الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا "باب استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن، والحث عليه، سواء كان تهجد بالليل أم لا" الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، يعني: بعد السنة الراتبة، على جنبه الأيمن؛ لأن النبي ﷺ قد فعله، فكان ذلك من هديه -عليه الصلاة والسلام-.
وقد ذكر بعض أهل العلم، كابن القيم -رحمه الله- في ذلك من الحكم: "إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن، ألا يستغرق النائم في نومه؛ لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر؛ وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه، بخلاف قراره في النوم على اليسار، فإنه مستقره، فيحصل بذلك الدعة التامة، فيستغرق الإنسان في نومه، ويستثقل، فيفوته مصالح دينه ودنياه"[1].
وأهل العلم قالوا: إن لم يستطع ذلك لمانع، من علة فيه، أو نحو ذلك؛ فإنه يضطجع على شقه الآخر، أو على ظهره.
وذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن"[2]، رواه البخاري.
وكان ﷺ يفعل ذلك في بيته، وهنا لم تذكر عائشة -رضي الله عنها- القيام؛ ولهذا قال المصنف -رحمه الله- في ترجمة هذا الباب: "سواء كان تهجد بالليل أم لا" لأن من أهل العلم من يقول: إن ذلك للاسترواح من طول قيام الليل، فإنه يحتاج إن يستريح بعد هذا القيام.
فالمؤلف -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم يرون أن ذلك لا تعلق له بالقيام؛ ولهذا ذهب طوائف من أهل العلم إلى أن ذلك للفصل بين الفريضة والنافلة؛ ولهذا لما ذكر أبو هريرة الحديث في الاضطجاع قال له مروان بن الحكم، وكان أميرًا على المدينة: "أما يجزئ أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع عن يمينه؟"[3]، يعني: أنه يصلي السنة الراتبة في بيته، ثم يمشي إلى المسجد، فيكون قد فصل بين الراتبة وبين الفريضة بالمشي؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود هو الفصل، وقالوا: ويحصل الفصل بالمشي، ولكن هذا فيه نظر -والله تعالى أعلم-؛ وذلك أن النبي ﷺ كان يصلي الراتبة في بيته، ثم يمشي، وبيته كما هو معلوم ملاصق للمسجد، لكنه يمشي من بيته إلى المكان الذي يصلي فيه من المسجد، فهذا المشي يكون فاصلاً، ولو كانت للفصل بين الراتبة والفريضة لكفاه المشي، والله تعالى أعلم.
ثم من أهل العلم من يقول: إنه لو فصل بكلام، أو نحو ذلك لكفاه، ولو لم يمش، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه ليس المقصود الفصل؛ لأنه ما الفرق بين جلوسه واضطجاعه؟ فإن هذا الاضطجاع أصلاً لا نوم فيه، إنما هو اضطجاع، فما الفرق المؤثر في الصلاة بين اضطجاع أو جلوس أو قيام؟!
وذكر حديثًا آخر لعائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة"[4]، والنبي ﷺ يقول: صلاة الليل مثنى مثنى[5]، فهذا هديه الغالب -عليه الصلاة والسلام-، وهو الأفضل.
وقد ورد عنه صفات أخرى حيث لا يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة؛ لأن النبي ﷺ قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا[6]، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن ليعلمه بالصلاة من أجل الإقامة.
وقوله هنا: "وجاءه المؤذن" هذه أشبه ما تكون بالصفة الكاشفة؛ لأنه لم يكن يؤذن الأذان الثاني في عهد رسول الله ﷺ إلا بعد طلوع الفجر، وتبين له الفجر، لكن كما ذكرتُ في مناسبة سابقة: أنه في مثل هذه الأيام ينبغي أن لا تكون العبرة بالأذان بمجرده، وإنما بطلوع الفجر؛ لأنه قد يتقدم الأذان على الوقت.
تقول: "قام فركع ركعتين" لاحظ جاءه المؤذن، يعني: من أجل الإقامة "قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، هكذا حتى يأتيه المؤذن للإقامة"[7]، رواه مسلم.
وقد مضى في حديث آخر: أن النبي ﷺ في صفة تخفيفها كأن الأذان في أذنه، يعني: كأنه يسمع الإقامة من أجل أن يصلي الفجر بغلس، لا يؤخر إلى الإسفار.
وقولها: "يسلم بين كل ركعتين" هكذا هو في مسلم، ومعناه: بعد كل ركعتين.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجع على يمينه[8]، رواه أبو داود، والترمذي، بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجع على يمينه وهذا أمر؛ ولهذا فهم منه بعض أهل العلم الوجوب، وأنه يجب على الإنسان أن يضطجع بين الراتبة والفريضة، وهذا قول قال به بعض الظاهرية، بل ذهب بعضهم إلى أنه لا تصح الصلاة إلا بهذا، وهذا في غاية البعد، بل هو قول شاذ، والراجح: أن ذلك ليس للوجوب، بل قد جاء عن ابن عمر، وإبراهيم النخعي، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وجابر بن زيد: أنهم أنكروا الضجعة بعد ركعتي الفجر، وقال ابن عمر: إنها بدعة[9]، وكانوا يضعفون هذا الحديث.
وكان ابن عمر يحصب بالحجارة الصغيرة من يضطجع في المسجد[10]، ولكن ذلك على كل حال ثابت عن رسول الله ﷺ أعني الاضطجاع، ولكن هل يكون في المسجد؟
من أهل العلم من قال: إنه يكون في بيته، ولا يضطجع في المسجد، وبعضهم من قال به مطلقًا، يعني: يضطجع في المسجد، أو في البيت إذا صلى الراتبة اضطجع بعدها.
ومنهم من يرى أن ذلك ليس من العمل المشروع، وأن النبي ﷺ لم يكن يفعل ذلك على سبيل التعبد، وإنما كان لربما يفعل ذلك ليستريح من قيام الليل فقط، وأن الأمة غير مطالبة بذلك.
وابن عمر كان من أكثر الصحابة اتباعًا لسنة رسول الله ﷺ، ومع ذلك كان ينكره، ولو أن الإنسان إذا صلى السنة الراتبة في بيته اضطجع بعدها، ثم جاء إلى المسجد، فيكون بذلك قد وافق هدي النبي ﷺ، وما كان -عليه الصلاة والسلام- يفعله في المسجد، إنما كان يفعله في بيته، فمن صلاها في البيت اضطجع، ومن صلاها في المسجد لم يضطجع، وليس ذلك بواجب على كل حال، وإنما هو اقتداء بهديه ﷺ.
وهذا الحديث -كما سبق- من أهل العلم من ضعفه، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعله، فقال: "هذا باطل، وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد، وغلط فيه"[11]، والنووي كما رأيتم صححه؛ لأنه قال: رواه أبو دواد والترمذي، بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- أيضًا يصحح هذا الحديث.
ففيه أمر، فدل على أن ذلك ليس لقيام الليل، والاستراحة منه، وأن ذلك ليس من أمور العادات، بل أن هذا أمر مشروع.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- الطب النبوي لابن القيم (ص:182).
- أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر برقم (1160).
- شرح أبي داود للعيني (5/149).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة برقم (736).
- أخرجه البخاري في أبواب الوتر، باب ما جاء في الوتر برقم (990) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل برقم (749).
- أخرجه البخاري في أبواب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وترا برقم (998) مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل برقم (751).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل، وعدد ركعات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة برقم (736).
- أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، باب الاضطجاع بعدها برقم (1261) والترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر برقم (420) وصححه الألباني.
- الاستذكار (2/97).
- فتح الباري لابن حجر (3/44).
- المستدرك على مجموع الفتاوى (3/111).