الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(265) دعاء الغضب
تاريخ النشر: ٢٤ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 1893
مرات الإستماع: 1563

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب "دعاء الغضب"، وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن سليمان بن صُرد قال: استبَّ رجلانِ عند النبي ﷺ ونحن جلوسٌ، أو ونحن عنده جلوسٌ، وأحدهما يسبّ صاحبَه مُغْضَبًا، قد احمرَّ وجهه، فقال النبيُّ ﷺ: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبيُّ ﷺ؟ قال: إني لستُ بمجنونٍ[1].

وفي روايةٍ: استبَّ رجلانِ عند النبي ﷺ، فغضب أحدُهما، فاشتدَّ غضبُه حتى انتفخ وجهه وتغيّر، فقال النبيُّ ﷺ: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه الذي يجد، فانطلق إليه الرجلُ فأخبره بقول النبي ﷺ، وقال: تعوّذ بالله من الشَّيطان، فقال: أتُرى بي بأس؟! أمجنونٌ أنا؟! اذهب[2]. رواه البخاري ومسلم.

قوله: "استبَّ رجلان" يعني: شتم أحدُهما الآخر، "استبَّ رجلان" افتعالٌ من السَّب، تبادلوا السَّبَّ والشتم.

يقول: "كنتُ جالسًا مع النبي ﷺ"، وفي لفظٍ: "ورجلانِ يستبّان"[3].

والمراد بقوله: "عند النبي ﷺ" أي: بمحضرٍ منه، "ونحن عنده جلوسٌ، وأحدهما يسبّ صاحبَه مُغضبًا، قد احمرَّ وجهه" يعني: من شدّة الغضب؛ لأنَّ الغضبَ يُثير في القلب حرارةً عظيمةً، فينبعث الدَّم، ويكون ذلك في الوجه أظهر.

والعلماء -رحمهم الله- يقولون: لأنَّ الوجه ألطف وأقرب إلى القلب، فهو مرآة ما يكون في القلب، فما يعتلج في القلب من الحياء، أو الخوف، أو الحزن، أو الغضب، أو نحو ذلك، يظهر في وجه صاحبه، وينتشر ذلك أيضًا في الأعضاء؛ فيكون لديه من التَّوثب، والهمّة بالبطش والفتك، وما إلى ذلك مما هو معلومٌ، فهذا أثر الغضب: "احمرَّ وجهه"، وفي روايةٍ عند مسلم: "فجعل أحدُهما تحمرّ عيناه، وتنتفخ أوداجه"[4]، والأوداج معروفة، للإنسان ودجان عن يمين العنق، وعن يساره، فإذا غضب ظهرت كالحبال، هذا حديث سليمان بن صُرد.

وجاء نحوه عن معاذ بن جبلٍ عند الإمام أحمد، وأخرجه أيضًا أصحاب السُّنن، وفيه: "حتى إنَّه ليُخيل إليَّ أنَّ أنفَه ليتمزّع من الغضب"[5] -نسأل الله العافية-، يعني: ظهر عليه ذلك ظهورًا بيِّنًا.

فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه الذي يجد، وفي الرِّواية الأخرى: لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فهذه تُفسر الكلمة المقصودة، والكلمة كما مضى في بعض المناسبات أنَّه قد يُقصد بها الجملة، وقد يُقصد بها ما هو أوسع من ذلك، فالخطبة يُقال لها: كلمة.

وهنا في رواية البخاري أيضًا: لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم[6]، وفي حديث معاذ: إني لأعلم كلمةً لو يقولها هذا الغضبانُ لذهب عنه الغضبُ: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرَّجيم[7]، فدلّ ذلك على أنَّه لو قال: "أعوذ بالله من الشيطان" حصل المقصود، فإن زاد فهو أكمل، كأن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"؛ أخذًا بأوفى الرِّوايات.

ولو قال: "اللهم"، يعني: يا الله، "إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم"؛ فهذا أبلغ.

فالمقصود أنَّه لو قالها لذهب عنه هذا، يعني: زال الغضبُ، ذهب عنه ما يجده من الغضب، فهذه الكلمة تُطفئ الغضبَ، ظاهر ذلك أنها تُطفئه مباشرةً؛ لأنَّ الغضبَ من الشيطان، والشيطان لا يمكن للإنسان أن يراه، أو أن يتعامل معه بغير الاستعاذة، والله يقول: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]، يسمع استعاذةَ المستعيذ، ويعلم حاله، ويعلم وسوسة الشَّيطان، ونزغه، وتسويله، وتزيينه، وما يفعله في القلوب.

والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فهنا يتذكَّرون، يعني: ما أمرهم به -تبارك وتعالى-، وما نهاهم عنه: فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لطريق السَّداد، يدفعون بذلك تلك الوساوس والخواطر السَّيئة، فلا يتجارى معهم الشيطان ويتلاعب بهم كما يفعل بأوليائه؛ ولهذا قال الله : وَإِخْوَانُهُمْ يعني: إخوان الشَّياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، فهو مُسترسلٌ معه إلى آخر رمقٍ في حياته، لا يرعوي.

قالوا للرجل: "ألا تسمع ما يقول النبيُّ ﷺ؟!" يعني: فتمتثل، في الرِّواية الأخرى: "فانطلق إليه الرجلُ"[8]. وعند مسلم: "فقام إلى الرجل رجلٌ ممن سمع النبيَّ ﷺ"[9]، يعني: كأنَّ النبي ﷺ ما أمرهم، لكن قال ذلك؛ فسمعه رجلٌ؛ فقام إليه، وقال له ذلك.

وفي الرواية الأخرى: "فقالوا له"، هذا يدلّ على أنَّ الذي قال له واحدٌ، فنُسب ذلك إليهم؛ لأنَّه واحدٌ منهم.

وجاء في بعض الرِّوايات أنَّ الذي قام إليه هو معاذ بن جبل، كما عند أبي داود[10]، قال: "فجعل معاذٌ يأمره، فأبى، وضحك، وجعل يزداد غضبًا" -نسأل الله العافية-، يعني: ما الذي يضرّه لو أنَّه استعاذ؟! فجعل يضحك، ويتكلم بمثل هذه العبارات، يقول: "إني لستُ بمجنونٍ"، يعني: كأنَّه توهم أنَّ الاستعاذة مخصوصةٌ بالجنون، وأنَّ المجنونَ هو الذي يقول ذلك، وما علم أنَّ الغضبَ من نزغات الشَّيطان؛ فيُخرج الإنسان عن حدِّ الاعتدال، ويُوقعه فيما لا يليق من المقال والفِعال، فيتكلم بالباطل، لربما تكلّم بالكفر، ولربما نسب إلى نفسه الردّة، ولربما سبَّ الله، وسبَّ رسول الله ﷺ، ولربما طلَّق امرأته، أو قتل، أو فتك، فهذا كلّه مما يُوقعه فيه الشَّيطان.

وفي بعض الرِّوايات: "فانطلق إليه رجلٌ، فقال له: تعوّذ بالله من الشَّيطان الرجيم، فقال: أترى بي بأسًا؟! أمجنونٌ أنا؟! اذهب"[11]، فهذا كلّه من آثار الغضب.

من آثار الغضب: أنَّ الإنسان لا يستجيب -نسأل الله العافية-، ويبقى في حالٍ من العتو واللِّجاج، قال: "إني لستُ بمجنونٍ، أتُرى بي بأس؟!" يعني: أتظنّ؟ هكذا: "أتُرى بي بأس؟!"[12]، وفي الرِّواية الأخرى: "أتَرى بي بأسًا؟!"[13]، قال: "اذهب"، هو يُخاطب الرجل، يعني: امضِ في سبيلك، يزجره حينما نصحه.

والمقصود أنَّ النبي ﷺ علَّم الأمّة هذا الدَّواء والعلاج الذي يُعالج به من الغضب، وكان النبي ﷺ يأمر مَن غضب بتعاطي الأسباب التي تدفع عنه هذا الغضب، وتُسكنه، ويمدح مَن ملك نفسَه عند الغضب، لما قال: ليس الشديدُ بالصّرعة، إنما الشَّديد الذي يملك نفسَه عند الغضب[14]، فليست الشّدة والقوة بعضلات مفتولة، وجسدٍ قويٍّ، ولكنَّ هذا عقلٌ ضعيفٌ، كما قيل:

لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير[15]

فيكون الإنسانُ في حال الغضب تتجارى به نزغات الشَّيطان، وتقوده إلى حتوفه ومعاطبه، هذا ليس بشديدٍ، فيفعل ما يفعل السُّفهاء، ولربما يجني على نفسه، ويجني على أهله، ولربما جنى على أقرب الناس إليه بسبب الغضب، ثم إذا ذهب عنه هذا الغضبُ ندم، وبدأ يُراجع، ويبحث عن المخرج، ولربما فاته ذلك، فقد وقع منه ما وقع، وأقلّ ذلك الكلام، والكلمة إذا خرجت فهي كالسَّهم يُصيب لربما في مقتلٍ، ولكن لا يستطيع الإنسانُ أن يستدرك.

فكما يقول شيخُ الإسلام في "درء التعارض": بأنَّ الله -تبارك وتعالى- أمر بالاستعاذة من الشيطان عند القراءة، وعند الغضب؛ ليصرف عنه شرّه عند وجود سبب الخير، وهو القراءة[16]، القراءة يحصل بها التَّدبر، والتَّفكر، والاعتبار، والامتثال، والانتفاع، والهداية، فيأتي الشيطانُ ويُشوش عليه، ويصرف عنه ما يمنع هذا الخير عند وجود سبب الشَّر.

كذلك أيضًا ليمنع ذلك السَّبب الذي يُحدثه عن وجود دواعيه، فهنا يُؤمر بالاستعاذة حال الغضب؛ ليدفع عنه الشَّر، وأسباب الشَّر، وعند القراءة؛ ليحصل ويستجمع أسباب الخير، فلا يُضيع ذلك عليه الشَّيطان.

وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الغضبَ إنما هو مُسبَّبٌ عن الشيطان، جمرة يُلقيها الشيطانُ في قلب العبد؛ فيفور القلبُ، ويشتدّ الغضب؛ ولهذا كانت الاستعاذةُ مذهبةً له، فمَن غضب في غير حقٍّ، ولا موعظةٍ؛ فليعلم، يعني: بغير حقٍّ، النبي ﷺ كان إذا خطب احمرَّ وجهه، وارتفع صوتُه، هذا لا إشكالَ فيه بالنسبة للخطبة، وفي الموعظة، ونحو ذلك، في حقٍّ، يغضب لله -تبارك وتعالى-، أمَّا ما عدا هذا فإنَّ ذلك من الشيطان، وهو الذي يتلاعب به، وليعلم العبدُ أنَّ ذلك من دواعيه، ومن ثم إذا تذكّر هذه المعاني فإنَّ نفسَه تنصرف عن الغضب، يعلم أنَّ هذا من نزغ الشيطان، إذًا لماذا أستجيب لداعي الشيطان؟ فكل مَن يودّ ألا يصير في يد الشيطان، يتلاعب به؛ عليه أن ينصرف عن الغضب ودواعيه.

ولذلك يُقال: بأنَّ هذا الغضبَ قد يكون جبلةً في الإنسان، يعني: قد يكون الإنسانُ حممةً، شديد الغضب، هكذا جُبِلَ، وهكذا خُلق، ولربما يكون ذلك في أهل بيتٍ عُرفوا بهذا، ولربما عرف ذلك بالقبيلة، أو الفخذ، أو القرابات، ونحو هذا، لكن مثل هذا يحتاج إلى مجاهدةٍ، والنبي ﷺ يقول: إنما العلمُ بالتَّعلم، وإنما الحلم بالتَّحلُّم[17]، فالحلم هو الذي يُقابل الغضب، ويُعلّم الإنسان، كما قيل:

ليست الأحلامُ في حال الرِّضا إنما الأحلام في حال الغضب[18]

فلا يكون الإنسانُ في حال الانبساط، والأُنس، والابتسامات، ونحو ذلك، حينما لا يُستفزّ، وإنما يُكرم، فليس هذا هو المعيار، المعيار حينما يُستفزّ؛ فيظهر هنا حاله وحقيقته، وما كانت عليه نفسُه، وتربيته، ونحو هذا.

فالمقصود أنَّ مثل هذه الدَّواعي قد تكون جبلةً في الإنسان، وقد يكون الحلمُ جبلةً فيه، لا يكاد يغضب، وليس المقصود أنَّ الإنسان لا يغضب مطلقًا، فإنَّ هذا ذمٌّ وعيبٌ، والله -تبارك وتعالى- الذي له صفات الكمال، من صفاته: الغضب، والنبي ﷺ كان يغضب، لكن الغضب الذي يكون في موضعه، يكون بحقٍّ، وللحقِّ، ويكون أيضًا مزمومًا، بحيث لا يصير ذلك مُفضيًا إلى الباطل وارتكاب القبائح، ونحو ذلك.

فليس المقصود أنَّ الإنسان يتبلد بالكُلية، ولا يغضب بحالٍ من الأحوال، مهما يكن، حتى لو انتُهكت محارمُ الله -تبارك وتعالى-، فهذا ليس بمُرادٍ، وإنما المقصود ما يتعاطاه الإنسان، وما يُلاقيه، وما يُكابده، ومَن لم يكن متَّصفًا بالحلم، قد جُبِلَ على الغضب؛ فإنَّه يمكن أن يُعالج هذا بأنواع المعالجات والمجاهدات، بتصبير النَّفس وحبسها، والانصراف عن دواعي الغضب، والاستعاذة من الشَّيطان.

وكما قال النبي ﷺ وأرشد: إذا كان قائمًا فإنَّه يجلس، وإذا كان جالسًا فإنَّه يضطجع[19]؛ من أجل ألا تنطلق رجلاه، وتمتدّ يداه فيبطش، ويصدر منه ما لا يليق.

وكذلك أيضًا يتوضّأ، فإنَّ الغضبَ يُناسبه الماء؛ لأنَّه جمرةٌ يُلقيها الشيطان، فإذا توضّأ خفَّ ذلك عنه.

إذًا يستعيذ، ويتوضّأ، وإذا كان قائمًا جلس، وإذا كان جالسًا اضطجع، يمتثل في هذه الأمور، وإذا كان لا يستطيع أن يملك نفسَه فلينصرف، يذهب إلى مكانٍ آخر قبل أن يتكلم فيندم، فلربما يحصل شجارٌ، وتأتي كلمةٌ من الزوجة، وكلمةٌ منه، كانت الأمورُ في البداية ربما في قضيةٍ تافهةٍ: في تأديب ولدٍ، أو نحو ذلك، فقالت الزوجةُ كلمةً، كأنها تحمي الولد، أو تنتصر له، أو تعيب تصرف الأب أمام الولد، وأمام بقية الأولاد، أو العكس، ولربما يصدر ذلك من الزوج في حقِّ المرأة في قضيةٍ يسيرةٍ؛ فيحصل عند ذلك حضور النَّفس؛ فيغضب، ويتكلّم معها بكلامٍ شديدٍ، ربما يُعنِّفها، ثم بعد ذلك تردّ عليه بكلمةٍ؛ فيزداد غضبُه، ثم يُفضي الأمرُ إلى الطلاق، ولربما كانت هذه هي الطَّلقة الثالثة، فيذهب هنا وهناك يبحث عمَّن يُفتيه، وهذا يقول: أنا لا أُفتي في مسائل الطلاق. وهذا يقول: اذهب إلى فلانٍ. وهذا يقول: اتَّصل بفلانٍ. ونحو ذلك، ليس بحاجةٍ إلى شيءٍ من هذا.

ثم أيضًا ما يُشاهده الإنسانُ في غدوه، ورواحه، في تصرُّفات الناس، وأنواع المزاولات التي تستفزّ النفوس، فإنَّ مثل هذه المزاولات تُنبئ عن أخلاقٍ وتربيةٍ لربما هشَّة، فهؤلاء ربما تجد أنَّهم في الطُّرقات يسيرون بطريقةٍ تستفزّ المارّة، لربما تجد فيهم من الرعونات والأخلاق السَّيئة، ولربما تجد فيهم من العجلة والطيش، مما يُنبئ عن خفّة الأحلام، ونحو هذا، فقد يغضب الإنسانُ، فهذا لربما يخطف من هنا، وهذا يخطف من هنا، والإنسان يقول: "اللهم سلِّم، سلِّم"، ويرى عقولًا كأحلام الطَّير، خفّة مُتناهية في الحركة، والذَّهاب، والمجيء، والعجلة، يعني: تُنبئ عن طبيعة هذا الإنسان: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37].

ففي هذه الحال هل الإنسانُ مطالبٌ أن يُؤدّب هؤلاء جميعًا في الطَّريق، وأن يحمل الناسَ على الجادّة السَّوية، والصِّراط المستقيم؟ فكلما رأى أحدًا من هؤلاء أراد أن يُؤدّبه، وأن يزجره، وأن يعلمه الصَّواب والحقّ في مثل هذه الأمور، فهذا يُلقي أشياء في الشَّارع ولا يُبالي، ويستهتر، وهذا ربما يمشي بطريقةٍ يتأذّى بها الناس، وغير ذلك مما يراه، أو يسمعه.

فلسنا -أيها الأحبة- مُطالبين بمثل هذا؛ فإنَّ ذلك يُفضي بالإنسان إلى مجاراةٍ لأهل السَّفه، ولربما لا يسلم منهم بحالٍ من الأحوال، إذًا ماذا يصنع؟

ينصرف عنهم، ويُعرض، كما قال الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، دعه ينصرف، وينصرف معه شرُّه، وأذاه، وسفهه، وحُمقه، دون أن تقف معه، فإنَّك لن تسلم بحالٍ من الأحوال، ترى رعونات، وترى أشياء عجيبة وغريبة، لربما يرأف الإنسانُ بحال مَن يُعانون مع هؤلاء، ويُلابسونهم صباح مساء، محطّات على الطرق السَّريعة، أو غير ذلك، ترى بعض مَن يدخل ويخرج، تقول: سبحان الخلَّاق العليم! لا إله إلا الله، كيف فاوت بين هؤلاء الخلائق في مثل هذه الصِّفات والأخلاق؟! وكأنَّ البعض قد قطع خلقه من حجرٍ، من صخرٍ، في فظاظةٍ وغلظةٍ، وجفاءٍ في الكلام والمخاطبة مع مَن لم تحصل منه إساءة أصلًا، حينما يتحدّث مع البائع رعونات، أنواع الرّعونات، وأنت تنظر وتقول: اللهم سلِّم، اللهم سلِّم، اللهم حوالينا ولا علينا. تنتظر حتى يمشي فقط قبل أن تتكلم، أو تشتري، أو تطلب ما تحتاج إليه.

فإذا أردتَ أن تحمل هؤلاء الذين يتخافتون في هذه الطُّرق، ويتزارقون هنا وهناك؛ فإنَّك ستلقى عنتًا كبيرًا، فإذًا هذا خطأٌ، فالطَّريق الصَّحيح هو الإعراض والانصراف، وفوق ذلك أن تتعلم الحلمَ على هؤلاء، وأن تجعل هذا ممارسةً ميدانيةً، تتربّى فيها النفسُ على الحلم، هذه الأشياء التي تُشاهدها صباح مساء هي مدرسة تطبيقية، تعليم عملي تطبيقي للحلم، وتذكّر:

ليست الأحلامُ في حال الرِّضا إنما الأحلام في حال الغضب[20]

الأحلام الحقيقية ليست حينما يُحسن الناسُ إليك، ويُوسّعون لك الطريق، الأحلام حينما تُستفزّ، فعند ذلك تكظم الغيظَ، وتُقابل الإساءة بالإحسان، فاعتبر ما تُشاهده أنَّ ذلك من قبيل التَّطبيق، والتربية، والترويض للنَّفس على الحلم.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم (6115).
  2. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُنهى من السَّباب واللَّعن، برقم (6048)، ومسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب فضل مَن يملك نفسَه عند الغضب، وبأي شيءٍ يذهب الغضب، برقم (2610).
  3. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3282).
  4. أخرجه مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب فضل مَن يملك نفسَه عند الغضب، وبأي شيءٍ يذهب الغضب، برقم (2610).
  5. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (22086).
  6. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم (6115).
  7. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما يُقال عند الغضب، برقم (4780)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2490).
  8. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُنهى من السِّباب واللَّعن، برقم (6048).
  9. أخرجه مسلم: كتاب البرِّ والصِّلة والآداب، باب فضل مَن يملك نفسَه عند الغضب، وبأي شيءٍ يذهب الغضب، برقم (2610).
  10. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما يُقال عند الغضب، برقم (4780)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2490).
  11. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُنهى من السِّباب واللعن، برقم (6048).
  12. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُنهى من السِّباب واللعن، برقم (6048).
  13. أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب مَن قال لآخر: يا مُنافق! في تأويلٍ تأوّله، برقم (337/434)، وصححه الألباني.
  14. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم (6114)، ومسلم: كتاب البرِّ والصِّلة والآداب، باب فضل مَن يملك نفسَه عند الغضب، وبأي شيءٍ يذهب الغضب، برقم (2609).
  15. انظر: "البغال" للجاحظ (ص105).
  16. انظر: "درء تعارض العقل والنَّقل" لابن تيمية (3/312).
  17. أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، برقم (2663)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2326).
  18. انظر: "الرسائل الأدبية" للجاحظ (ص384).
  19. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما يُقال عند الغضب، برقم (4782)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (5114).
  20. انظر: "الرسائل الأدبية" للجاحظ (ص384).

مواد ذات صلة