الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما جاء عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا [1] متفق عليه.
ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله: ما من عبد يشمل الحر والمملوك، والكبير والصغير، والرجل والمرأة يصوم يومًا في سبيل الله قوله: في سبيل الله -كما سبق- أن هذا الإطلاق إذا جاء في الكتاب والسنة فغالبًا ما يراد به الجهاد، وهل هو مراد هنا؟
من أهل العلم من قال: نعم، إن قوله ﷺ: من صام يومًا في سبيل الله المقصود: صام في الجهاد، وهذه هي مناسبة إيراد المصنف -رحمه الله- هذا الحديث في باب فضل الجهاد، من صام يومًا في سبيل الله يعني في الجهاد، ومن أهل العلم من يقول: إن قوله هنا: في سبيل الله يعني أنه يريد ما عند الله بهذا الصيام، يبتغي الأجر والثواب، لا يريد من جراء ذلك رياء ولا سمعة، ولا مطلبًا من المطالب الدنيوية، كالذي يصوم من أجل أن يصح مثلاً حمية، وما شابه.
والحديث يحتمل هذا وهذا، وفضل الله -تبارك وتعالى- واسع، فيرجى لمن صام يومًا يحتسبه عند الله -تبارك وتعالى- سواء كان في الجهاد، أو في غير الجهاد أن يحصل له هذا الفضل، وما وعد به النبي ﷺ في قوله: إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا [2] سبعين خريفًا يعني سبعين سنة، والعرب تعبر بالخريف -كما سبق في بعض المناسبات بالتعليق على هذا الكتاب، وغيره- تعبر بالخريف عن العام، خلاف ما يقوله الناس اليوم غالبًا، يقولون: فلان يبلغ من العمر سبعين ربيعًا مثلاً، أو عشرين ربيعًا، أو سبعة عشر ربيعًا، فهذا ليس على معهود العرب، ولكن هؤلاء كأنهم قالوه من أجل أنهم نظروا إلى الربيع باعتبار أن الأرض تكسوها حلة خضراء، وتخرج فيه الأزهار، وما أشبه ذلك، فذلك بهرج، تزدان به الأرض، ولكن الناس لا يحصل لهم به الانتفاع المباشر، تراعاه الدواب، ثم يستفيدون بواسطته من هذه الدواب من ألبانها، ونحو ذلك، ولكن الذي يحصل به النفع المباشر هو الخريف، فبه تزدان الثمار، ويحصل النضج، فتكثر، ويحصل للناس بذلك سعة، ويتمتعون بها، فيكون وقت جناها، هذا الخريف، فهو أحسن، وأنفع للناس من الربيع، ولهذا فإن العرب تعبر بذلك سبعين خريفًا يعني: سبعين سنة.
ثم أورد حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: من صام يوما في سبيل الله؛ جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض [3] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض الخندق: هو الحفير في الأرض -كما هو معروف- كان ذلك يتخذ من أجل حماية الحصون، فيحفر حولها قبالة العدو، فلا يصل إليها أحد، أو غير ذلك مما كان يصنعه الناس آنذاك، فهنا خندق بين الإنسان وبين النار، يعني أنها بعيدة عنها، وبينه وبينها عقبة، وهذه العقبة هي الخندق، عقبة واسعة جدًا لا يمكن أن نتصور هذه السعة كما بين السماء والأرض، فهذا شيء لا يمكن للمخلوق أن يتصوره، صوم يوم واحد في سبيل الله.
ولهذا فإن المؤمن حينما يسمع مثل هذه الأحاديث، يقبل على هذه العبادة، ويصبر على قليل من العطش، أو الجوع، لا يتضرر به من أجل أن يحصل مثل هذه الأجور والمراتب والمنازل العالية، والدنيا دار هي معبر، ومتعها ولذاتها متقضية زائلة، وهذه هي مدخرات الأعمال الحقيقية، التي يصل بها الواصلون إلى الله تبارك وتعالى.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو؛ مات على شعبة من النفاق[4] رواه مسلم.
من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، لم يغز: الغزو في وقت من الأوقات كان واجبًا، ثم بعد ذلك نسخ، وقال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً والنبي ﷺ هنا يقول: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو؛ مات على شعبة يعني على خصلة من النفاق بمعنى أنه إن لم يفعل ذلك، ولم تحدثه نفسه به أصلاً، فهذا يدل على تبلد في الحس، وهمود الهمة في نصرة دين الله -تبارك وتعالى- من هذا الوجه.
وذكر حديث جابر أيضًا قال: كنا مع النبي ﷺ في غزاة، فقال: إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم، واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض[5] وفي رواية: حبسهم العذر[6] وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر[7] رواه البخاري من رواية أنس، ورواه مسلم من رواية جابر، واللفظ له.
قوله كنا مع النبي ﷺ في غزاة، هذه الغزاة جاء ما يوضحها في روايات أخرى أنها غزوة تبوك، فقال: إن في المدينة لرجالاً، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض بمعنى أن المكلف إذا نوى العمل الصالح، ثم حيل بينه وبين ذلك لم يتمكن منه، ولم يصل إليه لعائق، وعذر نزل به، فإنه يبلغ أجور العاملين، وهذا من فضل الله على عباده المؤمنين أن يوفي لهم الأجور، وقد أخذ من هذا أهل العلم أن المؤمن ينبغي دائمًا أن ينوي الخير، ويقصده، فهو في أجرٍ دائمٍ مستمر، إن حصل له ذلك وفعله وزاوله فقد حصل بغيته، فإن عجز عنه، وحيل بينه وبينه، ويكون قد نواه؛ فكتب له ما نوى، هذه إحدى الحالات، كما أن من الحالات التي يبلغ فيها أجر العاملين ولم يعمل، أنه يكون من العاملين ثم يحول بينه وهذا العمل عائق، يمرض مثلاً.
ابن مسعود مرض وبكى، فلما سئل؛ ذكر إنه إنما بكى من أجل أن المرض أصابه في وقت، في زمن فترة[8] يعني فتور يعني لم يكن في حال من النشاط في العمل الصالح، فلو كان في حال من النشاط؛ تجري له أجوره وأعماله التي كان يعملها، يعني إنسان مرض أو سافر لمدة شهر أو أكثر، وكان من عادته أنه يصوم الاثنين والخميس مثلاً، فلم يصم بسبب المرض، ونحوه؛ يكتب له صيام الاثنين والخميس، لكن ذلك لا يكتب لآخرين من المرضى، والأصحاء الذين ما كانوا يصومونه، إنسان يجري له عمله، وهنا هؤلاء حبسهم العذر.
وقد ذكر النبي ﷺ أن الناس أربعة أيضًا: الرجل الذي آتاه الله علمًا، وآتاه مالاً، فهو ينفق هذا المال في وجوه الخير والبر والعمل الصالح، ويتقرب به إلى الله، فهذا في أعلى المنازل وآخر آتاه الله علمًا، ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أني لي مثل ما لفلان لعملت كما عمل، فهما في الأجر سواء انظروا مع أنه ما عنده أموال، ولا أنفق هذه المليارات، ولا أقام هذه الأوقاف الضخمة، لكن يقول: لو كنت مثله؛ لعملت كما عمل فهما في الأجر سواء، وآخر آتاه الله مالاً، ولم يؤته علمًا، فهو ينفقه في معصية الله وآخر لم يؤته الله -نسأل الله العافية- لا علم ولا مال، فهو يقول: لو كان لي مثل ما لفلان؛ لعملت كما عمل يعني في المعصية فهما في الوزر سواء[9] وذلك أن العزم المصمم ينزل منزلة الفعل.
ولهذا قال النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل، فما بال المقتول؟ يعني ما صدر منه؟ قُتل جناية، فقال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[10] يعني لو تمكن؛ قَتل، فنزل منزلة الفعل، ولذلك فإن الكفار لربما يمكث الواحد منهم في كفره سبعين سنة، ويخلد في النار، لا يقال: مليارات السنين، بل أبد الآبدين -نسأل الله العافية- والسبب أنه عازم على الكفر ما بقي، فهذا العزم ينزل منزلة الفعل، بل كما قال الله : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ فعزمه هذه مستمر، متواصل، فيؤاخذ بذلك، بالإضافة إلى أنه في باب الأعمال الصالحة من هم بحسنة، فلم يعملها؛ كتبت له حسنة[11].
فهنا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا كما قال الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فالشاهد: أن هذه تكتب للمجاهدين، ويكتب أيضًا لمن نوى ذلك وحيل بينه، سواء كان بسبب المرض -كما في هذا الحديث-: إلا كانوا معكم، حبسهم المرض أو الرواية الأخرى، العذر، والعذر هنا قد لا يكون المرض، قد يكون العجز، كما كان في غزوة تبوك يأتون النبي ﷺ يريدون الجهاد معه، ولا يجدون ما ينفقون، ولا ما يركبون، فيقول لهم النبي ﷺ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ قال الله تعالى في عذر هؤلاء: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فمثل هؤلاء يبلغون، ويكون لهم كأجر العاملين.
وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر[12] فالإنسان أيها الأحبة ينوي دائمًا الخير، ويعزم عليه، فإن تمكن فالحمد لله، وإن حيل بينه وبين ذلك؛ فإنه يؤجر، فيكون دائما في عمل صالح، وقد تكلم الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- على هذا المعنى في بعض كتبه بكلام جيد حسن، يحسن مراجعته [13].
أكتفي بهذا هذه الليلة، وأسأل الله أن يفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه، بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم (1153).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه، بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم (1153).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الصوم في سبيل الله، برقم (1624)، وصححه الألباني في الجامع الصحيح، برقم (6333).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، برقم (1910).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، برقم (1911).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، برقم (4423).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، برقم (1911).
- انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للهروي (3/1151).
- أخرجه أحمد في مسنده برقم (18024)، وقال محققه: حديث حسن.
- أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة: 32]، برقم (6875).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، برقم (130).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، برقم (1911).
- انظر: تفسير السعدي (347).