره من الأحاديث- تشتمل على مجموعةٍ من الفوائد، فمن ذلك: ما ذكره الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح"[8] من أنَّ الشيطانَ قد يعلم ما ينتفع به المؤمن، وعلَّمه قراءة آية الكرسي، لكن ذلك لا يُبنى عليه حكمٌ؛ لأنَّه مصدرٌ غير موثوقٍ، وإنما يتلقّى ذلك من الوحي، والشَّيطان هو أكذب الكاذبين، إلا أنَّ النبي ﷺ أقرَّ بذلك فقال: صدقك، وهو كذوبٌ، فصار ذلك إنما يُؤخذ من رسول الله ﷺ، ومن تصديقه، وإذا كان الشيطانُ قد يعلم ما ينتفع به المؤمن؛ فيُؤخذ ذلك لما أقرّ به النبيُّ ﷺ: صدقك، وهو كذوبٌ، فكما قيل: "الحكمة ضالَّة المؤمن"، فإذا وجد الإنسانُ ما ينفعه، لكن يكون ذلك صحيحًا، إذا كان ذلك ثابتًا صحيحًا فإنَّه لا يمنعه سُوء حال الملقي، أو المؤلف، أو مُقدّم هذه الفائدة من أن ينتفع بها.
وهذا ينبغي أن يكون واضحًا لا إشكالَ فيه، فلا يردّ الحقَّ؛ لأنَّ قائلَه حقيرٌ، أو لأنَّ قائله كافرٌ، أو لأنَّ قائله مُبتدعٌ، أو فاسقٌ، أو نحو ذلك، وإنما يقبل الحقَّ ممن جاء به، وهذه الدُّرر واللَّآلئ لم تفقد قيمتَها لمهانة الغوَّاص الذي استخرجها، فالعبرة بما تحمله هذه الجملة، أو الكلمة، أو نحو ذلك من الحقِّ والمعنى الثَّابت الصَّحيح الذي يُنتفع به، يقولون: "اجتَنِ الثِّمار، وألقِ الخشبةَ في النَّار"، ومن الخطأ أن يردّ الصواب لكون قائله بغيضًا، أو نحو ذلك.
ومن الفوائد: أنَّ الحكمةَ قد يتلقَّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتُؤخذ عنه فيُنتفع بها، وأنَّ الشخصَ قد يعلم الشَّيء ولا يعمل به، كما أنَّ الكافرَ أيضًا قد يصدقُك ببعض ما يصدق به أهلُ الإيمان، ولكن ذلك لا يُصيره مؤمنًا.
ومن الفوائد: أنَّ الكاذبَ أو الكذَّابَ قد يصدق، وإن كان هذا خلافَ الأصل، والجنُّ في الجملة الكذب فيهم أكثر، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية[9] -رحمه الله-، وهذا مُشاهَدٌ، ومن الخطأ أن يُوجّه إلى هؤلاء سُؤالات، ثم بعد ذلك يُؤخذ ذلك كأنَّه وحيٌ مُنزلٌ، يسألون عن أحوالهم، أو عن أحوال الإنس، أو عن علل الناس، وما إلى ذلك، فيذكرون أشياء، فيُصدّق ذلك ويُقبل على أنَّه حقٌّ لا مريةَ فيه، فالكذب في هؤلاء أكثر، وإذا كان خبرُ المجهول لا يُقبل فكيف بهؤلاء؟! لأنَّ هذا المتسلِّط على هذا الإنسي المتلبس به هو فاسقٌ بفعله هذا، قد يكون فاجرًا، وقد يكون في أصله كافرًا، ومع ذلك يُصدِّقه مَن يُصدِّقه.
ومن الفوائد أيضًا: أنَّه قد يتصور في بعض الأشكال، تتصور الشَّياطين فتظهر في صور الإنس، أو في صور الحيوانات، كما ذكر ذلك جمعٌ من أهل العلم: كشيخ الإسلام ابن تيمية[10] -رحمه الله- وغيره، قد تظهر على صور الحشرات والزَّواحف، قد تظهر على صور الإبل، والكلاب، والقطط، ونحو هذا، فيتشكَّلون، ويمكن رؤيتهم بهذا الاعتبار، يعني: إذا تشكَّلوا، وإلا ففي أصل خلقتهم، فكما قال الله : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فهذا قال أهلُ العلم بأنَّه مختصٌّ بصورته التي خلقه اللهُ عليها.
ولذلك فإنَّ بعضَ الناس الذين يُخرجون بعض الصُّور الكاذبة؛ يُخرج صورةً مثلاً في غارٍ، أو في كهفٍ مُظلمٍ، ويقولون: صورة التقطت لجنيٍّ، ويأتون بصورةٍ هُلاميةٍ معبوثٍ بها عن طريق هذه البرامج في الفوتوشوب أو غيره، ويُصدِّقها كثيرٌ من الناس، ويُرسلونها: انشر تُؤجر. وهم ينشرون كذبًا وزورًا، هذا لا يمكن أن يُصوّر، ولا يمكن لأحدٍ أن يراه على صورته التي خلقه اللهُ عليها، فهؤلاء يكذبون، ويعبثون بهذه الصُّور، والعبث بالصُّور كثيرٌ، لا تكاد تُصدّق صورةً مما تراه: إمَّا في أصلها قد عبثَ بها، وإمَّا أن تكون منقولةً من شيءٍ آخر، وعُلِّق عليها ووظِّفت في موضوعٍ آخر، يعني: صورة لحدثٍ مُعينٍ تُوظَّف في أمرٍ آخر لا علاقةَ له، ويُقال: انظروا هذا ما حصل في المكان الفلاني. وهذا الكلام غير صحيحٍ، قد يكون هذا حصل في بلدٍ آخر، أو حصل في مناسبةٍ أخرى، قد يكون قبل سنوات، فيتلاعب بعقول الناس، من الخطأ أن يُصدَّق.
في بعض الصُّور التي تُنشر بين حينٍ وآخر قد تُنشر صورة إنسانٍ مزيج في خلقه مع حيوانٍ، أحيانًا ينشرون صورة ذلك مع كلبٍ، أو صورةً مع ضأنٍ، أو نحو هذا، ويقولون: هذا تلقيحٌ، عمل تلقيحٍ في الحيوان المنوي من هذا الحيوان لبُويضة امرأةٍ، وهذا كذبٌ؛ لأنَّه من الناحية العلمية ومما يعرفه الأطبَّاء أنَّه لا يمكن تلقيح بويضة المرأة بحيوانٍ منويٍّ من شيءٍ من الحيوانات مثلاً، أو العكس، لا يحصل هذا، ولا يخلق، فيأتون بصورة مزيجٍ في هيئته وتركيبه وشكله، ويداه كأنَّه مخلوطٌ بين يد إنسانٍ ويد كلبٍ، صورة قبيحة، مُقززة، ويقولون: هذا نتيجة لتلقيحٍ حصل، وجاء من هذا المولود المسخ.
فهذا كلّه غير صحيحٍ، فلا تُصدّق مثل هذه الأشياء، ولا تُسارع بنشرها، وهؤلاء لا يتورعون، ولا يتَّقون الله بهذا الكذب الذي ينشرونه في النَّاس.
كذلك أيضًا مما دلَّ عليه هذا الحديث من الفوائد: أنَّ الجنَّ يأكلون من طعام الإنس، وكذلك أيضًا أنَّهم قد يتكلمون أيضًا، ويسمع كلامهم بكلام الإنس المعروف، وأنهم يسرقون، ويخدعون، فهذا جاء يحثو من الطَّعام، وقد يسرقون من متاع الناس، ومن حُليِّهم.
وقد ذكر شيخُ الإسلام[11] -رحمه الله- وغيرُه فيما يفعله الجنّ والشَّياطين من التَّلاعب بأوليائهم من الإنس: أنهم قد يسرقون لهم الحُلي والمال، ونحو ذلك، ويأتونهم به، فهؤلاء قد يُزاولون هذه الأعمال المحرّمة، ولا يتورَّعون منها.
كذلك أيضًا في هذا -كما هو ظاهرٌ- فضل آية الكرسي، وفضل آخر آيتين من سورة البقرة، كما جاء في بعض الرِّوايات، وأنَّ الجنَّ يُصيبون من الطَّعام الذي لا يُذكر اسم الله عليه.
كذلك أيضًا فيه السَّتر على مَن يُظنّ به الصِّدق، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- أيضًا يُطلع نبيَّه ﷺ على أمورٍ لا يُطلع عليها الناس، يُوحي إليه بذلك، فالنبي ﷺ قال له: ما فعل أسيرك؟، هو بادره بهذا، وأخبره أيضًا أنَّه سيعود، ثم أخبره أنَّه شيطانٌ.
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية[12] -رحمه الله-: بأنَّ الجنَّ يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيَّات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والبغال، والحمار، وفي صور الطَّير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطانُ قريشًا في صورة سُراقة بن مالك، لما أرادوا الخروجَ إلى بدرٍ، قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48].
وكذلك أيضًا كما تصور في صورة ذلك الشيخ لما اجتمعوا بدار النَّدوة، كأنَّه بهيئة شيخٍ من نجدٍ، ولما تشاوروا في قتل النبي ﷺ، أو في حبسه، أو في إخراجه.
وكذلك ذكر أيضًا في كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان": أنَّ آيةَ الكرسي إذا قرأها الإنسانُ عند الأحوال الشَّيطانية بصدقٍ أبطلتها، قال: "مثل مَن يدخل النارَ بحالٍ شيطانيٍّ، أو يحضر سماع المكاء والتَّصدية؛ فتنزل عليه الشياطين تتكلم على لسانه كلامًا لا يُعلم، وربما لا يُفقه"[13]، يعني: مثل هؤلاء الذين يظهرون في السِّرك وما يُسمَّى بالبهلوانيين، ونحو ذلك مَن يظهرون بأعمالٍ: يُدخل السيفَ من جهةٍ فيخرج من الجهة الأخرى، أو يسحب السيارةَ بأسنانه، أو ينام على المسامير، أو تمشي السيارةُ على جسمه، أو على طفله، ولا يتضرر، أو يأكل النار، أو تخرج النارُ من فمه، أو يُمسك الحيَّات ويأكلها، ويقضمها، ويُدخل يدَه فيها، ويجلس بين مجمعٍ من الحيَّات كثيرٌ، ويأخذ ما شاء، وكلَّما أرادت الواحدةُ أن تنهشه توقَّفت وتعطَّلت، كلّ هذه أحوال شياطين.
ولو أنَّ هذا الذي يجلس بين الحيَّات، أو يقضم الحيَّة، أو يهمّ بقضمها، أو يُريد أن يُدخل يدَه في الكيس الذي فيه هذه الحيَّة ويُخرجها كأنما أخرج حبلاً يلعب به، لو قُرئت عليه آيةُ الكرسي لبطل سعيُه، ولنهشته هذه الحيَّات جميعًا بلا مُواربةٍ.
وكذلك هذا الذي يأكل النَّار، أو يمشي على النَّار، ويدَّعون أنها تدريبات وتمارين يتلقّونها، أو نحو ذلك مما يكذبون به.
وقد ذكرتُ لكم في بعض المناسبات أنَّ هؤلاء قيل لهم ذلك، يعني: أنا طلبتُ من بعض هؤلاء، قلتُ: تقولون: تحملون الإنسان بأصبعين بعدما تعملون فوق رأسه حركات هكذا، وتقولون: الطَّاقة. احملوني، اجتمعوا جميعًا واحملوني، فما استطاعوا، بعدما حملوا أناسًا أمامي بأصبعين، يقف واحدٌ من هنا، وواحدٌ من هنا ويحملونه، قلتُ أنا: احملوني الآن. فما استطاعوا.
وأحد طلبة العلم رأى مَن يُخرج النار من فمه في بعض البلاد، فقرأ عليهم آيةَ الكرسي دون أن يشعروا، فتوقَّف كلُّ شيءٍ، فجعل يقرأها حتى تعطل ذلك كلّه، حتى ابتعد وهو يقرأها، فلمَّا صار إلى مكانٍ بعيدٍ قال: وتركتُ النار؛ فخرجت النارُ من فمه، نار عظيمة تخرج من فم إنسانٍ، كيف هذا؟!
هذا فعل الشَّياطين، هؤلاء الذين يدخلون في النار ولا يحترقون، هذا كلّه من هذا القبيل، الذي يضرب بالسِّلاح، بالرصاص، ولا يُؤثر فيه، ويقولون: كرامات. الكرامات لا تكون بهذه الطَّريقة، فالأولياء لا يطلبون الكرامات، ولا يتصنَّعونها، وإنما يُجريها الله -عزَّ وجلَّ- على أيديهم، فهذا الذي يجلس يستعرض أمام الناس، ويقول: اضربوني بالسَّكاكين والرَّصاص ونحو ذلك. ولا يتضرر، هذا تتلبَّس به الشياطين، وتحجزه عن هذا كلِّه، ولو قُرئت عليه آيةُ الكرسي وهو يُضرب بالرصاص لرأيتُم كيف تصير حاله، والله المستعان.
فهنا شيخُ الإسلام ذكر هذه المعاني، وذكر أيضًا في "مجموع الفتاوى" قال: "وقد جرَّب المجرِّبون الذين لا يُحصون كثرةً أنَّ لها –يعني: آيةَ الكرسي- من التَّأثير في دفع الشَّياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوَّته"[14]؛ فإنَّ لها تأثيرًا عظيمًا في دفع الشَّيطان عن نفس الإنسان، وعن المصروع، وعمَّن تُعينه الشَّياطين، مثل: أهل الظُّلم، والغضب، وأهل الشَّهوة، والطَّرب، يعني: الذي يُقال في زارٍ إذا سمع الطَّربَ والضَّرب بالطبول، ونحو ذلك؛ تنزَّل عليه الشيطانُ، وصار فيه من القوة والنَّشاط .. إلى آخره، والأحوال الغريبة العجيبة التي لا تصدر عن إنسانٍ، هذا لو قُرئت عليه آيةُ الكرسي لتلبَّط.
ويقول: "وأرباب السَّماع -سماع المكاء والتَّصدية- إذا قُرئت عليهم بصدقٍ دفعت الشَّياطين، وبطلت الأمور التي يُخيلها الشَّيطان، ويبطل ما عند إخوان الشَّياطين من مُكاشفةٍ شيطانيةٍ"[15]، وتصرُّفٍ شيطاني، إذا كانت الشياطينُ يُوحون إلى أوليائهم بأمورٍ يظنّها الجهَّال من كرامات الله .
فهذا الحديث يدلّ على عِظم هذه الآية وفضلها، وشدّة أثرها، وعظيم نفعها، فهي حرزٌ من الشيطان، ووقايةٌ من شرِّه، وفيها من توحيد الله -تبارك وتعالى- وتمجيده وتعظيمه أمورٌ كثيرةٌ سبق الكلامُ عليها في الكلام على آية الكرسي، فلا أطول بذكرها، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري: كتاب الوكالة، باب إذا وكّل رجلًا، فترك الوكيلُ شيئًا، فأجازه الموكّل، فهو جائزٌ، وإن أقرضه إلى أجلٍ مُسمًّى جاز، برقم (2311)، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3275)، وكتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، برقم (5010).
- أخرجه النَّسائي في "الكبرى"، برقم (7963).
- أخرجه الترمذي: أبواب فضائل القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، برقم (2880).
- "التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" (2/182)، برقم (781).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/159).
- أخرجه النَّسائي في "الكبرى" من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، برقم (9848)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6464).
- أخرجه النَّسائي في "الكبرى"، برقم (10730)، وذكره الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (3245).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/489)، وما بعدها.
- انظر: "مجموع الفتاوى" (1/249).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (19/44).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (1/174)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/489).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (19/44).
- "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (ص170).
- "مجموع الفتاوى" (19/55).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (19/55).