الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث عن الأذكار التي تُقال في الصباح والمساء، فمن ذلك: ما جاء عن أنسٍ قال: قال النبي ﷺ لفاطمة -رضي الله عنها-: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به؟ أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ.
هذا الحديث أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"[1]، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"[2]، وغير هؤلاء.
وقد قال عنه البزارُ -وهو ممن أخرجه-: لا نعلمه يُروى عن أنسٍ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد[3].
وقال الطَّبراني: لا يُروى هذا الحديثُ عن أنسٍ إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به نصر بن عليّ[4].
وقال الهيثمي: فيه سلمة بن حرب بن زياد الكلابي، عن أبي مدرك، عن أنسٍ[5].
وذكر الذَّهبي سلمة هذا في "ميزان الاعتدال"، وقال: "مجهولٌ كشيخه"[6]، أي: أبي مدرك، وقد وثَّق ابنُ حبان سلمة[7].
والحديث -على كل حالٍ- قال عنه المنذري: إسناده صحيحٌ[8]. وقال الشيخ ناصر الدِّين الألباني: إسناده حسنٌ[9]. -رحم الله الجميع.
وهناك حديثٌ قريبٌ من هذا اللَّفظ، وهو عن أنسٍ أيضًا -رضي الله تعالى عنه-، لكن ليس في أذكار الصَّباح والمساء، وإنما في الكرب، فهو بلفظٍ مُوجَزٍ مُختصرٍ، وليس كهذا اللَّفظ: يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث.
وقوله هنا ﷺ لفاطمة -رضي الله عنها-: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به؟ هذا فيه تحفيزٌ للسَّامع، وتنشيطٌ له، من أجل أن يستمع، وأن يقبل ما يُلقى إليه: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به؟، وليس هنا ما يمنعها -رضي الله عنها-، بل هي في غاية القبول.
والوصية: هي ما يُطلب من الإنسان فعله أو تركه، مع التَّأكيد عليه بالفعل أو الترك، يعني: بالامتثال، هذه هي الوصية، فالأمر والنَّهي المقرون بالتأكيد يُقال له: وصية، والأمر الذي يكون معه ما يدفع على الفعل والامتثال يكون ترغيبًا، وما يكون فيه الزجر عن الفعل يكون ترهيبًا، لكن الوصية هي الأمر أو النَّهي المؤكد.
فهنا: أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ.
وتكلمنا على (الحيّ، القيّوم) في الأسماء الحسنى، وكذلك أيضًا في مناسباتٍ مضت: منها الكلام على آية الكرسي، وقلنا: إنَّ (الحيَّ) هو ذو الحياة الكاملة من كل وجهٍ، ليست مسبوقةً بعدمٍ، ولا يلحقها عدمٌ، ولا يعتريها نقصٌ، وأنَّ النوم نقصٌ، والهمّ والغمّ والحزن والمرض كلّ ذلك نقصٌ في الحياة، فالله له الحياة الكاملة.
وهو (القيّوم)، وقلنا: إنَّ (القيوم) هو القائم بنفسه، القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، فهو قائمٌ بنفسه، مُقيمٌ لغيره، لا قيامَ لهم إلا به، فلو تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ لكان ذلك هلاكًا مُحقَّقًا لهم.
فحينما يتوسّل الدَّاعي بهذين الاسمين، ويدعو بهما: يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث ففيه استغاثةٌ بالرحمة، وهي صفةٌ من صفات الله ، وأوصافه تابعةٌ لذاته، فهي غير مخلوقةٍ، فيجوز الاستغاثة بالصِّفة، والاستعاذة بها: أعوذ بعظمتك، وأعوذ بنور وجهك، وأعوذ بعزَّة الله وقُدرته. هذا في الاستعاذة، لكن في السُّؤال والدُّعاء والطَّلب: لا يصحّ سؤال الصِّفة استقلالاً؛ لأنَّ الصِّفات مُلازمة للذات، فلا يقول: يا رحمةَ الله، ولا: يا عزةَ الله، أعزيني، ولا: يا قوّة الله، انصريني. وإنما يقول: يا الله، يا قوي، انصرني. فالصِّفة لا تُدْعَى، وإنما الذي يُدْعَى الموصوف، يُدْعَى بهذه الأسماء المتضمنة لهذه الأوصاف الكاملة في كل مقامٍ بما يُناسبه، وبما يصلح لمثله.
فهنا يقول: يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث فهذه الرحمة صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، وهي مُتعلَّق الاستغاثة هنا، ولا يكون ذلك بمخلوقٍ بحالٍ من الأحوال، فهو يتوسّل إلى الله -تبارك وتعالى- بحياته وقيّوميته، ويستغيث برحمته.
وهذان الاسمان: (الحيّ، القيّوم) إليهما يرجع عامَّة الأسماء الحسنى، بل قال بعضُ أهل العلم: يرجع إليهما جميع الأسماء الحسنى؛ لأنَّ مَن له الحياة الكاملة، والقيّومية الكاملة، ينبغي أن يكون هو الإله، الربّ، الخالق، الرازق، القادر، المحيي، المميت، إلى غير ذلك.
ومن هنا قال بعضُ أهل العلم -وهو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله-: بأنَّ (الحيَّ، القيّوم) هما الاسم الأعظم[10].
وذكرنا في مناسباتٍ مُتعددة: أنَّ هذا من أقوى الأقوال، وهو يلي القول بأنَّ الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة (الله)، وأنَّ هذا عليه الجمهور، وأنَّ دلائله أكثر وأوضح، ثم يلي ذلك في القوّة: (الحيّ، القيّوم)، فابن القيم -رحمه الله- يرى أنَّ الاسم الأعظم هو (الحيّ، القيّوم)، وهذا سبقه إليه جمعٌ من أهل العلم: كالإمام النَّووي -رحم الله الجميع.
وذلك -كما سبق- أنَّ صفةَ الحياة والقيّومية ترجع إليهما الصِّفات؛ فصفة الحياة يقولون: ترجع إليها جميع صفات الأفعال، وهذا يذكره مثل الحافظ ابن القيّم -رحمه الله-، وأنَّ الحياةَ الكاملةَ تُضاد جميع الأسقام والآلام؛ ولهذا كملت حياة أهل الجنَّة؛ حيث لا همَّ، ولا غمَّ، ولا مرضَ، ولا حزن، ولا غير ذلك من الآفات، بخلاف حياتنا في هذه الدَّار، ونقص الحياة لا شكَّ أنه يُنافي أيضًا القيومية[11]، فهناك مُلازمة بين الحياة والقيّومية؛ فإنَّ كمال القيومية يكون بكمال الحياة؛ لأنَّه لا يكون قائمًا بنفسه من كل وجهٍ، وهو المقيم لغيره بأرزاقهم، وأقواتهم، ومعايشهم، وأحوالهم، وأعمالهم، يقوم عليها بها، إلا مَن كانت حياتُه كاملةً، فالذي ينام مثلاً هذا نقصٌ في الحياة، لا يمكن أن يُدبّر أمر الخلائق ومعايشهم، ومَن كان يعتريه المرضُ أو العجزُ، أو نحو ذلك، فهذا لا يكون كذلك، فالحيّ المطلق التَّام الحيَّاة لا تفوته صفةٌ من صفات الكمال ألبتة، والقيّوم لا يتعذَّر عليه فعلٌ من الأفعال، فالتَّوسل بصفة الحياة والقيومية هنا في غاية المناسبة.
وجاءت الاستغاثة هنا بالرحمة، فإذا وُجدت الحياةُ الكاملة والقيومية مع الرحمة التي يُستغاث بها، وهي التي تصل بها ألطاف الله إلى المخلوقين، وهذا المتوسّل والدَّاعي في هذا المقام يقول: برحمتك أستغيث، يطلب الغوثَ من الله -تبارك وتعالى-، مُتوسِّلاً برحمته التي تصل بها الألطاف الربانية إلى الخلق.
أصلح لي شأني كلّه هذا من جوامع الكلم، فإذا تحقق للعبد ذلك أصلح الله له شأنه كلّه، فهذا ينتظم أمور الدنيا والآخرة؛ أصلح الله له شأنَه في صلته بربه -تبارك وتعالى-، وصارت علاقتُه بالله على أحسن الأحوال وأكملها، لا يحصل له ضلالٌ وانحرافٌ وزيغٌ وإغواءٌ من الشَّيطان، وتسلّط الشيطان عليه، فكل ذلك ينتفي عنه، وتنتفي من قلبه الخواطر والوساوس والأوهام، وتنتفي عنه العلل والأوصاب، وينتفي عنه أيضًا ما يتعلق بالمكدّرات والمنغّصات التي لا تخلو منها هذه الحياة: مما يتعلق بعلاقته مع الآخرين، وعلاقته بأهله، ووالديه، وأولاده، وزوجته، وإخوانه، وقراباته، وجيرانه، ومع مَن يُزاول أعمالاً معه، كل هؤلاء تكون أحواله وصلته معهم على الوجه المرضي.
أصلح لي شأني كلّه الإنسان إذا تُرِكَ وتخلَّى الله عنه؛ بدأ التَّمزق ينتابه من كل ناحيةٍ، فتبدأ العلاقات تسوء مع الزوجة، ومع الأقارب، وتصير علاقته سيئةً مع إخوانه، ومع جيرانه وزُملائه في العمل، ومع مَن تحت يده، وما إلى ذلك، فتبدأ هذه العلاقات تتفكَّك؛ هنا مشكلة، وهنا مشكلة، وعلاقاته ومصالحه التِّجارية الوظيفية، وما إلى ذلك، فهو بحاجةٍ إلى مثل هذه الألطاف الربانية التي تصل إليه من طريق رحمة الله -تبارك وتعالى-.
فالله هو الحيّ الذي يقوم بنفسه، ويُقيم هؤلاء الخلائق، ويقوم عليهم بأرزاقهم ومعايشهم، فالعبدُ لا يستغني عن ربِّه طرفةَ عينٍ، فهو بحاجةٍ إلى أن يُصلح له شأنه كلّه، فتصلح له أعماله، وأقواله، وعلائقه بربِّه وبالخلق.
ولا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ ولاحظ هنا الخروج من الحول والطَّول والقوّة، والنَّظر إلى النَّفس، فمن الناس مَن يعتقد أنَّه يملك مهارات وقُدرات على التَّواصل والاتِّصال بالآخرين، وأنَّه يملك شخصيةً جاذبةً وقادرةً على تفكيك المشكلات وحلّها، وشخصية مُؤثّرة، فيعتقد أنَّه يستطيع الإقناع والتَّخلص من المواقف الصَّعبة، وأنه يملك مهارات، ولربما كان يُدرب الآخرين، ويُقدّم لهم الدَّورات في هذه الأشياء.
فينبغي للعبد ألا يلتفت إلى شيءٍ من ذلك، ويعرف أنَّ الله إذا تخلَّى عنه فإنَّه يضيع، هذا في صلته بالله ، ينبغي أن يكون ذلك نصب عينيه، وأن يكون ذلك حاضرًا في قلبه، وأنَّ هذه العبادات التي يقوم بها، والأعمال الصَّالحة إنما هي توفيقٌ من الله ، ولو تخلَّى اللهُ عنه لضاع:
لو شاء رَبّك كنت أَيْضًا مثله | فالقلب بَين أَصَابِع الرَّحْمَن[12] |
وفي الحديث: إنَّ قلوبَ بني آدم كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ، يصرفه حيث يشاء[13]، فالعبد بحاجةٍ إلى هداية الله ، وهو بحاجةٍ إلى تثبيتٍ، فلا يُوكل إلى نفسه طرفةَ عينٍ، وكذلك في أموره الأخرى من مكاسبه ومعايشه، وما إلى ذلك، فلا يقول هذا الإنسان: والله أنا عندي قُدرات وخبرات ودراسات في ألوان الكسب، وتحصيل المال، أو غير ذلك، فإنَّ ذلك ليس بنافعٍ له طرفةَ عينٍ، فإذا تخلَّى اللهُ عنه طرفةَ عينٍ أو أقلّ من ذلك -وطرفة العين هي حركة العين، وهو شيءٌ يسيرٌ- لكان الهلاك المحقق.
وإذا أردتَ أن تعرف قدر طرفة العين هذه يمكن أن تنظر فقط في جانبٍ من الجوانب، وهي الجلطة، في لحظةٍ يتجمّد هذا الدَّم في عرقٍ، ثم بعد ذلك تتلاشى كلّ هذه القُدرات والإمكانات العقلية والبدنية، فيُصبح هذا الإنسان القوي المفتول العضلات الذي يهزّ الأرض إذا مشى، في لحظةٍ ينتهي كل شيءٍ، فالخلق ضُعفاء.
إذًا لا ينبغي أن نلتفت إلى قوّتنا وقُدراتنا، لا قوةَ بدنية، ولا قُدرات عقلية، ولا ما يتَّصل بالعبادة، فيعتقد الإنسانُ أنَّه واثقٌ كل الثِّقة من عمله وعباداته، وأنَّ عنده من الصبر واليقين والثَّبات، وما إلى ذلك، ما لا يخاف عليه من الفتن مثلاً، فيتخلّى عن هذا كلِّه.
فإذا كان يقول ذلك حينما يُصبح، وحينما يُمسي، فهنا لا يمكن للعبد أن يتسلل إلى قلبه العجبُ، ولا الغرور، ولا يمكن أن يتسلل إلى قلبه شيءٌ من الأدواء: كالالتفات إلى النَّفس، وقوَّتها، وقدرها، وإمكاناتها، وإنما يكون في غاية الإخبات لله ، والتَّواضع للخلق؛ لأنَّه بهذه المثابة يستغيث برحمة الله صباح مساء: أن يُصلح له شأنه كلّه، وألا يكله إلى نفسه طرفةَ عينٍ.
أسأل الله أن يُصلح لنا شأننا كلّه، دقّه وجلّه، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، ولا أقلّ من ذلك. اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه النَّسائي في "الكبرى" فيما يقول إذا أمسى، برقم (10405)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" برقم (10759).
- أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" برقم (2000)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يُخرجاه".
- "مسند البزار = البحر الزخار" (13/49).
- "المعجم الصغير" للطبراني (1/270) (444).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/180).
- "ميزان الاعتدال" (2/189).
- "الثقات" لابن حبان (6/398).
- "الترغيب والترهيب" للمنذري، ت: عمارة (1/457).
- "صحيح وضعيف الجامع الصغير" (22/259).
- "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/446).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/187).
- "توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية = نونية ابن القيم" (1/131).
- أخرجه مسلم: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، برقم (2654).